حوار مع د.عبدالوهاب ابوسليمان
لم يكن اللقاء والحوار مع الدكتور عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان العالم الفقيه، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو المجامع الفقهية أمرا سهلا إذ تطلب الإعداد الاطلاع على عدد كبير من دراساته التي أنجزها في مجالات الفقه والأصول ومناهج البحث وفقه المعاملات فضلا عن دراساته الحضارية المتعلقة بالتاريخ الثقافي والحضاري للمسجد الحرام والمواضع المحيطة به. إذ كتب أبو سليمان عن توسعة المسعى وسوق المسعى ومكتبات باب السلام والوراقين المكيين ومكتبات مكة المكرمة في موقع مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، والمسجد الحرام الجامع والجامعة، وغيرها من الأعمال التي توثق التاريخ الحضاري لمكة المكرمة.
جامعاتنا تملأ الفراغ
• تميز جيلكم بالتحصيل العلمي على مدرستين: مدرسة كبار علماء الحرمين الشريفين من المحدثين والفقهاء على اختلاف مذاهبهم وطالب في أرقى الجامعات والمعاهد العالمية .. فهل لكم أن تحدثونا عن تجربتكم الذاتية؟
•• نعم .. أحمد الله أني نهلت من المدرستين مدرسة وجامعة المسجد الحرام وكذلك المعاهد والجامعات المعروفة في الداخل والخارج، فقد أدت كل واحدة من تلك المدرستين دورها في تأهيلي. وفي حلقات المسجد الحرام كنا نمارس الملازمة وقد لازمت دروس شيخي العلامة حسن مشاط في حلقته وفي داره حتى اكتسبت من علمه الكثير ولازمته حتى اكتسبت من خلقه ما مثل لي مفهوم القدوة في سلوك العلماء متأدبا على يديه يرحمه الله. أما في المعاهد والجامعات فالتحصيل يتم على نظم دراسية تنتهي بالحصول على درجة علمية. وقد أدت المدرستان دورهما في تكويني.. ويصح القول بأن المسجد الحرام له دوره المعروف في التكوين والجامعات لها شخصيتها ومنهجها لأجل محاولة ملء الفراغ الذي افتقدناه في السابق، وبالتالي أصبح التكوين في الحاضر منوطا بالجامعات، وكما يقول الشاعر أبو الحسن التهامي: «ومكلف الأيام ضد طباعها .. متطلب في الماء جذوة نار» .. فالكل أدى دوره على نمط عصره ومقتضيات زمانه.
المسجد الجامع والجامعة
• كتابكم (المسجد الحرام: الجامع والجامعة) يجسد بجلاء دور المسجد الحرام في إذكاء الثقافة الدينية والاجتماعية من خلال الأنشطة الاجتماعية التي كانت تتوافر حول المسجد الحرام وساحاته، فهل ترون أن ذلك الدور الذي استمر لقرون أنيط بالجامعات؟
•• لا شك لدي في ذلك، وجامعة أم القرى ـــ على سبيل المثال ــ قامت بالدور الذي كان يقوم به المسجد الحرام في ذلك الوقت وهذه الجامعة تقوم أيضا بأدوار عديدة أخرى فلديها كليات طب وصيدلة وهندسة وغيرها من الكليات التي لم تكن موجودة فكل منها يجسد عصره وظروفه ومتطلباته.
من استنتاجات «سنوك»
• أنقل عن الدكتور محمد الشامخ في كتابه (التعليم في مكة المكرمة) مقولته: «وحتى في أحلك الظروف التي مرت على العالم الإسلامي ظلت ساحات الحرمين الشريفين منارات إشعاع وتنوير طيلة العصور» ما تعليقكم وكتابكم (المسجد الحرام: الجامع والجامعة) يترجم المقولة؟
•• مقولة الدكتور الشامخ صحيحة أخي خالد.. تعلم أن العالم الإسلامي مر على ظروف صعبة من التخلف العلمي والاجتماعي في بعض العصور حين سادت الأمية في معظم أرجائه ولكن الحرمين الشريفين حملا منارات العلم حتى في تلك الظروف الصعبة من التخلف والأمية.
