الحديبية.. عودة الروح الى المكان والمكانة ( 1/ 6 )


شهدت منطقة الحديبية خلال الأعوام القليلة الماضية تغيرات تهدد أمكنة مناخ الصلح النبوي فيها كبئر الحديبية ومسجد الشجرة القديم، ومواقع إسلامية ثابتة كعلامات حدّ حرم مكة الغربي، وآثار تاريخية كقلعة الحديبية، ومعالم وطنية «أسبلة الملك المؤسس رحمه الله لسقيا الحجيج» تستدعي الكشف عنها، وإعادة تخطيط المنطقة واستخدامها كما هو مقرر سابقا كمشروع تنموي وثقافي وحضاري عالمي أعلن عنه ووضع لبناته الأولى أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل منذ 2009.

في الشهور الماضية تردد مرارا اسم «الحديبية»، هذه الضاحية الهادئة المعروفة الآن بمنطقة «الشميسي» على مسرح الأخبار، خاصة بعد إقرار مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز للعناية بالتراث الحضاري نهاية العام المنصرم، والذي خصّها بالتحديد ضمن مواقع المناطق الإسلامية ذات الأولوية بالعناية على مستوى السعودية.

إلى جانب تجدد الحديث عن إنعاش ملف مشاريع تطوير سكنية وتنمية مستدامة ضخمة ستشهدها المنطقة التي تبعد نحو 22 كلم فقط من العاصمة المقدسة، بشكل كامل خلال السنوات القليلة المقبلة، لتصبح رئة حقيقية يتنفس عبرها أهالي مكة وفي مواقع أصلية وحقيقية.

وفي ست حلقات تحاول «مكة» تسليط بعض الضوء على «الحديبية» باعتبارها أحد أهم المواقع النبوية في مهبط الوحي ومسرح بدايات تاريخ الإسلام والتي أنزلت فيها سورة «الفتح» كبشارة للنبي صلى الله عليه وسلم ونحو 1400 من أصحابه الذين وصفهم الله عزّ وجل بأهل الرضا والرضوان والذين يعدون أفضل المسلمين درجة بعد أهل بدر الذين شاركوا أول غزوة في الإسلام تحت راية النبي.

عودة الحياة
بحثت «مكة» عن الخرائط والصور القديمة للمنطقة ومقارنتها بواقعها الحالي سواء من المجموعات الخاصة للأكاديميين المتخصصين، أو السجلات القديمة لبعض الجهات الحكومية، وفتح باب التساؤلات عن أسباب تغير موقع مسجد شجرة الرضوان القديم وبنائه وهدمه أكثر من مرّة، والبحث عن موقعه ومحاولة تحديد مكانه المندثر، إلى جانب فهم ظروف بناء مسجد (الشميسي) القائم حاليا على ناصية طريق جدة مكة القديم، ومحاولة الوقوف على الأطلال القديمة القائمة إلى اليوم خلف جداره الجنوبي، وعلاقتها ببقايا آثار القلعة القديمة في أعلى الجبل الذي يشرف على كامل وادي الحديبية بهذه المواقع التي كانت تاريخيا طريقا قديما يسلكه الحجاج والمعتمرون إلى مكة المكرمة.

مبادرة «معاد» المكية


خلال الشهور الماضية، تابعت «مكة» جهودا تقودها «معاد» لتعزيز الهويّة المكيّة والعناية بالمعالم التاريخية لمشروع تحسين وتوسعة خدمات مسجد الحديبية (الشميسي) القائم حاليا على طريق جدة ـ مكة القديم أسوة بمشاريعها السابقة التي شملت مكتبة مكة المكرمة (موقع المولد النبوي) في حي شعب عامر، وبئر طوى في حي جرول، ومرقد أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث بحي النوارية، وغيرها بتشجيع وتنسيق مع الجهات الرسمية.

وفي مطلع شهر نوفمبر 2014 الماضي تلقى رئيس المبادرة فايز جمال اتصالا هاتفيا من مسؤول في هيئة السياحة والآثار يبلغه عن تنسيق مشترك بين الهيئة ووزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف في مشروع جديد لتوسعة وتجديد بناء مسجد الحديبية (الشميسي) الحالي. وطلب إليه في إطار التنسيق المستمر مع هيئة السياحة، مساهمة «معاد» بتقديم مقترحات وأفكار للنظر فيها عند تنفيذ التصاميم والمخططات الجديدة لتوسعة المسجد.

