ذكرى حياة السيد محمد علوي المالكي الحسني وحديثٌ لا ينتهي

في مثل هذا اليوم 15 من شهر رمضان المبارك قبل 11 عاماً بالتمام ودّعتْ مكة المكرمة والعالم الإسلامي أحد أعلامه البررة الذين خدموا الإسلام بالدعوة إلى الله ونشر دينه الحق وتصحيح المفاهيم ، ومن خلال أكثر من 60 مؤلفاً في السيرة النبوية والعقيدة والفقه والحديث والثقافة والتاريخ الإسلامي ، وعشرات المعاهد الدينية في أطراف العالم الإسلامي ، وعشرات الآلاف من طلبة العلم في كل مكان .

   مسقط رأسه في باب السلام أزخمُ أبواب المسجد الحرام ثقافةً وحِرَاكاً ؛ حيث سوق الكتب الكبير في العاصمة المقدّسة ، مشرفاً على حلقة والده العلامة السيد علوي ومن قبله جده السيد عباس مفتي المالكية في البلد الحرام بزمنه ، في سلسلة متصلة من الأجداد العلماء الأعلام الذين ملؤوا أروقة وحَصَواتِ الحرم المكي الشريف علماً وإفتاءً على مدى ستة قرُون مضت .

   حمَل هذا الإرث والتاريخ العريق معه ولم يُرضِهِ إلا الزيادة عليه عِلْماً وشَرَفاً ومكانةً عبر النهل من العلوم ومشايخ البلد الحرام ومن يفِدُ إليه من العلماء الحاجّين والمجاورين ، بل رحل في طلب العلم والعلماء مع الاتصال والاستجازة ؛ مما أوصل سنده في دواوين الحديث والفقه والعلوم الشرعية عموماً للأكابر من العلماء المُسندِين والحَفَظة المُتقنين حتى انتهى إليه الإسنادُ في عَصْرِه ؛ تشهد بذلك أثباته في الأسانيد المطبوعة المنشورة .


    كان السيد محمد بن علوي المالكي الحسني - خرّيج مدارس الفلاح بمكة المكرمة وحلقات المسجد الحرام - قد أكمل طريقه العلمي عبر جامعة أم القرى التي تخرّج منها إلى جامعة الأزهر الشريف ؛ حيث أتمّ فيها الماجستير والدكتوراة بامتيازٍ وتميّزٍ أبْهرَ أساتذته من مشايخ الأزهر الذين كانوا يرون فيه علَماً ذا شان .. وصدق تلميذه الشيخ محمد علي الحتيرشي الهذلي حين نظم :
أبداً فما جادَ الزمانُ بمثلهِ
        في عِلمهِ في جُودهِ ما جَادا

ظلّ على ما كانَ منْ أسْلافهِ
        ما حَادَ عنْ مِنْهاجِهم ما حَاد

ما غابَ منهُم كوكبٌ في أفقِهِ
        إلا رأينا كوكباً وَقّادا

   ملأ عين والده العلامة السيد علوي فخراً حتى شهد له أساتذتُه بالعلم والجدارة ؛ فكانتْ وفاةُ والده نقطةُ انطلاقه بالتدريس في حلقته بالمسجد الحرام صدّرهُ فيها كبار علماء البلد الحرام في زمنه : الشيخ حسن المشاط ، والشيخ محمد نور سيف ، والشيخ عبد الله دردوم ، والشيخ إسماعيل الزين ، والشيخ عبد الله اللحجي وغيرهم ؛ وكان له القَبُول وامتلأت دروسه بالطلاب والمستمعين من الخاصة طلاب العلم ومن العامة من أهل مكة والزائرين ، وأخذ الناس يتنادون لحضور دروسه خاصةً في رمضان الذي كانت ذكرى يوم بدْر فيه – 17 رمضان – أكثر الأيام وأزحمه حضوراً بحلقته في باب السلام يتجاوزون فيها الألفين والثلاثة آلاف ، حتى أنه في إحدى السنوات نُقل هذا الدرس من الحرم عبر شاشة القناة السعودية الأولى ولأوّل مرةٍ في الإعلام السعودي .