وفي كتابي (المسجد الحرام: الجامع والجامعة) اقتبست فكرة عنوانه من استنتاجات المستشرق الهولندي سنوك الذي وصف ساحات المسجد الحرام بالجامعة. كان وصفه مستمدا من فهمه لمعنى الجامعة في الغرب وهو على معرفة بجامعة ليدن أقدم جامعات هولندا وقال سنوك: «إن المسجد الحرام هو أنشط المعاهد العلمية في العالم الإسلامي بأكمله». وقد استشهدت برأيه حين ذكر أن بعض العلماء في ذلك الوقت كانوا يجدون صعوبة في توفير مكان لحلقاتهم حين كانت حركة الحلقات تستمر على مدى 24 ساعة في اليوم. واستشهدت أيضا بما كتبه محليون كالشيخ أحمد الغزاوي والشيخ العكاس في هذا الشأن.
الحفاظ على الآثـار
• لديكم بصمات كثيرة في المحافظة على الآثار المكية الثابتة بالنصوص المعروفة بالتواتر، وكان موضوع دراستكم: (الأماكن المأثورة في مكة المكرمة)، فهل استعانت بنتائجه الجهات المعنية بالآثـار؟
••الدولة ترغب في إبقاء الآثـار الإسلامية والمحافظة عليها، ولديها مساعٍ مشكورة في هذا الشأن لكن هناك أصوات لديها توجس لا مبرر له وتتوهم في هذه الآثـار ما ليس فيها، ولهذا كتب بعضهم معترضين على الدراسة التي أشير إليها في السؤال وهي «الأماكن المأثورة في مكة المكرمة».
تطوير منطقة الحرم
• من خلال الاستحضار التاريخي للبنية المعمارية التي كانت تحيط بالمسجد الحرام كانت المدارس والأربطة والأوقاف الخيرية والمكتبات وغيرها فضلا عن الأسواق ومنها أسواق الكتب بباب السلام، فهل تدخل تلك الصورة التاريخية ضمن التخطيط لتطوير منطقة الحرم؟
•• التاريخ الحضاري القديم لمنطقة الحرم لا يدخل أبدا في التطوير الحديث للبنية المعمارية المحيطة بالمسجد الحرام ولم يراع ذلك تماما وتطوير منطقة الحرم أصبحت عصرية معزولة عن تراث الماضي، والمؤكد أن الحاج والمعتمر الزائر يريد أن يرى التاريخ حيا ولكنه لا يجد شيئا من التاريخ القديم ما يذكره بالماضي وهو أمر يحبذه كل مسلم فالمسلم الذي يأتي إلى مكة لتأدية الفريضة يريد أن يرى إلى جانب أداء تلك الفريضة أشياء أخرى تذكره بالتاريخ الإسلامي حيا ولكنه لا يجد أي أثر عن ذلك التاريخ إلا القليل.
فوائد الاختلاف
• كتبتم أول دراسة عن «توسعة المسعى» في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله وكان للتوسعة المباركة نفع وتيسير للمسلمين.. فهل لكم الإضاءة على قضية تلك الدراسة؟
•• قضية «توسعة المسعى» لها بعد تاريخي نقله المؤرخون المكيون، قضاة ومحدثون، فقاضي القضاة النهروالي في مكة ذكر أن المسعى لم يكن في ذلك المكان على أيام الرسول عليه الصلاة والسلام وإنما كان داخل الحرم «داخل الرواق» ولكن وادي الخليل أوسع من ذلك ولذلك لم يكن هناك اعتراض من كبار الأئمة والعلماء سواء من الإمام مالك أو الإمام أبو حنيفة أو العالم محمد بن الحسن الشيباني وغيرهم من كبار العلماء والأئمة الموجودين في ذلك العصر حيث لم يعترضوا على الخليفة المهدي عندما أخرج المسعى من الحرم إلى مكانه الذي نعرفه فالرواية التاريخية هي التي هدتني إلى هذا التغيير وقال إن الوادي أوسع من ذلك وردود الأفعال على هذه الدراسة أوجدت بعض «الخلاف» ولكنه أمر جيد لأنه لم تكتب في الماضي أي بحوث علمية في هذا الشأن عن المسعى منذ القدم سوى في هذا العصر وبالتالي حدوث هذا الاختلاف في الآراء أوجد لنا بحوثا لم تكن موجودة.