مسجد الحديبية وأطلال مبنى قديم جنوبه

وبالفعل عقدت مبادرة معاد (مساء اليوم التاسع من نوفمبر 2014) اجتماعا خاصا في مكتب عضو المبادرة أنس صيرفي بمكتب الأبنية للاستشارات الهندسية في جدة لمناقشة مستجدات الموضوع بعد أن كانت «معاد» قد فرغت قبل أشهر من وضع تصاميم أولية لتحسين شكل بناء المسجد القائم، والاستفادة من بعض المباني المهملة شمالا، بالإضافة إلى ترميم الأطلال القديمة القائمة في الجهة الجنوبية منه ودمجها معا لتوسعة بناء المسجد بعد تطعيم واجهاته الخارجية بهوية معمارية مكيّة، لتطرح رؤى جديدة لمعالجة أوسع تشمل العناية بمنطقة المناخ النبوي كلها ضمن المشروع.

البحث عن الحقيقة
استمر الاجتماع زهاء الساعتين، طرحت فيه آراء ومقترحات عديدة، من بينها ما طرحه عضو المبادرة المستشار جمال شقدار الذي اقترح اهتبال فرصة تجدد الحديث عن مشاريع تطوير منطقة الضاحية الغربية بالكامل (مشروع بوابة مكة) وصدور التوجيه إلى وزارة الشؤون الإسلامية بتطوير مسجد الحديبية (الشميسي) الحالي وتوسعته، والمطالبة بتشكيل لجنة شرعية وعلمية بالوقوف على موقع المناخ النبوي وتحديد أهم مواقعه لدمجها معا في تفاصيل المشروع.

منظر عام لوادي الحديبية

كما طالب بالعمل على حسم الجدل الفقهي والعلمي حول موقع مسجد الشجرة (بيعة الرضوان) القديم الذي كان يرجح أنه أقيم في عين مكان مناخ النبي صلى الله عليه وسلم عندما طلب البيعة من أصحابه تحت شجرة كان يستظل تحتها خلال نزوله في الحديبية في العام السادس للهجرة قبل إزالته في العام 1399هـ (1979م). والتثبت من صحة نبويّة بئر الحديبية الحالي، وكشف الغموض عن حقيقة الأطلال القديمة وعلاقتها ببقايا القلعة التاريخية، وتحسين وضع مقبرة الحديبية القديمة، وسبيل الملك المؤسس رقم 1 والقائم غرب المسجد الحالي. ودمجها معا ضمن مشروعات التطوير في الحديبية بحيث تكون «معاد» عضوا في هذه اللجنة بصفة مستشار. وشدد شقدار بأنه إذا لم يتم إحياء الحديبية وتطويرها الآن فإنه لن يتم ذلك مستقبلا.

شجرة الرضوان
الباحث المكي غسان نويلاتي أكد من جهته؛ على ضرورة إشراك هيئة المساحة الجيولوجية في اللجنة المقترحة، مؤكدا أن لديها وثائق كاملة عن كل مواقع الآثار المختلف حولها . وأنه سبق لها أن قامت بتحديدها، ونشرت بعضها في إصدار خاص يوثق مسار الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة.

الحديبية منسوبة لشجرة السلم المحدودبة

وقال: إن هناك خلافا كبيرا حول موقع الشجرة وما إذا كان عمر بن الخطاب أمر بقطع شجرة الشك أم شجرة اليقين. لكنه تساءل: ماذا يعني قدوم مئتين من الصحابة الذين شاركوا في بيعة الرضوان إلى الحديبية في زمن عمر جميعا للتثبت من مكان الشجرة التي كان يعظمها الناس . وعند اختلافهم على تحديدها أمر الخليفة بقطعها لأنها غير الشجرة التي ذكرت في القرآن . وأشار نويلاتي إلى قناعته بأن مسجد الشميسي الحالي يقع ضمن حمى المناخ النبوي، وأنه تم بناؤه قبل نحو أربعة عقود بسبب كونه يقع على ناصية الطريق القديم لمكة، فأسمته الناس مسجد الحديبية حتى عرف بذلك الآن.


توحيد صكوك الملكية
والمهتم بالمواقع النبوية سمير برقة طالب بضرورة فهم قصة صلح الحديبية أولا، وأن يتم ولو بالتقريب تحديد مواقع كل حدث وقع فيها. وقال: هناك مكان حدث فيه عقد الصلح مع قريش. وهناك مكان (الشجرة) الذي تمت تحتها بيعة الرضوان، وهناك موقع البئر الجافة التي فاض ماؤها ببركة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لسقيا 1400 رجل من أصحابه وركائبهم والهدي الذي ساقه صلى الله عليه وسلم لمناسك العمرة. وفي تقديري أن أقصى مسافة بين كل هذه المواقع لا تتجاوز نحو 850 مترا مربعا فقط.

