تدريس علم المنطق بـجامعة المسجد الحرام فـي القرن الرابع عشر الهجري

 

مادة المنطق فـي جامعة المسجد الحرام مادة أساس في كثير من العلوم الشرعية ، لا يفتح مغاليقها و مبهماتها إلا من درس علم المنطق في مؤلفاته : المختصرة و المطولة ، فيما يلي بعض التعريف بهذا العلم بعامة ، و في جامعة المسجد الحرام بخاصة

علم المنطق أحد العلوم المقتبسة من الحضارة اليونانية
لم يقف به علماء المسلمون عند الحد الذي انتهى إليه اليونانيون ، بل طوّروه و طوعوه لخدمة الفكر الإسلامي و علومه ، و خلصوه من الشوائب ، فحرروا مسائله و نقحوا قواعده ؛ فمن ثم عدّوه بـمثابة الميزان لمصداقية العديد من القضايا الفكرية و العلمية .. لهذا استحق أن يسميه حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله ( مـعـيـار الـعـلـم ) فهو المفتاح ، و الميزان لكثير من العلوم

لم يقتصر أثر هذا العلم على فرع واحد من العلوم الإسلامية
بل شمل الدراسات اللغوية ، و العلوم الشرعية ، و قضاياها الدينية و الفلسفية .. يأتي في مقدمتها علم العقيدة ، [ الفلسفة الإلهية ] ، و أصول الفقه ، و الفقه .. لا يدرك حقائق هذه العلوم ، و إحكامها إلا من تدرج في علم المنطق ، و تفهم مسائله و قواعده

هذا هو السبب الذي جعل " المنطق " مادة دراسية في حلقات العلم بـجامعة المسجد الحرام ، و المؤسسات العلمية بـمكة المكرمة ، التي تتجاوز مستوياتها المستوى الابتدائي في مدارسها العريقة : الصولتية ، و الفلاح ، و مدرسة دار العلوم الدينية ، و غيرها

* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *

ينطلق علماء المسجد الحرام حتى القرن الرابع عشر في اهتمامهم بهذه المادة من حيث ما يجنيه الطالب من فوائد علمية ، و تنمية ملكاته الذهنية ، و يعبر عن هذا علماء هذا الفن بقولهم:

« فائدته : عصمة الذهن من الخطأ في الفكر عند مراعاة قواعده » (1)

أما تعريف هذا العلم عند علمائه فهو :
« علم يُعرف به كيفية الانتقال من أمور حاصلة في الذهن لأمور مستحصلة [ يطلب تحصيلها ] (2) ، و لهذا فإن موضوع هذا العلم: المعلومات التصويرية و التصديقية مـن حيث الإيصال إلـى مجهول تصوري أو تصديقي » (3)

هذا هو علم المنطق في أسلوب ابتدائي مبسط
قرر علماء الإسلام قديماً و حديثاً الجانب المباح و الآخر المحظور منه بأن :
« ما كان منه خالياً عن الفلسفة و أفكار الحكماء الكفرية فلا خوف في جواز تعلمه ، بل تتأكد معرفته للرد على أهل الشبه و الشكوك الذين يطعنون في دين الإسلام ، أما ما كان مخلوطاً بالكفريات ، فيمنع ، ولا يجوز خصوصاً لضعاف الطلبة » (4)

كان تدريس علم المنطق لـدى علماء البلد الحرام بهذا التوجيه ، يعدونه ، مقدمة العلوم و مفتاحها ، و لم يكونوا بدعاً عن المراكز العلمية الأخرى في العالم الإسلامي .. فقد شهدت ساحات جامعة المسجد الحرام تدريس هذه المادة بدءاً من أجرومية المنطق [ إيساغوجي ] و منظومة [ السلم في علم المنطق ] للشيخ العلامة عبدالرحمن ابن سيدي محمد الصغير الجزائري المشهور بالأخضري بشرح مؤلفه . بل يحث الطلاب طلابهم المبتدئين بحفظ منظومة المنطق [ إيساغوجي ] إذ بدأها المؤلف رحمه الله بمطلع حسن قائلاً:

الـحـمـد لله الـذي قـد أخـرجـا ... نـتـائـج الـفـكـر لأربـاب الـحـجـا
وحط عنهم من سـمـاء الـعـقـل ... كل حجاب من سحاب الجهل
حتى بـــدت لهم شـمـس الـمـعـرفـة ... رأوا مخدراتها منكشفة