ليس فيه شك
• كان للملك عبدالعزيز ــ رحمه الله ــ مواقف كريمة في الحفاظ على بعض الأماكن المأثورة ومنها موافقته على إقامة مكتبة مكة المكرمة في موقع مولد النبي صلى الله عليه وسلم.. فهل تحدثوننا عن هذا الأمر خاصة أنكم كتبتم عن تاريخ المكتبة؟
•• لا شك أن للملك عبدالعزيز رحمه الله دورا كبيرا وهاما في العناية والحفاظ على موقع مولد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أدرك أن على المسلمين معرفة مكان ولادة نبيهم، وهو موضع موثق، وأبو الوليد الأزرقي في القرن الثاني الهجري ضحك عندما سأله ابنه عن مكان مولد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال ليس أثبت من ذلك عند أهل مكة، وهذا موجود في كتابه «أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار» وقمنا بعد ذلك بجمع أهل الحي وفي المقدمة عمدة الحي وتحدث إليهم الدكتور عبدالله شاووش وهو مثقف وأستاذ فيزياء من خيرة أهل العلم فتطابق التواتر العلمي مع التواتر المحلي وأصبح موقع ولادة الرسول ليس فيه شك أبدا وهذا ما أثبته في كتاب «مكتبة مكة المكرمة» ، علما بأن بعض أفراد العائلة كانوا من سكان الزقاق الذي فيه مولد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وجاءت موافقة الملك عبدالعزيز رحمه الله على إقامة المكتبة بعد استشارته لعلماء منفتحين وقد دونت ذلك، وله مواقف مشابهة في المحافظة على الأماكن المأثورة منها تحديثه دار الخيزران ودار السيدة خديجة رضي الله عنها التي أقيم عليها مدرسة لتحفيظ القرآن، وقامت جميـع هذه المشاريـع على نفقة السيدة فاطمة قطان وأشرف على التنفيذ شقيقها الشيخ عباس قطان رحمهم الله جميعا.
أزرقي وفاكهي جديدان
• ألم يحن الوقت إلى الكتابة عن «أخبار مكة في حديث الدهر» أسوة بما كتبه الفاكهي عن (أخبار مكة في قديم الدهر )، وهل لديكم محاولات في ذلك؟
•• دائما أدعو إلى أننا نحتاج الآن إلى أزرقي وفاكهي جديدين، لأن مكة القديمة انتهت وأصبحنا بحاجة إلى من يكتب عن مكة الحديثة.
ولدي محاولات في الكتابة في هذا الشأن وكنت أتمنى عندما تقاعدت أن أتفرغ لهذا الأمر بأن أسيح في مكة وأتجول فيها وأسجل بنفسي ولكن الإخباريين في مكة وأقصد العاملين في مجال الإعلام قاموا برصد الكثير من الأخبار والأحداث وتم توثيقها إلكترونيا مما اختصر الكثير من الجهد ولكن هذه المعلومات بحاجة إلى إعادة فرز ومعالجة طويلة حتى ينجز عمل ضخم عن أخبار مكة في حديث الدهر كما أن المتغيرات في مكة سريعة ومن زار مكة العام الماضي لا يعرفها هذا العام ولكن أرى بأن هناك جهات رسمية ربما تكون المسؤولة عن إعداد عمل كهذا ويجب أن تكلف به حتى لا تثار بلبلة حين تكتب طروحات مختلفة بين المجتهدين، ولذلك فإنني أقوم حاليا بإجراء دراسة عن المسعى بعنوان «المسعى: المشعر والسوق» من أجل أن تعرف الأجيال القادمة عن حالة المسعى قبل شكله الحالي وتوسعته في العهد السعودي الزاهر والمفروض إصدار بيانات وكتب رسمية لما هو معتبر من سابقات الدولة السعودية في هذه الأماكن الطاهرة لتكون وثيقة صادقة عما يدور على هذه الأرض المباركة.
