الحديبية.. عودة الروح الى المكان والمكانة ( 2/ 6 )

طريق جدة ــ مكة القديم هو أحد أهم وأقصر طرق الحج الخمسة المؤدية إلى مكة المكرمة، حافل بالتفاصيل والمحطات التي تجعل من رحلة المسافر عبره ذكرى لا تنسى، وهو ما يفسر إقبال المعتمرين والحجاج بكثافة على هذه المنطقة طوال أيام الموسم، والصلاة في مسجد (الشميسي) القائم حاليا على الرغم من افتقاره للخدمات اللائقة بقاصديه.


على امتداد الطريق بين المدينتين (60 كلم تقريبا) تنتشر يمنة ويسرة قرى ومزارع، جبال وصحاري، أسواق ومستودعات ومبان حكومية وأهلية. خليط هائل بين الحداثة والأصالة في تنوع لافت يضج بالأمكنة وحياة الناس البسيطة.

كلما اقترب المسافر من حمى مكة المكرمة (عند الكيلو 40 تقريبا) تصافحه نفحات الرحاب المقدسة، وتلوح أمامه مرحبة أحضان وادي الحديبية الفسيح بمناخه النبوي، تحرسها على رمية حجر علامات وأنصاب حدود الحرم القديمة والحديثة، وبجوارها مباني سبيل المؤسس أحدهما في الحل، والآخر في الحرم على بعد نحو 5 كيلومترات.

وما أن تقترب المركبات من البلدة الآمنة حتى تصادف على ميمنة الطريق أحياء سكنية حديثة تتمدد باضطراد غربا وجنوبا، بعدها تلوح أسوار متحف عمارة الحرمين الشريفين ومصنع كسوة الكعبة، إلى أن تشاهد على يسار السالك مباني مقر رابطة العالم الإسلامي في حي أم الجود.

شد التعدي وجذب الرقابة
خلال السنوات القليلة الماضية بدأت سلسلة تغييرات متسارعة، لكنها ليست فقهية هذه المرة، أبطالها رجال مال ومستثمرون في مجال العقارات، ومما يثير مشاعر الأسى أيضا أن الصراع الجديد لم يحترم منطقة المناخ النبوي، لتشهد شدا وجذبا قائما لليوم بين فئام من الناس تمرسوا التعدي على الأراضي البيضاء، وبين مستثمري المخططات.

صورة جوية قديمة لوادي الحديبية ويبدو المسجد القائم حاليا

ولا تخطئ العين لمن تفحص تفاصيل المنطقة بقايا وشواهد الصراع بين بلدوزرات أمانة العاصمة وبين حوائط ورمال المتعدين.

ومن يشاهد مسجد الحديبية (الشميسي) القائم حاليا، يجد أنه يضيق ذرعا بمباني شعبية تكاد تلاصق جدرانه بشكل واضح.

بيوت شعبية تحيط بمسجد الحديبية الحالي من الناحيتين الغربية والجنوبية

حجب البئر
بئر الحديبية (التي يعتقد أنها نبوية) ابتلعتها أخيرا أسوار شركة RCC للمقاولات التي تعمل في أحد مشاريع جبل عمر الضخمة ليكون مقرا لمستودعاتها ومكاتب إدارية ومساكن لموظفيها، بعد فوزها ـ كما تقول المصادر ـ بالحصول على عقد إيجار للموقع الذي لا تقل مساحته عن مليون متر مربع من أمانة العاصمة المقدسة ولمدة عشر سنوات كاملة.

بئر الحديبية داخل أسوار شركة المقاولات

هذا المتغير الجديد، دفع بنشطاء «مبادرة معاد» لتعزيز الهوية المكية للتنسيق مع الجهات المختصة ومسؤولي إمارة منطقة مكة المكرمة وهيئة السياحة والآثار وأمانة العاصمة المقدسة لتحرير حمى البئر النبوية وتمكين الزوار من المعتمرين والحجاج الوصول إليه لمشاهدته.

مرابض الإبل والحافلات
الحديبية التي تقع بين سلسلة جبال الحديبية جنوبا وجبال أظلم شمالا يخترقها واد وسهول فسيحة تنتشر فيها تجمعات سكنية صغيرة، لا تكاد تبين وسط سهول الوادي الفسيح.

إلى الغرب بنحو 3 كلم تقريبا من المسجد القائم حاليا، وعلى ضفاف الطريق الجانبي (المتجه من الشمال إلى الجنوب) والموصل إلى جسر الشميسي في الطريق السريع حيث تقع نقطة التفتيش الأمنية، تلاحظ لوحات تشير إلى موقع مكاتب شركة البلد الأمين، ومرصد البيروني الفلكي، لتنتشر بعدها مرابض الحافلات المخصصة لشركات نقل الحجاج في بياتها السنوي الطويل، ويمكن مشاهدة الآلاف منها وهي مرصوصة بانتظام واضح وبطريقة تبدو وكأنها قطع ملونة ولا نهائية من لعبة الضومنة Domino الشهيرة.

