الحديبية.. عودة الروح الى المكان والمكانة ( 4 / 6 )

في الساعة التاسعة من صباح يوم السبت 15 نوفمبر 2014 كان المشهد العام للحياة في منطقة الحديبية رتيبا خاليا إلا من بعض المارة والسيارات التي تنطلق بسرعة في اتجاهي طريق جدة ـ مكة القديم صعودا ونزولا.


وكانت "مكة" على موعد في تمام العاشرة عند بوابة مسجد الحديبية مع أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية في جامعة أم القرى الدكتور فواز الدهاس وفريق من أعضاء مبادرة «معاد لتعزيز الهوية المكيّة».


اهتبلنا فرصة للصعود إلى جبل صغير خلف المسجد لاكتشاف الموقع من علّو كاف والتقاط بعض الصور الفوتوجرافية للمنطقة. كلما ارتقينا صعودا كانت الصورة تبدو أكثر روحانية. ها هو وادي الحديبية يبدو سجادة من الرمال الصفراء تجملها كثبان ومستوطنات سكنية صغيرة وأشجار السَّلم تنتشر على استحياء حول كثبان الوادي.


معاد وخبير الـGPS

كان الدكتور فواز الدهاس، الذي حرص أن يرافقه الباحث المكي بدر اللحياني، في معية فريق من أعضاء مبادرة «معاد لتعزيز الهوية المكيّة» يتقدمهم رئيس المبادرة فائز جمال، ونائبه المستشار مهندس جمال شقدار، والمهندس أنس الصيرفي، والباحث غسان نويلاتي، وخبير البيئة والأرصاد حسن عبدالشكور.


كما استعانت «معاد» بفريق فني متخصص بالرفع المساحي من مكتب الأبنية للاستشارات الهندسية، وخبير متخصص في تحديد ورفع إحداثيات المواقع بأجهزة GPS لمطابقة وتدقيق الإحداثيات التي وردت في كتاب «الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة» للدكتور عبدالوهاب أبوسليمان.


كان الهدف واضحا للجميع في هذه الجولة؛ رصد شهادة فواز الدهاس عن مواقع منطقة المناخ النبوي، وتدقيق المواقع القائمة حاليا (مسجد الحديبية، بئر الحديبية النبوي) ومطابقتها مع المعلومات التي تم جمعها في الجولات السابقة.


أرض الصلح
يقول الباحث غسان نويلاتي: لا يخالج أحدٌ الشك هنا أنك في أرض الصلح في الحديبية، فمن هناك وأشار إلى جهة الشمال ـ دخل النبي صلى الله عليه وسلم من ثنية المُرَار (فجّ الكريمي) وعندما تشاهد خرائط المنطقة عبر موقع قوقل إيرث ستجد أن فج الكريمي ينتهي إلى هنا في خط مستقيم واضح.


أضاف: إلى اليمين ـ خلف المسجد الحالي ـ يبدو جبل الحديبية شاهقا تعلوه بقايا قلعة عثمانية قديمة، لا بد أن هذا الجبل كان حدّا اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم كخط دفاع عسكري يحمي ظهر مناخه وأصحابه من أي غائل يأتي من خلفه.


وأوضح النويلاتي أن مسيرة النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة قاصدا مكة توقفت في مرّ الظهران (الجموم حاليا) ثم أمر صلى الله عليه وسلم بالانعطاف غربا (إلى أرض الحديبية) حيث توقفوا هاهنا. كان النبي يتجافى بأصحابه العزّل من السلاح، ويقودهم بين تلكم الجبال والأودية تجنبا من صولة سيف خالد بن الوليد الذي كان يترصد لهم فليس لهم قبلا بمواجهة ابن الوليد وحقد قريش القديم. هناك، وخلف تلكم الجبال البعيدة (عسفان) توقف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى بأصحابه صلاة الخوف للمرة الأولى في الإسلام، ليربط على قلوبهم بعروة الله وحفظه المتين.


لوح أثري مفقود
انتظم الجميع لالتقاط صورة تذكارية تحت أطلال البناء القديم المجاور للمسجد. كانت المفاجأة الأولى في انتظارنا حينما أكد الدكتور فواز أن هذه الأطلال لا تعود لمسجد قديم كما هو شائع حاليا، وإنما هي مجرد بقايا مبنى لمركز أمني يعود إلى أكثر من 250 عاما في زمن حكم الأشراف على طريق الحج القديم إلى مكة.

الدهاس يقف على أحد القصور الأثرية القريبة من الحديبية

 

مؤكدا أن معلومته استقاها من أحد كبار السن الذين سكنوا في الحديبية. وأن كل ما نشاهده هنا من تغييرات هو من التعديات على أراضي المنطقة التي حدثت خلال العقود القليلة الماضية.