فـرق تسد
• العالمان العربي والإسلامي يمران بأزمة طائفية تنذر بمخاطر وصراعات فما رأيكم وما الأسباب وكيف يمكن تجنب الوضع المتأزم ؟
•• كثيرون يدركون الأزمة ومخاطرها ويكتبون في شأنها ويدركون أسبابها فالحقيقة أن الله سبحانه وتعالى خاطبنا بالمسلمين والمؤمنين ولم يخاطبنا بانتماءاتنا الطائفية أو بمذاهبنا ونحن جميعا عربا ومسلمين ننطق بالشهادتين فإن خضعنا جميعا باختلاف انتماءاتنا وآرائنا المذهبية لذلك التوجيه الإلهي الذي وحدنا الله به لسهل تجنب الصراعات والانزلاق في مخاطر الاختلاف. أما مبتدعو الصراعات الطائفية والداعون لها يفرقون ولا يجمعون لأنهم على مبدأ «فرق تسد» ولعلكم تعرفون من هم وراء تأجيج تلك الصراعات. والمفترض أن يكون المسلمون أنضج وأوعى من الانزلاق نحو تلك الأزمات التي أدت وتؤدي بنا إلى مزيد من الضعف حتى تتغلب علينا الأمم الأخرى ويضعف حال المسلمين.
القتل والهدم
• في زمن ما سمي بالربيع العربي خرجت علينا بعض الجماعات المتطرفة بآراء فقهية وفتاوى تستغل فيها حالة الفوضى وتدعو للتطرف باستخدام الإرهاب .. كيف نتصدى لهم ؟
•• هذه الجماعات تخرج عن تعاليم الدين الصحيحة فالإسلام لا يجيز القتل وإنما يدعو إلى حماية النفس يدعو إلى إعمار الأرض ويحارب الهدم والحرق. إنهم يعيثون فسادا معتمدين على فتاوى خاطئة يسوقونها للأطفال والسذج، وجزاء المفسدين محاربتهم وحماية البلاد والعباد من شرورهم.
التاريخ القويم
• التطوير المبارك لمكة والمسجد الحرام هل تتم الاستعانة فيه بآراء العلماء من الفقهاء والمؤرخين المكيين على قاعدة أن أهل مكة أدرى بشعابها؟
•• حقيقة لا يوجد ذلك في الوقت الحاضر ، وقد أثرت هذا الأمر في أكثر من مناسبة في أكثر من مكان والملك سعود ــ رحمه الله ــ في عهده كان يتخير من علماء مكة وعلماء المملكة من يشرفون على التطوير والشيخ محمد طاهر كردي رحمه الله لديه عمل من ستة مجلدات وهو (التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم) لأنه كان أحد المشرفين الرسميين المشرفين على العمل والآثار الموجودة في الحرم المكي الآن هي نتيجة لجهود هؤلاء والرئاسة العامة لشؤون الحرمين مفترض أنها تقوم الآن بهذا الدور ، ولا شك أن بها من الشخصيات من نقدرهم ولكنها تحتاج إلى الاستعانة بمجموعة من الناس من العارفين في التاريخ المكي ودور الحرم المكي وبيئته ومحيطه حتى تتهيأ لهم مختلف الآراء والخبرات فيتخذون الأصوب من القرارات فيما يتعلق بتطوير منطقة الحرم.