واجه الصعُوبات والعَنَتْ والتضييق ومصادرة الرأي وقمْعِهِ ؛ حينما لم يقبل بالمفاهيم المَغلُوطة – التي ارتفعَ صوتُها واستشْرَفَ خطرَها في زمنِهِ -  القائمة على تبديع وتفسيق الآراء المخالفة للرأي الواحد خاصةً في موضوعات : الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، والتوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم ، والمدح النبوي الشريف ، وشدّ الرحال لزيارة النبي  صلى الله عليه و سلم ، وغيرها من المسائل التي اختلف فيها العلماء منذ القِدَم ، وكان لكل منهم أدلته وفهمه للدليل الشرعي واجتهاده فيه مع احترامهم لآراء بعضهم وعدم الاعتداء على من خالفهم في تلك الأزمان ! فنشرَ كتبه في تصحيح تلك المفاهيم مع كامل التقدير لصاحب كل رأي مخالف أو مُتفق ، والتي قوبلتْ بهُجُومٍ شَرِسٍ وتَجْرِيحٍ في عقيدته ونَسَبِهِ وديانتِه لم تُثنِهِ عن قول الحق والثباتِ عليه .

لقد كانتْ عقيدته القائمة على الوَسطية والسماحة وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي أودى إهمالُها إلى ما يَجْري في زمننا من تكفير وتفجير وانسلاخٍ من الوطن وتشويهٍ لصورةِ الإسلام النقي ، فقد حذّر - رحمه الله - من خطر التكفير قبل أكثر من 40 عاماً في محاضراته وفي كتبه وخاصةً كتابه "التحذير من المجازفة بالتكفير"، وكان صاحب مواقف سابقة ولاحقة في التحذير من الغلو المفتّت لعضُد المسلمين ووحدة الوطن منذ أحداث الخوارج بقيادة جهيمان في احتلال الحرم المكي الشريف عام 1400هـ حتى آخر الأحداث بالمملكة والعالم الإسلامي .

    ورغم أنه سليل أسرة علمية متسلسلة الأصول والفروع في المذهب الفقهي المالكي إلا أنه كان دائماً يقول :"أنا ابن المذاهب الأربعة" وفي مجلسه العلمي يجتمع علماء المذاهب الأربعة حقاً طيلة العام ؛ فقد كان منهجُه السَّمْح البعيد عن التعصّب وإقصاء الآخر رسالةَ سلام لكل المذاهب الإسلامية التي كان علماؤها يلتقونَ في مجلسه بموسمي رمضان والحج بكل احترام وتقاربٍ ؛ فترى علماء الشيعة يحضرون بكل احترام ولا تجاوُزٍ ومثلهم علماءُ الإباضية والمذاهب الأخرى ، فلا تتّسعُ الساحةُ المَكيّة لغير الاحترام المتبادل دون قبول لأي تجاوزات مهما كانتْ .

إنّ البيئةَ المكيّة التي امتزجتْ بدِماءِ هذا الرجل الذي توارث العلم والحياة بها أباً عن جد منذ أكثر من ستة قرون ، قامَتْ على مَبدأ التعايش وقبول كل الأطياف وصهْرِها في قالبٍ التسامح المكيّ الذي يغرفُ من قبَسِ القِبلة التي وحّدتْ الكون ، ويَرْشِفُ من مَعينِ زمزمَ الذي طهّرهُ وطيّبهُ اللهُ على ألسنةِ المُؤمنينَ ، ويتتبعُ مواطِنَ الإجابةِ في تُرَاب محرّم شاركَ في تكوينهِ العزيزِ الانتماء لهذه الأرضِ المُبَاركة ؛ لا يرضى عنها بديلاً ؛ فيها طيبُ عيْشهِ ومماتُه بها غايةُ منتهاه .

    لذلك حينما شاركَ – رحمه الله - في اللقاء الوطني الثاني للحوار الفكري الذي عقد في مكة المكرمة ( 4-8 ذو القعدة 1424هـ ) وكان موضوعه "الغلو والاعتدال" ؛ كان الملتقى دُرّة لقاءات الحوار الوطني حضوراً وتمثيلاً لأطياف الوطن الكبير ، ولم تحقّق لقاءات الحوار الوطني اللاحقة ما حقّقهُ هذا اللقاء من لُحْمة وأثرٍ على مستوى البلاد ، والمفارقة العجيبة أن يُشارك بكل سماحةٍ وأريحيّةٍ - وهو ضحية الغلو والتعصّب الديني - ليؤصّل للاعتدال الذي هو منهجه طيلة حياته العلمية والعملية على طاولةٍ واحدةٍ مع مَنْ كانتْ أصواتُهم تصدَحُ بتبديعه وتفسيقه وربما تكفيره ليل نهار ! تلك أخلاقُ الكِبار لا تهزّها الريح كالجبال .