وذكر برقة أنه من المهم الآن المسارعة إلى تحرير وتوثيق ملكية مواقع المناخ النبوي لحمايتها وإزالة أي تعديات عليها، واعتبارها مواقع إسلامية خاضعة لهيئة السياحة والآثار. مشيرا إلى أن وقفية المسجد الحالي تتبع لوكالة أوقاف وزارة الشؤون الإسلامية، بينما تقع بئر الحديبية الآن في ملكية خاصة، وتم تسويرها مؤخرا ضمن حدود مبان تتبع لشركة مقاولات محليّة، بينما تخضع المقبرة القديمة لإشراف أمانة العاصمة المقدسة. بينما لم تحدد ملكية أسبلة الملك المؤسس رحمه الله.

من جهته كشف أنس صيرفي أن منطقة الحديبية حاليا بما فيها مواقع المناخ النبوي تدخل ضمن ملكية شركة «البلد الأمين» المسؤولة عن مشاريع تطوير الضاحية الغربية لمكة المكرمة ومنها مشروع البوابة، وجامعة الحديبية، ومركز الملك عبدالله للحوار الحضاري، ومباني الدوائر الحكومية التي اقترحها سابقا الأمير خالد الفيصل. مشيرا إلى أن أغلب هذه الأراضي تقع ضمن صكّ ملكية هذه الشركة التابعة لأمانة العاصمة المقدسة.

مشروع حضاري
رئيس المبادرة فايز جمال أشار في نهاية الاجتماع إلى أن هدف مبادرة «معاد» الرئيس من هذه الجهود استباق توجه وزارة الشؤون الإسلامية بالتعاون مع هيئة السياحة والآثار إلى دراسة تجديد بناء وتوسعة مسجد «الحديبية» الحالي، الذي يعد خطوة مباركة تكرس ثقافة جديدة للاهتمام بالمواقع النبوية والإسلامية المندثرة في مكة المكرمة، وإعادة إحيائها والعناية بها بشكل يليق بجهود السعودية المشهودة في خدمة المقدسات الإسلامية وضيوف الرحمن.

سبيل المؤسس لسقيا الحجاج من علامات حد مكة في الشميسي

مؤكدا أن تطوير منطقة الحديبية يمكن اعتباره حالة مثالية ونوعية تستوجب التوقف لمراجعة توثيق صحة بعض مواقع الأماكن النبوية في مكة، وأن الوقت حان لاهتبال الفرصة، وتكريس جهود التنسيق مع هيئة السياحة والآثار والجهات الرسمية الأخرى ذات العلاقة، لتقديم مشروع متكامل لإعادة إحياء مواقع المناخ النبوي في أماكنها الصحيحة والموثقة بالأدلة الثابتة، وفق المعطيات الجديدة، والدعوة إلى التفكير في ضمها في مشروع واحد ومتكامل يعكس أهمية المنطقة النبوية وأثرها الكبير في التاريخ الإسلامي، مما يعكس أهم مقاصد مشروع الملك عبدالله للعناية بالتراث الحضاري.


10 أسباب للاهتمام بالمناخ النبوي في الحديبية
- خلال الهجرة مر النبي وأبوبكر الصديق بمنطقـة الحـديبية للتمويـه على قـريش عن مقصـدهما إلى المدينـة المنـورة شـمالا.
- اتخذها النبي، صلى الله عليه وسلم، أيضا طريقا إلى مكة لأداء العمرة في السنة السادسة من الهجرة هربا من جيش قريش بقيادة خالد بن الوليد.
- معجزة فوران الماء من بئر الحديبية الجاف ببركة النبي، صلى الله عليه وسلم.
- شهدت صلح ومعاهدة الحديبية الشهيرة في الإسلام بين النبي ومشركي قريش.
- تمت فيها بيعة الرضوان التي نزلت فيها آية قرآنية في سورة الفتح.
- شهدت نزول سورة الفتح، أثناء عودة النبي للمدينة بعد معاهدة الحديبية، وهي تحكي قصة فتح الحديبية لا فتح مكة.
- كبار الصحابة رضوان الله عليهم يعدون الفتح؛ فتح الحديبية، لا فتح مكة المكرمة.
- تعتبر ثاني أهم مواقيت العمرة لأهل مكة بعد الجعرانة، وثالثها مسجد السيدة عائشة لأن النبي عقد وتحلل من عمرته التي لم تكتمل بالحديبية في السنة السادسة من الهجرة.
- إحياء أسبلة الملك المؤسس التي سخرها لسقيا الحجاج في طريق مكة القديم.
- إحياء القلاع والمواقع الأثرية في المنطقة ليكتمل عقد الأمكنة النبوية بالآثار التاريخية والمعالم الوطنية.

المصدر : صحيفة مكة 1436/6/2هـ - بقلم الاستاذ عمر المضواحي