في الداخل، وعند محراب المسجد دار نقاش طويل مع الدهاس حول مشاهدته سابقا للوحة تأسيس تاريخية كانت مثبتة فوق محراب المسجد الحالي، مبديا استغرابه من إخفائها. قبل أ
ن يتيح المجال للحياني للحديث عن معلوماته حول هذه اللوحة الأثرية.

قال اللحياني: بالفعل، هي مركز أمن في عهد الأشراف، وليس له أي صلة بالمسجد الحالي. مشيرا إلى أنه وجد ذكر هذا البناء وصفته في كتاب «مرآة الحرمين» لإبراهيم رفعت باشا الذي ألفه في 1318هـ.


أما عن اللوح التأسيسي فيعود إلى بناء قديم قبل البناء الحالي للمسجد، يسجل تاريخ بناء مسجد في عهد السلطان محمود خان عام 1250هـ حسب مشاهدة رفعت باشا الذي ذكر أنه شاهد حجرا تأسيسيا على المحراب.


لكن اللحياني أكد أيضا عدم وجود أي مسجد في الحديبية في عهد المؤلف أبو جار الله فهد الهاشمي المتوفى 954 هـ، حيث لم يسجل في كتابه «إتحاف الورى» الذي انتهى من تحريره في 947 هـ أي ذكر لمسجد قائم في الحديبية حينذاك.

فواز الدهاس مع بدر اللحياني يشرح رؤيته داخل مسجد الشميسي


وأن المؤرخ ابن فهد وصف الشميسي ـ نسبة إلى رجل صاحب بئر كان اسمه شميّس ـ بأنها عبارة عن منطقة زراعية فيها آبار. لكنه لم يشر إطلاقا إلى أنه كان فيها مسجد في عهده.


القصواء وفيل أبرهة

عاد الدهاس إلى الحديث وقال: الثابت عندي نزول النبي وأصحابه من ثنية الكريمي ثم توقفت فجأة ناقته القصواء في الحديبية، وأبت أن تواصل السير، فقال الصحابة: «خلأت القصواء.. خلأت القصواء!» أي حرنت وبركت من غير علة.


فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق (أي عادة) ولكن حبسها حابس الفيل (فيل أبرهة الأشرم) ثم قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسألوني (أي قريش) خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم عليها».


ثم قال الدهاس معلقا على هذا الحديث النبوي المشهور: أميل إلى أن وقوف القصواء مشابه لوقوف فيل أبرهة بأمر إلهي لا نعرف الحكمة فيه، فالذي حبس الفيل عن دخول مكة هو الذي حبس القصواء عن دخولها أيضا لحكمة لا يعلمها إلا الله سبحانه.


وأضاف: لعل الحكمة هنا في رأيي هي أن هناك أناسا أسلموا في مكة خفية، فلو دخل النبي مكة خيف عليهم أن تقتلهم قريش، أو يساء إليهم بعد معرفة إسلامهم. ولهذا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا عثمان بن عفان إلى مكة وبقي هو وأصحابه في الحديبية خارج حدود حرم مكة.


شكوك الأستاذ وحقائق تلميذه
بالعودة إلى الدهاس أكد أنه من الصعوبة بمكان تحديد نقطة معينة هنا، وتعيينها بأنها نقطة نزول النبي في الحديبية، كما شكك في أن تكون بئر الحديبية الحالية هي البئر النبوية، وقال «لا أعتقد أنها هي البئر المقصودة»، من دون أن يسند رأيه بأدلة تؤكد اعتقاده. لكن تلميذه اللحياني أعاد الإشارة إلى وجود المسجد والبئر في كتاب إبراهيم باشا (مرآة الحرمين) الذي كان رئيسا للمحمل المصري إلى مكة المكرمة ثلاث مرات.


أضاف بقوله: وصل رفعت باشا إلى هذا المكان (الشميسي) وسرد وصفا عن مسجد البيعة (الرضوان) وكتب عنه بقوله «مسجد الشميسي أو مسجد البيعة وهو على اليسار مربع الشكل، طول ضلعه 15 مترا مبني بالحجر الأزرق، بناء متينا ومجصص وفيه ثلاثة أروقة، وقبته مكتوب فيها، (هذا مسجد بيعة الرضوان مأثرة من مآثر حبيب المنان عمره المليك إلى رحمة الرحمن المغفور له السلطان محمود خان سنة 1254هـ).


وهذا المسجد موضع الشجرة التي بايع عندها الناس الرسول بيعة الرضوان في عام الحديبية وأنزل الله قوله تعالى «لقد رضي الله عن المؤمنين الذين يبايعونك تحت الشجرة»، وبالشميسي بئر عمقها 10 أمتار بالتقريب مبنية بالحجر وماؤها مقبول.


