دار الحكومة ( الحميدية )

 

 

 " وعندما أرخ لمكة أهلوها لم تكن نظرتهم اجتماعية بقدر ماكانت دينية, لهذا ظفرت الآثار والمشاعر وأسماء الجبال المفضلة بما لم تظفر به ناحية أخرى من نواحي التاريخ..... أما نواحينا العمرانية والاجتماعية والعلمية والأدبية والفنية فتلك بحوث لا نجد لها ترتيبًا يصح اعتماده والأخذ به, لأن الوعي الذي ذكرت كان لا يأبه بتبويبه أو تنظيمه "

الأستاذ أحمد السباعي في مقدمة كتابه " تأريخ مكة "


لم تُعنى كتب التاريخ المكي, خصوصًا المتأخرة منها, بالجوانب الحضرية والعمرانية في مهبط الوحي , ومايعنينا في هذا المقام عملية توثيق المعالم العمرانية وتوصيفها كما هو الحال في كتب التاريخ التي عنيت بالمدن العتيقة.

ذلك أن مؤرخي مكة المكرمة درجوا على العناية بالجوانب الدينية والروحية بالمقام الأول.

حتى في توصيفهم للمعالم العمرانية , كانت المشاهد المقدسة وبخاصة الموالد والمواضع المأثورة, تأخذ الحيز الأكبر , ولعله الأوحد في بعض المؤلفات, فتجد التبويبات التي تعنى بالأماكن التي يستحب عندها الدعاء أو المواضع النبوية التي كانت لها أدوار في السيرة إبان العهد المكي قبل الهجرة ثم بعد الفتح الأكبر كموضع مولد النبي صلى الله عليه وسلم وبيت السيدة خديجة رضي الله عنها.

وعليه كان هناك فراغًا ملحوظًا في كتب التأريخ المكي فيما يخص الجانب العمراني من قصور ومبان عامة ومرافق مدنية.

المشير عثمان نوري باشا

ولعل من أكثر الفترات التي شهدت تطورًا عمرانيًا في مكة المكرمة خلال العهد العثماني المتأخر هي فترة ولاية والي الحجاز العثماني المشير عثمان نوري باشا وخصوصًا ولايته الأولى المشتعلة بالأحداث السياسية وبخاصة الصدام بينه وبين أمير مكة الأشهر والأكثر جدلًا الشريف عون الرفيق.

لا نعرف الكثير عن سيرة المشير عثمان نوري باشا في الفترة التي سبقت ولايته على الحجاز ولكن الدكتور سهيل صابان يوجز لنا ترجمة يسيرة له:

عثمان نوري باشا : (1256-1316هـ/1840-1898م) ابن قائد البحرية أحمد شكري بك. تخرج بالمدرسة الحربية عام (1279هـ/1862م) برتبة أركان حرب.

عين قائدا للحجار برتبة فريق عام (1297هـ/1880م) ثم واليا على ولاية الحجاز وشيخا للحرم (1299هـ/1882م) وبقي في هذا المنصب حتى عام (1303هـ/1886م) منح رتبة المشيرية عام (1303هـ/1886م) تقديرا للخدمات التي قدمها, وعزل في السنة ذاتها.

 

 ثم نقــﻞ إلى ﺣﻠــﺐ  وﺑﻌــﺪﻫﺎ  ﺑــﺴﻨﺔ الى اﻟــﻴﻤﻦ واﻟﻴــﺎ ، ﻛﻤــﺎ ﻋـين ﻣــﺮتين ﻟﻮﻻﻳــﺔ ﺳــﻮرﻳﺎ وأﻋﻴــﺪ ﺗﻌﻴﻴﻨــﻪ ﻟﻮﻻﻳــﺔ الحجـﺎز ﻋــﺎم ( ﻫـــ 1310 / ١٨٩٢م) ولم يمكث ﻓﻴــﻪ ﻛﺜــيرا، ﺣﻴــﺚ ﻋــﺰل ﻣــﻦ ﻣﻨــﺼﺒﻪ، وﻋــين ﺑــﺪﻻ ﻣﻨــﻪ أحمــﺪ راﺗــﺐ ﺑﺎﺷــﺎ ﻓﻌــﺎش في إﺳــﺘﺎﻧﺒﻮل ﺣتى  وﻓﺎﺗﻪ " 