إصدار الفتاوى
• في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز ــ رحمه الله ــ صدر قرار بتحديد الفتاوى في جهات الاختصاص ولكن يلاحظ انتشار الفتاوى الشرعية عبر وسائل الإعلام الجديد من قبل بعض الدعاة دون ضوابط.. فما تعليقكم؟
•• الدولة قامت بواجبها في ذلك الأمر ومن لم يستجب وخاصة ممن لا يملكون الحق في إصدار الفتاوى فهؤلاء يخالفون التعليمات والأنظمة ويخرجون عن طاعة ولاة الأمر ، أما الدولة فقد أدت واجبها حيال هذا الأمر والتاريخ يذكر لها ذلك بكل ثناء ومسألة الفتاوى وتقنينها فهي لا تخص الوطن وحده وإنما تخص أمة بأكملها.
الفقهاء والتاريخ
• الفقيه الذي لا يعترف بالواقع لا يعترف به التاريخ ولا الواقع.. هل يتعايش العلماء في المملكة مع فقه الواقع ومتغيرات الحياة؟
•• وجود المجامع الفقهية دليل على ذلك ولا تخرج القرارات منها إلا نتيجة للواقع المتغير، ووجود هذه المجامع أمر جيد لأنها سدت ثغرة كبيرة جدا في الناحية الفقهية وأي فقيه لا يعترف بالواقع لا يعترف به أحد ولا يعترف به التاريخ ومن جملة شروط الفتوى أن تكون مطابقة للواقع، ولذلك فإن تجديد الفقه على حسب حاجة المجتمع ضروري فإذا كان مستوى المجتمع راقيا تكون أسئلته راقية ولهذا تعتبر كتب الفتاوى مصادر أولى لعلم الاجتماع بمعنى أنك ممكن أن تدرس القرن الحادي عشر عن طريق الفتاوى لأن الفتوى تعطي فكرة عن المستفتي وعن المفتي أيضا.
مفهـوم الاقتصاد
• ما رأيكم في محاولات أسلمة الاقتصاد تحت مفهوم الاقتصاد الإسلامي الذي نجحت المملكة في التقدم خطوات فيه؟
•• المملكة ودول إسلامية أخرى وهيئات بنكية تخطو خطوات كبيرة في هذا الشأن وحققت نجاحات ملموسة تضافرت فيها جهود عدة. وكانت هناك ملاحظات على تمويل بعض المشاريـع التنموية الحيوية كشبكة القطارات وتطوير المدن الصناعية وبعضها يتعلق بالأفراد كالشراء المحدد بزمن بعينه Time Share وطرق تمويله وكذلك نظام البناء والتشغيل والتحويل أو البناء والتشغيل ونقل الملكية (B.O.T) كل تلك الأمور يجرى دراستها ووضع الحلول لها بما لا يتعارض مع المبادئ الاقتصادية الإسلامية.
التدريس في الجامعات
• انتدبتم للتدريس في الخارج لمرات عديدة كأستاذ زائر أو بهدف التفرغ العلمي .. ما هي أبرز الجامعات الخارجية التي عملتم بها؟
•• حاضرت ودرست في العديد من الجامعات في الخارج عن طريق برامج دراسات التفرغ العلمي في جامعة أم القرى التي استغللتها كل خمس سنوات حتى بلغت التقاعد وقمت بالتدريس في العديد من الجامعات العالمية منها جامعة هارفارد التي عملت فيها كباحث وأستاذ زائر ، وقمت بتدريس مادة عن المعاملات المالية وفق منظور الفقه الإسلامي، وحاضرت أيضا في جامعات بوسطن ونورث كارولاينا في الولايات المتحدة والجامعة الإسلامية في ماليزيا، وأيضا في جامعة مفيد في قم بإيران ولكن ليس عن طريق جامعة أم القرى بل عن طريق معهد البحوث والتدريب في البنك الإسلامي للتنمية.
