من قبلة الدنيا مشاهد رمضانية بين الماضي و الحاضر
لشهر رمضان المبارك أجواءه المختلفة عن باقي شهور العام حيث تختلف العادات والثقافات فيه في كثيرٍ من بلاد المسلمين كتنوع الأطعمة والمشروبات وبعض المأكولات الخاصة برمضان وتنوع مظاهر الحياة اليومية طوال شهر رمضان .
وفي الحجاز بشكلٍ عام ومكة بشكلٍ خاص أجواءٌ إيمانيةٌ وروحانيةٌ لوجود بيت الله الحرام في هذه البقعة الطاهرة ، وتتعدد الصور والمشاهد بمكة في شهر رمضان ، وخلال فترات تاريخية سابقة كان للرحالة العرب والأوروبيين دورٌ كبيرٌ في نقل صور ومشاهد لأجواء مكة المكرمة والمسجد الحرام في شهر رمضان ، وقد كانت أجواء مكة ملهمة لكثير من هؤلاء الرحالة الذين وصفوا ما رأوه من جمال وروحانية .
فالرحالة ابن جبير الأندلسي من أشهر الرحالة المسلمين الذين كتبوا عن رمضان في رحلاتهم حيث يصف لنا ابن جبير الذي وصل مكة سنة 579هـ ذلك المشهد الجميل لاحتفالات المكيين بقدوم شهر رمضان وما يقومون به من تجديد للحصر وزيادة للمشاعل والقناديل التي تضاء في المسجد الحرام ابتهاجاً بقدوم شهر رمضان المبارك .
مشهد يكرر وصفه الرحالة العربي أبوعبدالله بن إبراهيم المعروف بابن بطوطة (703-779هـ) والذي وصف استقبال شهر رمضان في مكة بقوله :" وإذا أهلَّ هلال رمضان تضرب الطبول والدبادب عند أمير مكة ويقع الاحتفال في المسجد الحرام من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعل حتى يتلألأ الحرم نوراً ويسطع بهجة وإشراقاً " .
مشهد آخر يصفه لنا الرحالة الإنجليزي جوزيف بتس (الحاج يوسف ) وهو أول انجليزي يزور مكة سنة 1680م /1091م فيقول بتس :"وفي شهر رمضان يتم ملء أباريق المسجد الحرام بماء زمزم وتوضع أمام الناس ومعها أكواب قبيل أذان المغرب وبمجرد أن يؤذن المؤذن من فوق المئذنة يشربون من هذا الماء بنهم قبل أداء الصلاة ".
ولا بد أن نذكر من الرحالة الأوروبيين المستشرق الهولندي هورخرونية سنوك (السيد عبالغفار) الذي زار مكة في 1302-1303هـ/1884-1885م وهو أول مصور فوتوغرافي يزور مكة ، وقدّم كتاباً رائعاَ عن الأحوال والمظاهر الاجتماعية في مكة المكرمة ومنها مظاهر شهر رمضان حيث يذكر سنوك أنه في النصف من شعبان يبدأ الحديث عن شهر رمضان وهناك نكتة تقال للأطفال في العشرين من شعبان وهي : أن الشيخ رمضان قد بدأ رحلته مع القافلة القادمة من المدينة وسيكون في مكة بعد عشرة أيام وفي كل يوم يقطع الشيخ رمضان مسافة ويصل إلى مكان يُسمّى للأطفال وفي نهاية المطاف يبقى الأمر غير مؤكد فيما إذا كان سيصل في يوم أو يومين ، لأن بداية شهر الصوم تعتمد على رؤية الهلال أو على إكمال شعبان ثلاثين يوماً فيمل لم يرَ الهلال .
- تشويق جميل وتهيئة رائعة لاستقبال شهر رمضان ..
ويصف لنا سنوك مشهداً آخر في ليلة رمضان وكيف تتغير حركة الأسواق بعد سماع المدافع معلنة بداية شهر رمضان حيث تصبح الأسواق أكثر حياة وحيوية ويتفنن الباعة في صناعة أطباق الحلوى الرمضانية .
وفي أيام شهر رمضان وقبل أذان المغرب يصف سنوك تلك الجماهير المحتشدة من الصائمين التي تدخل المسجد الحرام وكل واحدٍ منهم يحمل حقيبة صغيرة أو سلة مليئة بالخبز والتمر والزيتون والتين ويأخذون أماكنهم بإنتظار لحظة الإفطار .
وفي هذه الأيام يشاهد المسلمون عبر شاشات التلفاز ذلك المشهد الذي يتكرر يومياً في رمضان وتلك السفر الممتدة في المسجد الحرام وبها التمر وماء زمزم وغير ذلك من نعم الله على عباده في هذا الشهر المبارك .
هذا المشهد له جذوره التاريخية كما ذكرنا في كتب الرحالة السابق ذكرهم ولكن الرحالة السويسري جون لويس بوركهارت ( الحاج ابراهيم بن عبدالله ) الذي كان يعمل لصالح الجمعية الأفريقية البريطانية التي كانت تدفع له أجر يومي قدره جنيه واحد ، والذي زار مكة المكرمة في رمضان قبل 200 عام سنة 1230هـ/1814م ، قدَّم لنا وصفاً رائعاً لذلك المشهد الذي رآه في المسجد الحرام وتلك الجموع التي تأتي إلى الحرم قبل صلاة المغرب في رمضان وكل واحدٍ يحمل منديله ؛ وبها التمر وقليل من الخبز والجبن وبعض حبات العنب وأمامه جرة ماء زمزم وخلال فترة انتظار وقت الإفطار يقدم الجالسون لبعضهم البعض بأدب مما لديهم من طعام ويتلقون منهم ما يقابله ، وبمجرد أن يؤذن المؤذن يشرع كل فرد بالشرب من جرة ماء زمزم ثم أكل قليل من التمر قبل أن يؤدي صلاة المغرب .
- صورتين متطابقتين من زمانين مختلفين في مكانٍ واحد بجوار بيت الله الحرام .
والمشهد الآخر الأجمل عندما يصف بوركهارت وقت صلاة العشاء وتلك المصابيح التي يبلغ عددها بالآلاف والتي تُضيء المطاف والأروقة بالإضافة للمصباح (الفانوس) الذي يحضره كل شخص ويضعه على الأرض أمامه ..
- كيف سيكون هذا المشهد لو أُخذت له صور بتقنيةٍ متطورةٍ كما هي اليوم . . تأملوا ! !
إن روعة هذا المشهد كما يصفه بوركهارت بالإضافة لنسمات الهواء البارد التي تهب عبر باحات المسجد الحرام ، تدعو كثيرين لتمضية الوقت هنا حتى منتصف الليل .
إن هذين المشهدين يكتملان روعةً وجمالاً بأسراب الحمام .. حمام بيت الله الذي يطوف في كل أنحاء المسجد وتلك الأحواض الحجرية الصغيرة التي تُملأ بالماء بشكلٍ منتظم ليشرب منها هذا الحمام ، وتلك النسوة اللواتي يجلسن على حصر من القصب ليبعن قمحاً وذرةً يشتريه الحاج والمعتمر لينثره طعاماً للحمام .
- نعم إنها صورٌ ومشاهدٌ إيمانيةٌ بنفحاتٍ رمضانيةٍ تبث نسائم الإيمان وتنشرُ في القلب نوراً وطمأنينةً في هذا الشهر المبارك بجوار بيت الله الحرام .
موضوع خاص بموقع قبلة الدنيا | بقلم الباحث و المتخصص في التاريخ منصور مرزوق الدعجاني | نشر على الموقع بتاريخ 1436/9/6هـ
0 تعليقات