قدم الوالي عثمان نوري إلى الحجاز كرجل عسكري ( قومندان العساكر الشاهانية) تسبقه شهرته بالحزم والجرأة في فترة عم فيها الإضطراب حيث كان الصدام سيد الموقف بين الولاة العثمانيون وأمير مكة حينها الشريف عبدالمطلب, فما كان من الباب العالي إلا الإستجابة لشكاوى الأمير ( كما سيحدث لاحقًا في عزل عثمان نوري باشا بعد شكوى تقدم بها الشريف عون بمعونة عدد من العلماء والأعيان)

فتداول ولاية مكة ثلاث ولاة في مدة يسيرة وهم محمد ناشد باشا وقد تولى الولاية سنة ثم تبعه محمد صفوت باشا واستمر لذات الفترة وتبعه أحمد عزت باشا مع حلول عام 1298هـ.

بيد أن الولاة الثلاثة قد فشلوا في تسوية شؤون ولاية الحجاز كما أراد لها الباب العالي أن تكون, فكان قدوم الوالي الجديد المشير عثمان نوري باشا وتقلده ولاية الحجاز ومشيخة الحرم في ﻋـــﺎم ١٢٩٩ﻫـ /١٨٨٢م وهو ذات العام الذي عين فيه الشريف عون الرفيق على إمارة مكة بعد أن أتى الفرمان من الباب العالي بعزل الأمير السابق الشريف عبالمطلب ثم حصار المشير عثمان نوري له في مصيفه المعتاد في المثناة بالطائف.

ومبعث هذه الفتنة وما أدى إلى هذه المآلات, كما نقل الشيخ أحمد زيني دحلان في خلاصة الكلام , أن الشريف عبدالمطلب تقلد إمارته الأخيرة بعد أن تقدمت به السن, ولذا فقد زمام الأمور وتغلب بعض رجال حاشيته على الشأن العام واستبدوا بالأمر حتى كثرت القلاقل. فكان ما كان من صدام فيما بينه وبين الولاة الثلاثة المذكورين آنفًا.

يصف لنا محمد عمر رفيع في كتابه " مكّة في القرن الرابع عشر الهجري"  حال الحكومة العثمانية في مكة أثناء تولي عثمان نوري باشا لولاية الحجاز:

"هذا الوالي كان من أنبل الولاة الذين عرفتهم مكة وأحزمهم, ومن محبي الإصلاح, فقد ولي مكة وكان حال الحكومة العثمانية فيها كعابر سبيل. فمقر الحكومة دار بالأجرة, ومقر الحامية من الجند الدار الكبيرة التي كانت بجياد, والمشهورة بخرابة جياد من مخلفات الشريف غالب وبالأجرة أيضًا. وليس في البلاد مرفق من المرافق العامة " .

وكان من جملة أعمال الوالي عثمان نوري باشا في مكة المكرمة مبنى المطبعة وكانت تقع خلف الحميدية وبها صدرت سالنامة الحجاز باللغة العثمانية وكانت تصدر كل عام , وقشلة للجند في أجياد والتي أصبحت فيما بعد مقرًا لوزارة المالية , وعلى مسافة ليست بالبعيدة من المطبعة انشأ هذا الوالي دائرة الصحة والتي كانت نواة النظام الصحي لمكة في العقود التي تلتها.

وأقام كذلك مبنى البريد والتلغراف بباب الوداع في موضع وهبه لهذا الغرض الشريف حسين بن علي.

كما كانت له الريادة في تنظيم عمل الشرطة في العاصمة المقدسة ببناء كركون الصفا (قره قول) في 1883م على ملتقى المسعى مع الشارع العام القادم من أسفل مكة , ومن أعماله أيضًا مستشفى منى وبازان الخيف.