الطرق والمناهج
• في مرحلة دراساتكم العليا درستم الفقه والقانون في بريطانيا.. ومزجتم بين التخصصين بهدف الاستفادة في تقنين الفقه، فما استفادتكم من دراسة الفقه المقارن في الغرب؟
•• الأمر الجوهري هو أن الفقه الإسلامي مبني على مصادر تشريعية أساسية ذات قيمة وذات أهمية كبيرة جدا في القرآن والسنة والقياس وأجيال عديدة شاركت فيما ليس من الكتاب والسنة، والقانون به جوانب تشريعية وضعية وكلا التخصصين يخدم الإنسان، فالفقه يخدم من خلال الوحي المنزل والقانون بالوضع. وبالنسبة إلى تقنين الفقه فالواقع يتطلب هذا ولذلك أقبلت الدولة عليه منذ عام 1356هـ ، ولدينا مجلة الأحكام الشرعية للشيخ أحمد القاري ، وهو من علماء مكة وأحد قضاتها وأعدها على طريقة مجلة الأحكام العدلية وكثير من القضاة يستفيدون من مجلة الأحكام الشرعية ولذلك الآن المجلة تطبع الطبعة الثالثة وقد اشتركت مع زميلي الدكتور محمد إبراهيم ــ رحمه الله ــ في دراسة وتحقيق مجلة الأحكام الشرعية عام 1401هـ وأرجعنا كل نص إلى مصدره الأصلي في كتب الحنابلة.. أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال، فلم يكن هناك تدريس للفقه لأني باحث أتطرق فقط إلى دراسة طرق ومنهج البحث لا أقل ولا أكثر.
• ما هو عملكم القادم؟
•• أعمل الآن على إعداد كتاب بعنوان «الفكر الأصولي» عن أصول الفقه بفكر جديد، ودراسة ناقدة لأن الفقيه عندما يكون أصوليا فهو أمر طيب ولذلك كتاب الأم للإمام الشافعي لا يمكن أن يدرسه فقيه بل فقيه أصولي لأن الإمام الشافعي وضع أصول الفقه في كتاب «الأم»..
الفقه صناعة واجتهاد وإبداع
ولد أبو سليمان في مكة المكرمة وعاش في رحاب المسجد الحرام وساحاته ونهل من علمائها وفضلائها من أعلام الرجال ومشايخ الحلقات كما تتلمذ على عدد منهم أبرزهم الشيخ حسن مشاط حتى صار أحد أبرز وأنجب تلاميذه.
لم يقف الدكتور أبو سليمان عند حدود العلم التقليدي في حلقات المسجد الحرام وملازمة مشايخه بل واصل التحصيل العلمي ملتحقاً بأرقى الجامعات العالمية فحصل على درجة الدكتوراة من جامعة لندن عام 1970م في الفقه والقانون المقارن حائزاً على تقدير أستاذه البروفيسور نويل كولسون.
أتاحت له دراسته المقارنة بين الفقه والقانون الوضعي له اتساع الفطرة في استنباطات جديدة في المقاصد، وفقه الواقع. ويذكر الدكتور أبو سليمان بالعلماء الموسوعيين الذين أثروا حياتنا الدينية والثقافية. ونافح في عدد من القضايا المهمة ومنها قضية المسعى وتعيين الأماكن المأثورة في مكة المكرمة، وتأكيد موضع مولد الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة حتى نالت أبحاثه التقدير والاحترام شرقاً وغرباً. ويحسب له انفتاحه واستنارته بآراء المذاهب الإسلامية المختلفة، إذ يرى أن الفقه صناعة وابتكار واجتهاد وإبداع لا يقف جامداً عند المقولات فحسب بل يستنبط من الواقع والمعاصرة دروسها.