في مقابل مواقف الحافلات تلك، وعلى الضفة الأخرى من الطريق مساحة شاسعة قامت بتطويرها أمانة العاصمة المقدسة لتكون مرابض لتجار ومربي الإبل والمواشي في المنطقة، غير أنها فيما يبدو لم تحز على رضاهم ولم يرصد إلا القليل منها في هذه الأحواش ولسبب غير معروف.

وينتهي الطريق بمصنع تعبئة مياه معروفة، ومبان قديمة تحتوي على خزان ضخم للمياه بارتفاع نحو 20 مترا يظهر بوضوح بمنتصف ناصية التقاطع مع طريق جدة ـ مكة القديم الذي تنتشر على جانبي مساره مستودعات ضخمة لشركات منوعة الأنشطة، ومصنع للخرسانة، وورش لصيانة السيارات وغيرها تدار جميعها بأيدي عمالة أجنبية.

أما في مناطق الأحياء السكنية الداخلية جنوب وغرب المسجد تنتشر المزارع والاستراحات وبيوت ومنازل قليلة، منها ما هو مبني حديثا، لكن معظمها بنايات شعبية قديمة، ولا يعرف تحديدا عدد سكانها لكن يمكن تقدير عددهم ببضعة آلاف نسمة فقط من السكان الأصليين والعمالة من غير المواطنين الذين يعملون في أنشطة متنوعة.

المقبرة القديمة
الجهة الغربية للمسجد الحالي يحدها طريق مكة ــ جدة القديم بعد توسعته أخيرا ليكون أربعة مسارات في كل اتجاه.

أما الجهة الغربية الجنوبية فيحده طريق فرعي على رأس قطعة أرض مثلثة الشكل، تأخذ سالكها جنوبا إلى مقبرة قديمة تم تحديث أسوارها أخيرا، على ناصية طريق مرصوف يلتف خلف جبل الحديبية ذي الصخور القاتمة اللون.

سور المقبرة ويظهر عليه العبث


لوحظ أن يد العبث طالت السور الجديد حول المقبرة القديمة بعد تجديد طلائها، وكان لافتا عبارة تغني عن ألف قول كتبها أحد العابثين، لنصح العابرين بالقرب من المقبرة بقوله: أيها السفيه تذكر هذا المكان، بخط كبير وباللون الأحمر!

تركنا السور وكاتبه، ليقودنا الطريق إلى مناطق واسعة ومفتوحة بين سلسلة الجبال تنشط فيها صراعات لا تلبث أن تهدأ حتى تعود بين قوى التعديات على الأراضي البيضاء من جهة، ومن جهة أخرى مراقبي أمانة العاصمة المقدسة بمعداتهم الثقيلة لهدم التعديات وتثبيت ملكية أراضي شركة تطوير التابعة لشركة البلد الأمين فيما بات يعرف بأراضي الضاحية الغربية (البوابة) التي تمتد مساحتها في منطقة الشميسي بين مجسم البوابة على الطريق السريع وحتى تخوم منطقة الحديبية حاليا

هيئة مكة
خلف جبل الحديبية، من الناحية الجنوبية الغربية، تبدو أعمال نشطة لقص السفوح الصخرية وتهيئة الأرض لمخططات واسعة ولا تزال الأعمال قائمة على قدم وساق لتمهيد وتهيئة مناطق مخططات سكنية أخرى وشق الطرق بينها وتزويدها بالأرصفة وأعمدة الإضاءة.

أما من الناحية الغربية للمسجد الحالية فتبدو شواهد باقية لحالات واسعة من التعدي على قطع أراض صغيرة المساحات أكثرها مسورة بعقوم من الرمال وأخرى بأسلاك معدنية مخصصة كأحواش لتربية المواشي وخاصة حظائر الإبل.

وكانت هذه الحظائر تقدم لزوار مسجد الحديبية ألبان الإبل الطازجة قبل أن تمنعهم السلطات الرسمية قبل نحو عامين تقريبا بعد ثبوت علاقة الإبل بتطورات الإصابة بفيروس كورونا القاتل.

ومن اللافت أن منطقة الحديبية تخلو من أي مركز لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا على غير العادة، فهي جزء أصيل لا يخلو أي موقع نبوي من محتسبي الهيئة في مكة المكرمة.

خرافات المرشدين
في موسمي الحج والعمرة يكثر إقبال الزوار على مسجد الحديبية الذي يبعد نحو 2 كلم فقط عن أنصاب وعلامات حدود الحرم. فيما يستغل بعض المرشدين وسائقي الحافلات والمركبات الصغيرة «الكدادة» جهل بعض الزوار من المعتمرين والحجاج باختراع قصص غير حقيقية عن منطقة الحديبية طمعا في الحصول على أموالهم.