مشروع الحميدية

وعطفًا على الحالة المزرية التي وصلت لها المباني العامة في مكة فقد كان من أولى وأهم أعمال الوالي عثمان نوري باشا في مكة هي إنشاء دار الحكومة (الحميدية) نسبة للسلطان عبدالحميد الذي انشئت في عهده.

كان الغرض الأكبر من إنشاء هذا المبنى ليكون مقرًا لوالي الحجاز وموظفيه الأتراك, وأختير الموقع المثالي له والذي لطالما كان يفضله العثمانيون الأتراك إبان فترة حكمهم المتأخرة في مكة وهي حارة أجياد جنوبي المسجد الحرام في فوهة أجياد الكبير وفي موضع منازل بنو مخزوم في الجاهلية.

كانت أجياد في تلك الفترة ولعقود خلت بمثابة عاصمة لأم القرى بين حاراتها, فقد ضمت العديد من المرافق العامة مثل المالية, البلدية, الأمن العام , مستشفى أجياد, الثكنة العسكرية, المرستان , التكية المصرية والمطبعة.

هذا بالإضافة لما كان يضمه الحي من بيوت كبار موظفي الحكومة وأمراء مكة من الأشراف.

فما كان من المشير عثمان نوري باشا إلا أن شمّر عن ساعد العمل وشيد مبنى الحميدية في 1885م .

وبحسب تفاصيل المشروع في إحدى إصدارات ألبوم يلدز فقد كانت تكلفة بناء الحميدية عالية جدًا, تصل إلى مليون قرش (kuruş) ذلك أن ماساهم في تلك التكلفة المرتفعة أن القائمين على المشروع وجدوا صعوبات جمة في نقل المواد الخام من خارج الحجاز بالإضافة إلى تكاليف استقدام عمالة تركية متخصصة لهذا الغرض.

وبالنظر للنمط المعماري للحميدية يظهر أن الوالي عثمان نوري ارتأى المبادرة إلى تجديد العمارة المكية السائدة في تلك الفترى وهذا ما نراه في التصميم الأوروبي النيو كلاسيكي للحميدية والذي تبناه العثمانيون الأتراك في مدن الولاية وخصوصًا في عمارة القصور والمبان الحكومية في ذلك العصر مثل قصر دولمة بهجة الشهير على ساحل مضيق البسفور في إستانبول.

 

وفي خلاصة الكلام  " ومما بني في هذه المدة الدار عظيمة الشأن الضخيمة البنيان التي بنوها للحكومة وسموها : الحميدية، نُسبت لمولانا السلطان عبدالحميد الثاني، وهي تجاه المسجد الحرام قرب باب الوداع ، وصارت نزهة للناظرين، وهذا باجتهاد الوزير السيد عثمان نوري باشا المشار إليه.

وصفة هذه الدار : أن لها بابين، باباً شامياً مقابلاً للمسجد الحرام، وباباً يمانياً مقابلاً لشعب جياد، ثم بعد بناء دار الحكومة نظروا إلى ما يقابلها من جهة المسجد فإذا هناك دارٌ شامخة تحول بين دار الحكومة والمسجد، وتمنع من كان في دار الحكومة من رؤية الكعبة المعظمة، وبحثوا عن تلك الدار فوجدوها وضعت بغير حق؛ لأن أسفلها كان زاوية مأثورة فيها مسجد يقصد للزيارة والصلاة فيه ؛ لأنه موضع دار أم هانئ ، شقيقة سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فتعدي عليها وبني فوق الدار المذكورة، ولما تحقق هذا أخذها الوزير المفخم عثمان نوري باشا والي ولاية الحجاز وأرضى أهلها، ثم هدمها وأرجع الزاوية كما كانت " .