عاد اللحياني يقرأ من (مرآة الحرمين): ومنها (أي البئر السابق ذكرها) تغير الاتجاه 110 درجات وفي الخامسة نهارا وصلنا إلى علمين ومنهما ابتدأ الحرم من الجهة الغربية وهما عمودان مبنيان بالحجر ومجصصان مربعا الشكل (القائمة حاليا)، وبجوار العلم الشمالي بئر مبنية بالحجر سمك حائطها 110 سم. وقطرها 4 أمتار، وعمقها نحو 25 مترا، وبجوارها مشرب سبيل مبني بالحجر ومكتوب عليه أبيات باللغة التركية بخط جميل.


 إحداثيات كتاب أبوسليمان
كان فريق مبادرة معاد قد استعان بفني مختص برفع الإحداثيات مزود بجهاز GPS ليدل الجميع على عين الموقع الذي رصده أبوسليمان ورفع إحداثياته في العام 2001.


سار الركب في ثلاث سيارات، متتبعا خط السير الموضح على جهاز GPS بيد الفني المختص الذي سبق الجميع. خلال دقائق قليلة توقفت المركبات بعد أن خاضت طريقها غربا عبر طرق وعرة حتى انتهت في وسط تلة ناهدة قليلا، تحفها رمال وأحجار ساقتها سيول منقولة إلى قلب الوادي الفسيح. كانت إلى البعد شجرة سَلم حدباء تقف وحيدة في هذا اليباب الممتد إلى ما لا نهاية.


التف الجميع حول الدهاس وتلميذه الباحث، وسرعان ما أكد الرجلان أننا نقف داخل حدود حرم مكة. وأن الثابت قطعا أن مناخ النبي صلى الله عليه وسلم كان خارجه. مشيران إلى أنه لا بئر في المكان، وليس هناك ما يشي بأن الموقع كان طريقا قديما للحجاج إلى مكة.


الباحث اللحياني أفاد بقوله: من المستبعد أن يكون مناخ النبي هنا، لأنه بعيد تماما عن الخط الرئيس الذي سار فيه ثم إنه لا توجد أي آثار تثبت صحة الموقع. هنا صحراء قاحلة، وهي داخل نطاق حدود حرم مكة. والثابت أن مناخ النبي كان خارج حدود الحرم وأنه كان صلى الله عليه وسلم قريبا منه بمسافة تمكنه من أداء فروض الصلاة داخل حدود حرم مكة، والعودة إلى مناخه في الحلّ بعد فراغه من فروض الصلوات الخمس.


التقط أنس الصيرفي طرف الحديث مشيرا إلى أن اسم هذه المنطقة (بلاد المقرح). وهي داخلة في حدود الحرم، لأن حدها الغربي هو جبل أظلم ـ وأشار إليه ـ ويحدها شرقا جبلا الدوم الحمراء، والحد الجنوبي لبلاد المقرح هو درب (الموشح) وتمام الحدّ جبال الموشح. وأما تمام الحد الشمالي هو درب (دلّدَلّ) وهو طريق قديم بين جدة ومكة. وتمام الحدّ قهوة (البُزم) وكانت معروفة في الشميسي إلى وقت قريب. ووافق الصيرفي على أنه لا يمكن أن يكون هذا الموقع هو المقصود بشكل مطلق.


كانت وجوه الجميع واجمة، وقد أسقط بيدها بعد أن ثبت لها أن موقع إحداثيات كتاب (أمكنة مكة المكرمة المتواترة) غير دقيقة، ولسبب مجهول صادف تسجيل الإحداثيات من أبوسليمان وفريق جولته الاستكشافية الذي يحسب لهم جهدهم وحرصهم ووقوفهم الميداني في الحديبية، لتثبيت وتوثيق ما استقر عليه رأيهم العلمي والشرعي الذي يدينون الله به.

 

كان صفير الرياح يشبه حالة الإحباط التي أحاطت وخيمت على قلوب الحاضرين، وأخذ الجميع يضرب كفا بكف حسرة على عدم دقة المعلومة.


لا بد أن هناك خطأ جسيما قد وقع. فلا يمكن أن يقع خطأ كهذا من فريق علمي (يضم أعلم أهل الأرض حينئذ) عن المواقع والأمكنة النبوية في مكة المكرمة.

وطفق الجميع يطرحون في حيرة أسئلتهم المفتوحة بلا جواب؛ هل أخطأ الفني الذي رفع وكتب أرقام تلك الإحداثيات وزود أبوسليمان بها؟. أم وقع الخطأ أثناء طباعة الكتاب، أو ربما عدم تدقيق لأرقام لإحداثيات عند المراجعة؟!. كانت كل الاحتمالات واردة. لكن الثابت يقينا الآن أنها أرقام إحداثيات غير دقيقة.

المصدر : صحيفة مكة 1436/6/5هـ - بقلم الاستاذ عمر المضواحي