وفي السابق كان لا يتورع بعض المرشدين والكدادة عن نشر روايات خادعة بتأكيدهم أن موقع صلح الحديبية هو عين المكان الذي كان النبي يرعى فيه الغنم قبل بعثته، أو أن ما يشاهدونه من قطعان الإبل هو من بقايا سلالة «القصواء» ناقة النبي.

ستة مواقع لبيعات النبي في مكة
شهدت مكة المكرمة ست بيعات لنصرة النبي، صلى الله عليه وسلم، أشهرها بيعتا العقبة الأولى والثانية في مشعر منى، وبيعة الرضوان في الحديبية، وبيعتا يوم فتح مكة؛ البيعة الأولى للرجال (في قرن مصقلة بالقرب من شعب عامر وفيه خلاف) وبيعة النساء (في مشعر الصفا)، وبيعة خاصة بعالم الجن (في مسجد الجن القريب من مقابر جنة المعلاة).

واللافت أن أربعة من مواقع البيعات الست لا تزال باقية ومحفوظة داخل مساجد يذكر فيها اسم الله عدا اثنتين؛ بيعة الفتح للرجال في مصقلة، وهو قرن جبلي يرجح أنه كان في شعب عامر وقد أزيل أثره في مشاريع توسعة الحرم المكي، والثاني موقع بيعة الرضوان (محل هذا التحقيق) في الحديبية.

ولتفهم قصة موقع مسجد (بيعة الرضوان) في الحديبية، لا بد من مقاربتها بقصة مسجد (بيعة العقبة) الذي بناه الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور عام 144هـ، فالمسجدان تاريخيا أقيما في موقعين أحدهما داخل حدود حرم مكة والآخر في خارجها، حيث أخذ النبي البيعة من المؤمنين به، والدفاع عنه.

البيعتان الأولى والثانية كانتا في عقبة (الأنصار) وهي تلة صخرية تقع في السفح الجنوبي خلف جبل ثبير (النصع) أعظم جبال منى، وكان مسرح البيعة الثالثة في مناخ النبي في الحديبية تحت شجرة كان يستظل تحتها.

وما زال موقع مسجد بيعة العقبة ثابتا وقائما في مكانه إلى اليوم في منى دون أي تشكيك في صحة موقعه، أما مسجد بيعة الرضوان في الحديبية فقد صادف تحديد موقعه جدل بين مؤيد ومعارض.

مسجد البيعة في مشعر منى بمكة المكرمة

وعلى كل حال انتهى الجدل حول موقع بيعة الرضوان الصحيح إلى بناء مسجد في الحديبية (القائم حاليا) منذ 40 عاما تقريبا، لتخمد جذوة النقاش بشكل ظاهر بين طرفي الحوار في منتديات العلم، غير أنها لا تزال محل أخذ ورد في بطون الكتب، وربما آخرها كتاب «الأماكن المأثورة المتواترة في مكة» للدكتور عبدالوهاب أبوسليمان.


مواقع بيعتي العقبة والرضوان


1 - العقبة الأولى:
بايع فيها النبي وفدا مكونا من 12 رجلا من قبيلتي الأوس والخزرج قدموا في السنة 11 من البعثة النبوية من المدينة للحج في مكة (قبل الإسلام)، واستمعوا لدعوة النبي فآمنوا به، ثم عادوا في حج عام 12 من البعثة النبوية ليبايعوا النبي في شعب خلف جبل مشعر منى.


2 - العقبة الثانية:
في السنة 12 من البعثة النبوية وقبل أن يؤذن للنبي بالهجرة إلى المدينة بعام واحد تقريبا، عندما أخذ البيعة من 72 رجلا وامرأتين من الأوس والخزرج أيضا، بحضور عم النبي العباس بن عبدالمطلب، ونصت المبايعة على أن تحمي القبيلتان النبي كأحد أبنائهما ولهم في المقابل الجنة. وفي هامشها قدم سادة القبيلتين الدعوة إلى النبي لزيارتهم، واستجاب لهم.


3 - البيعة الثالثة:
في الحديبية عندما اشتد الحصار على النبي وكان معه 1400 رجل قدموا بملابس الإحرام في السنة 6 للهجرة لأداء مناسك العمرة، وحاصرهم خالد بن الوليد (قبل إسلامه)، فدعا النبي أصحابه للمبايعة في مكانه تحت ظل شجرة سلم على نصرته، وفيهم وعنهم نزلت الآية القرآنية في محكم التنزيل: «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا»

المصدر : صحيفة مكة 1436/6/3هـ - بقلم الاستاذ عمر المضواحي