وينقل  لنا أمير الحج المصري  إبراهيم  رفعت  باشا في  كتابه  مرآة الحرمين ما كُتب على الجانب الشرقي من الحميدية :

دار حَوَت لسعد سلطاننا    ...  عبدالحميد كل حسن وطيب
أشادها بحي أم القرى      ...  عثمان والينا بشكل عجيب
بشرى لنا قد جاء تاريخها ...   نصر من الله وفتح قريب

 

 

 الحميدية في العهد السعودي

أما في العهد السعودي فقد أصبح مبنى الحميدية, بحسب محمد علي مغربي, مجمعًا للدوائر الحكومية, في الدور العلوي منه مجلس الشورى, وفي الدور الأرضي منه إدارة الأمن العام , والمحكمة المستعجلة, وكتابة العدل , وغيرها من دوائر الحكومة , وكان من أجمل المباني منظرًا, وأحسنها عمارة.

وما تجدر الإشارة إليه هو أن هذا المبنى قد احتضن أول مجلس للشورى في العهد السعودي حيث أمر الملك عبدالعزيز آل سعود بتشكيل مجلس كان يسمى بداية “المجلس الأهلي الشوري” وكان يرأسه الشيخ عبدالقادر بن علي الشيبي والذي كان عضوًا في مجلس الشيوخ الأعلى في عهد الشريف حسين.

عقد أول اجتماع للمجلس في يوم السبت 01/06/1343هـ بغرفة أعدت له في الدور العلوي بالحميدية, وكان الأعضاء المنتخبين عن حارات مكة هم : سادن البيت عبدالقادر الشيبي، ومحمد بن يحيى بن عقيل، وعقيل سقاف، وعرابي سجيني، وبكر بابصيل، وعباس مالكي، وأمين عاصم، ومحمد نور فطاني، وعبدالله الدهلوي، وسليمان نائب الحرم، وتاج قطب، ومحمد نور ملائكة، وعمر جان، وعمر علوي.

 

ساعة الحميدية

وفي 1352هـ أمر الملك عبدالعزيز آل سعود وزير ماليته الشيخ عبدالله السليمان بوضع ساعة ضخمة ترى من بعيد ويسمع دقاتها كل من في المسجد الحرام فعهد الشيخ السليمان إلى الشيخ عباس قطان أمين العاصمة المقدسة بوضع الساعة فوق مبنى الحميدية وكان ارتفاعها حوالي خمسة عشر مترًا عن سطح دار الحكومة

وقد هدم مبنى الحميدية لصالح مشروع التوسعة السعودية الأولى في عهد الملك عبدالعزيز عام 1957م/1377هـ.

 

المصادر : 

1. تاريخ مكة – أحمد السباعي
2. مداخل بعض أعلام الجزيرة العربية في الأرشيف العثماني –د. سهيل صابان
3. تاج تواريخ البشر – أحمد محمد الحضراوي, نقلًا عن أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة – محمد علي مغربي
4. خلاصه الكلام في بيان امراء البلدالحرام  – أحمد زيني دحلان
5. حكام مكة – جيرالد دي غوري – ترجمة رزق الله بطرس
6. مكة في القرن الرابع عشر الهجري – محمد عمر رفيع
7. حارة أجياد –د. زكريا بن يحيى لال
8.أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة - محمد علي مغربي
9. تاريخ عمارة المسجد الحرام – حسين عبدالله باسلامة
10. التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم – محمد طاهر الكردي
11. أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار –أبو الوليد الأزرقي
12. صفحات من تاريخ مكة المكرمة – سنوك هرخرونيه – ترجمة علي عودة الشيوخ – أعاد صياغته وعلق عليه د. معراج مرزا ود. محمد محمود السرياني
13. إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام – عبدالله الغازي المكي
14.The Yildiz Albums of Sultan Abdulhamid II, Mecca - Medina

موضوع خاص بموقع قبلة الدنيا من اعداد : د.سلطان الطس معالجة الصور :موقع قبلة الدنيا / نشر في 1436/1/4هـ