الانتساب إلى أم القرى شرف كبير
• سألناه: كثير من المكيين يضربون في الأرض فنرى بعض أعيانهم يؤثرون العيش في مدينة جدة مثلا، بم تنصحون الشباب عن فضائل السكن بمكة المكرمة؟
•• الانتساب إلى مكة شرف كبير وهي أحب بلاد الله وفيها بيته المعظم ولها من الفضائل ما يفوق أي مدينة أخرى على وجه الأرض، ولقد أطلق على الساكنين فيها ألقاب: جيران الله، وأهل الله، وغيرها، فهل هناك شرف أكثر من ذلك.
أما السكن فيها فيرتبط بأسباب المعيشة فيها وتوافر فرص العمل.. والسعيد من توافرت له أسباب المعيشة فيها.. نسأل الله أن يحفظ شبابنا ويعينهم على خدمة ترابها الطاهر.
لم أجد حرجا في التدريس بجامعة إيرانية
سألت الدكتور أبو سليمان: ألم تجد حرجا وصدا في مسألة التدريس في إيران على خلفية الخلافات المذهبية والعقائدية.. فأجاب:
في جامعة مفيد قمت بتدريس المعاملات المالية في الفقه الإسلامي ولم أجد أي صعوبات في ذلك الوقت بل وجدت من الجميع الترحيب والقبول ولم أكن مسؤولا عن تدريس أمور العقيدة وليست مجال تخصصي ولا أتدخل فيه، والإمام الشافعي عندما سأل والدته التي كان يستشيرها ويستنصح منها فسألها عن التخصص في مجال العقيدة أم الفقه فقالت له في العقيدة هناك مسلم أو مرتد بينما في الفقه صحيح أو باطل فإيهما أفضل، فقال صحيح أو باطل خير من الخروج من الإسلام إن اخطأت.
وفي مسائل الفقه لا أضع تفرقة بين الآراء الفقهية، لأننا نحن أهل السنة مختلفون فيما بيننا في العديد من الأمور الفقهية فلماذا نحظر الخلاف على غيرنا، وبالتالي لم أجد حرجاً في التدريس في جامعة مفيد، أما العقيدة فبينهم وبين الله ولست مسؤولاً عن عقيدتهم، والله عز وجل سيسألني عن عقيدتي وليس عن عقائد الآخرين.
حقيقة مقولة «عوام مكة علماء»
● ذكرتم في عدة مناسبات بأن: «عوام مكة علماء» ماذا تقصدون بتلك العبارة، وهل تذكرون لنا نماذج تجسد تلك المقولة؟
•• قصدتها من خلال تجربتي الشخصية في الفترة الزمنية التي نشأت فيها في مكة لأن في تلك الفترة كان لا بد على كل فرد من سكان مكة أن ينزل إلى الحرم المكي في فترة ما بين المغرب والعشاء ولا بد أن يلازم أحد العلماء أو يلازم حلقة من حلقاتهم، وكنت أعرف بأن من لقب بشيخ العلماء في مكة كان رجلا عاميا يلبس «قميصا وفوطة» وكان يستدرك على بعض العلماء ولذلك سمي بشيخ العلماء. وهناك نماذج أخرى سجلها الرحالة حين كانوا يأخذون النسك من بعض العوام. ويروي بعضهم أنه حين أراد التحلل من الإحرام ذهب إلى أحد الحلاقين عند المروة، فأعلمه عن كيفية الجلوس عند الحلاقة وصيغة الدعاء حتى يستكمل نسكه.
وأطلق على أحد العوام المكيين لقب (بَرِّحلو) لأنه كان يقتحم الحلقات من شيخ إلى شيخ، ويحاور مستندا إلى ما سمع من شيخ آخر. ولهذا كله تصدق العبارة على العوام الذين كانوا يتحلقون حول العلماء أو يعملون في خدمات الحج كالطوافة وغيرها.
المصدر : صحيفة عكاظ 1436/7/27هـ | حاوره :خالد عباس طاشكندي
0 تعليقات