تتميز هذه المنظومة الفريدة بسلاسة أسلوبها ، ووضوح معانيها ، قريبة الفهم ، سهلة الحفظ ، في أسلوب سهل ، شيق ، توافرت شروح العلماء عليها .. فأصبحت كتاب منهج تدريس علم المنطق بشروحه البسيطة ، و المتوسطة في معظم حلقات الدروس العلمية في البلاد الإسلامية

يتدرج الطالب في دراسته لهذا العلم بـجامعة المسجد الحرام على يد علمائه الأجلاء من أبناء مكة المشرفة و المهاجرين إليها حتى يبلغ الكتاب النهائي فيها كتاب [ الشمسية ] للعلامة نجم الدين عمر بن علي القزويني المعروف بالكاتبي المتوفى سنة ( 693 هـ ) ، و بعض الشروح عليها ، يتخلل هذا تدريس كتب أخرى يختراها العلماء لطلبتهم حسب مستواهم ، و تحصيلهم العلمي

* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *



كان من أعظم حلقات تدريس هذه المادة في بداية القرن الرابع عشر الهجري « حلقة العلامة الشيخ مشتاق أحمد الهندي » ، كثيراً ما كان فضيلة الشيخ حسن محمد المشاط يتحدث عن طريقة تدريسه لعلم المنطق بكل إعجاب و تقدير .. وقد كان المشاهير من العلماء المكيين في القرن الهجري الماضي تلاميذه الذين تلقوا منه عدداً من العلوم التي كان يدرسها فـي المدرسة الصولتية و المسجد الحرام

يقول العلامة الفقيه الشيخ زكريا ابن الشيخ عبدالله بيلا المكي في ترجمته :
« العلامة الشيخ مشتاق أحمد الهندي ( ت 1359 هـ ) : العلامة الجامع بين العلوم النقلية و العقلية ، الفهامة الذي حاز قصب السبق ، و اشتهر عند البرية . . .

فـي جمادى الثانية عام ( 1332 هـ ) دخل المدرسة الصولتية معلماً لأبنائها ، و اشتغل معلماً فـي فن الحديث ، و الفقه و أصوله ، و المنطق ، و الفلسفة ، و الفلك ، و أصبح أحد مدرسي المسجد الحرام و استفاد من موهبته الخاص و العام

و تلاميذه الذين نالوا شرف الانتساب إليه عنوان فضله ، و دليل قوى معلوميته و علامة نبوغه أمثال:

« العلامة الشيخ محمد العربي المغربي المدرس بمدرسة الفلاح و الحرم المكي ، و العلامة الشيخ يحيى أمان المدرس بالمدرسة الصولتية ، ثم مدرسة الفلاح ، و المسجد الحرام ، و الآن نائب قاضي بالمحكمة الشرعية الكبرى ، و العلامة الشيخ حسن المشاط المدرس بالمدرسة الصولتية ، و العضو بهيئة التمييز ، و العلامة الشيخ حسين عبدالغني ، المدرس بالمدرسة الأميرية الهاشمية ، ثم الصولتية ، و الحرم المكي ، و قاضي المحكمة المستعجلة ، و العضو برئاسة القضاة حالاً ، و العلامة الشيخ عباس عبدالجبار المدرس بالمدرسة الصولتية ، و الحرم المكي ، و المفتش على الكتب ، و الشيخ العالم صالح كلنتن المدرس بالصولتية ، ثم دار العلوم الدينية ، ثم دار الأيتام الآن ، و العلامة المرحوم الشيخ داود دهان ، و مكث ينشر ما آتاه الله تعالى من علم و حكمة بالمدرسة المذكورة إلى الحكم السعودي ، ثم ذهب إلى الهند داعياً إلى الله و رسوله ، باثاً للعلوم إلى أن دعاه داعي المنون هناك 1359 هـ » (5)


حمل جيل العلماء المكيين الأمانة كاملة فورثوا تلاميذهم العلوم الشرعية ، و علوم الآلة ، و في مقدمتها علم العربية ، و المنطق

قد شرفت و زملائي الدارسين في حلقات المسجد الحرام في نهاية القرن الرابع عشر الهجري بدراسة هذا العلم على يد « العلامة الفقيه المحدث الشيخ حسن محمد المشاط » رحمه الله و غيره تغشى الله الجميع برحمته . الحديث يطول عن تدريس علماء المسجد الحرام لهذه المادة ، و لمادة علم الوضع و المقولات العشر

* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *

أما بالنسبة العلمية العريقة كـالمدرسة الصولتية ، و مدرسة الفلاح ، و مدرسة دار العلوم الدينية فإن غالب المدرسين فيها مدرسون فـي المسجد الحرام ، و من جملة ما احتوت عليه دراساتها المنهجية علم المنطق

و لأقدم مثالاً لهذا من المدرسة الصولتية التي تم على تأسيسها أكثر من قرن ، و هي بحق تعد رائدة التعليم النظامي في الجزيرة العربية فقد جاء في كتابها السنوي [ صدى العلم من الحجاز ] في العدد الأول عام 1327 هـ ضمن منهجها الدراسي للامتحان :

( 9 في فن المنطق ) ، ( 11 القطبي شرح الشمسية ) للمتقدمين ، ( 12 في الإيساغوجي ) للمبتدئين (6)

و في العدد الثاني السنوي عام 1329 هـ كان الامتحان في علم المنطق على عدة مستويات :

المنطق نومرو [ نمرة ] 20 - 22 ، المنطق بحث التصورات نومرو 24 ، المنطق بحث التصديقات 25 (7)

و في العدد الثالث لعام 1330 هـ :

القطبي نومرو 20 ، مير قطبي نومرو 21 ، السعدية على الشمسية نومرو 23 ، شرح التهذيب نومرو 25 ، متن التهذيب نومرو 31 ، شرح المقولات العشر نومرو 32 ، متن إيساغوجي 33 ، بديع الميزان ( المنطق ) نومرو 35 (8)

من عادة هذه المدرسة العريقة  أنها تكافئ الطلاب المتفوقين بـالكتب المهمة ، و كان من بينها كتب المنطق حسب مستوى الطالب



قد أظهرت بعض هذه الدوريات العلمية أسماء أساتذة مادة علم المنطق في الآتي :
يحيى أمان المكي ، عثمان بشناق المكي ، حسين رواس المكي ، عبدالحميد حديدي المكي ، محمد صادق الهندي ، درويش شفي المكي ، عبدالرحمن البنقالي ، عبدالله علوي المكي ، خليل الرحمن البنقالي ، فيض الحق البنقالي ، منير الدين البنقالي ، عبدالجبار البنقالي ، وغيرهم (9)

من المعلوم في تاريخ جامعة المسجد الحرام أنه لا يتصدر للتدريس فيه أي شخص حتى يتهيأ للامتحان ، يمثل بين يدي عدد من العلماء لا يقل تعدادهم عن ستة من كبار المدرسين في المسجد الحرام برئاسة شيخ العلماء يمتحنون المتقدم فيما يزيد على ثمانية علوم من بينها علم المنطق

هذا عرض موجز بالنسبة لتدريس علم المنطق
فـي حلقات جامعة المسجد الحرام و المؤسسات العلمية العريقة بـمكة المكرمة

* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *



أما مؤلفات العلماء المكيين في علم المنطق فهي عديدة ذات مستويات مختلفة ، وقد حاول بعضهم تبسيط هذا العلم أسلوباً و منهجاً ، يحضرني من هؤلاء المؤلفين في الوقت الحاضر:

1. العلامة شيخ العلماء بمكة الشيخ محمد علي بن حسين المالكي
عنوانه [ السوانح الجازمة في التعاريف اللازمة ]

2. العلامة شيخي الشيخ حسن محمد المشاط
رسالة بعنوان [ الحدود البهية في القواعد المنطقية ]

من تلاميذ هاذين العالمين
العلامة المتفنن صاحب الفضيلة العلامة المحدث المسند
الشيخ محمد ياسين الفادني المكي .. له فيه عدة مؤلفات :

• كتاب الإفادة تعليقات على رسالة طاش كبرى زادة في البحث و المناظرة
• تشنيف السمع في علم الوضع

يُعد العلامة الشيخ محمد ياسين الفادني المكي مـن أنبغ علماء عصره
يقول عنه قرينه في العلم و التحصيل العلامة الفقيه الشيخ زكريا بيلا رحمهما الله :

« علامة فاضل خلد لنفسه ذكراً حسناً يدوي صداه بين محبيه و عارفي فضله من العلماء الفضلاء ، و تلاميذه النجباء الذين درسوا على يده ، واستفادوا ، وبين من استجازوه للرواية عنه فمن هو ذلك العالم الذائع الصيت ، الغني عن التعريف الذي قدَّم لأهل العلم و الثقافة مؤلفات عديدة بلغت نحو خمسين مؤلفاً في علم الحديث و مصطلحه ، و في الأسانيد و المسلسلات ، و في علم أصول الفقه و قواعده ، و في علوم أخرى متنوعة : كـالفلك ، و الوضع ، و الاشتقاق ، و طبقات الشافعية الكبرى و الصغرى ، و كان له قدم راسخ فيها و يد طولى فيما كتب ، و ألف و رتب بتوفيق الله تعالى المنان ، منها ما هو مطبوع ، كـتتميم الدخول تعليقات على مدخل الوصول إلى علم الأصول ، و الفوائد الجنية على المواهب السنية على القواعد الفقهية (في جزأين) ، و جني الثمر شرح منظومة منازل القمر

هذا العلامة الحادق الجامع و الداركة ذو الاطلاع الواسع
شرع في التصنيف و عمره خمس عشرة سنة و ذلك عام 1352 هـ

و له مآثر جليلة فـي شتى العلوم ، منها :
في علم الفلك ، و علم المناظرات ، و علم أصول الفقه ، و علم القواعد الفقهية ، و الفرائض ، و غيرها (10) »

* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *

هذا هو شأن عـلـم الـمـنـطـق باختصار تدريساً و تأليفاً
لدى علماء جامعة المسجد الحرام ، و المؤسسات العلمية العريقة بـمكة المكرمة

ولو أراد الباحث تتبع تدريس هذا العلم في تاريخ مكة العلمي لوجد له جذوراً راسخة متمثلة في أئمة كبار جمعوا إلى علم المنقول علم المعقول منذ القرون الإسلامية الأولى ، حطوا رحالهم بحرمه ، و نصبوا رايات العلم بساحاته أمثال : إمام الحرمين أبي المعالي عبدالملك بن عبدالله الجويني ( 419 - 478 هـ ) ، و جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري ( 467 - 538 هـ )

و غيرهما الكثير ممن لا تزال الأمة تتطفل على موائدهم العلمية في علوم المنقول و المعقول ، تشهد لهم ساحات المسجد الحرام في القديم و الحديث بتفوقهم العلمي ، و تخريج أجيال من العلماء للبلاد الإسلامية على امتداد العالم الإسلامي زماناً و مكاناً ، كلها صفحات مشرقة و علامات مضيئة في تاريخ العلم  و العلماء

•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•
شيخ علماء مكة المكرمة و فيلسوف المدرسة العلمية الحجازية
العلامة الدكتور عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان | حفظه الله و أطال الله عمره
                                        


الـهـوامـش

(1) المشاط ، حسن بن محمد ، الحدود البهية في القواعد المنطقية ، الطبعة الأولى ، تقديم: عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان ( مكة المكرمة: طبع على نفقة أحمد حسن مشاط ، عام 1412 هـ ) ص 15

(2) المشاط ، حسن بن محمد ، الحدود البهية في القواعد المنطقية ، ص 14

(3) المشاط ، حسن بن محمد ، الحدود البهية في القواعد المنطقية ، ص 14

(4) المشاط ، حسن بن محمد ، الحدود البهية في القواعد المنطقية ، ص 15

(5) الجواهر الحسان في تراجم الفضلاء و الأعيان من أساتذة و خلان ، ج1 ، ص 434

(6) انظر : ص 14 ، 17

(7) انظر : ص 26 ، 27

(8) انظر : ص 32 ، 33 ، 34 ، 36 ، 37

(9) انظر : صدى العلم من الحجاز ، العدد الثالث لعام 1330 هـ ، ص 8 - 10

(10) انظر : الجواهر الحسان في تراجم الفضلاء و الأعيان من أساتذة وخلان ، ج1 ، ص 187 ، 193

 

■ المصدر

- المسجد الحرام .. الجامع - الجامعة ( الجزء الثاني )
الفقه و الفقهاء في مكة المشرفة في القرن الرابع عشر الهجري

 


الموضوع من إعداد :  الفضل قطان | نشر بموقع قبلة الدنيا في 1436/7/20هـ  | معالجة الصور : حسن مكاوي