وبعد أقلّ من سنة على عقد لقاءات الحوار الوطني ؛ كانتْ وفاة ذلك العلامة المكّي الراقي ، يصف لحظاته الأخيرة تلميذُه الشيخُ محمد فريد أبو زبيبة بأسلوبه العذب يقول :" وهو الذي أرادَ اللهُ جلّ جلاله إظهارَ كرامته ومدى محبته سبحانه وتعالى له في آخر لحظات حياته ؛ حين اشتاقَ الحبيب لحبيبه ؛ فاختاره سبحانه إلى جواره في ساعة ، وليلة ، وشهر ، وحالٍ يتمنّاهُ كلُّ مؤمنٍ .. إنه شهر رمضان المبارك ، في النصف منه ، في ليلة الجمعة ( ليلة مولد جدّه الحَسَن بن علي  ) ، في ساعة السَّحَر قبل انبلاج الفجر ، صائماً قد صلى العشاء معنا في جماعة ، وأقام التراويح ، وختم ليله بالوتر ؛ فأجاب ربه ( رحمه الله تعالى ) ، وخرجتْ جنازتُهُ يوم الجمعة ليلة السبت 15 /16 رمضان 1425هـ في مظهرٍ للجنائز لم تشهد مكةُ مثلَه قبلَهُ أبداً ".

  وصدق وأبدع شاعر المدينة المنورة عبد المحسن بن حلّيت في رثائه بقصيدة طويلة معبّرة تعتصرُ دُمُوعَ طلابهِ ومُحبّيهِ في كل وقت وحين ، منها :
يا أيّها الحيُّ الذي تحت الثرى
        ما زال صوتك بيننا يتردّدُ

ما زلتً تأتينا وتجلسُ بيننا
        وتقولُ : قال الله قال محمدُ

هل أنتَ حيٌ لا تراهُ عيونُنا ؟!
        أم ميّتٌ في كل يوم يُولدُ ؟!

يا سيداً في موته وحياته
        هذا وداعٌ ناره لا تبردُ

ستظلّ فارسنا الذي تاريخه
        يُتلى على سمع الزمان ويُسردُ

أسقيتنا لبنَ الإباء وخمرهُ
        وتظلّ تسقينا ونحنُ نعربدُ

وغداً ستنتصرُ القلوبُ وينتشي
        وطنٌ هو الحب الكبير الأوحدُ

  رحم الله شيخنا ووالدنا الذي فاقَ من سبَقهُ وتجاوز من بعدَه عِلْماً وفقهاً ، وبارك اللهُ في أبنائه أجمعين وأعانَ ابنه السيد أحمد على الحفاظ على مجلِسِ والده العلمي ومواصلة مسيرته في العلم والدعوة إلى الله على بصيرة .

قد قال أهل الفضل في أمثالهم
      ما مات من قد خلف الأولادا

يا أحمدَ الخيرِ عليك بنهجه
        أبشر سيمنحُكَ الإلهُ سَدادا

   رحمَ اللهُ الملكَ عبدَ الله بن عبد العزيز الذي حضرَ عزاءَ الفقيدِ ( رحمه الله ) وقال كلمتَهُ فيهِ شهادةً بعُنُقِ وُلاةِ الأمْرِ في صَفاءِ مَنْهَجِ السيد محمد علوي المالكي وطِيبِ عُنْصِرِهِ ووَلائِهِ لوَطنه وأمّته حين قال : "الفقيدُ كل أعمالهِ خير وبركة ، وليس لنا إلا أن ندعوَ له بالرحمة والغفران ، إنّ الفقيد من أبناء الإسلام الأوفياء لدينهم ودولتهم ، ونسألُ اللهَ أن يجعله في جنات الخُلد".

رحم اللهُ الأمير سلطان بن عبد العزيز الذي شارك أبناء ومحبي المرحوم عزاءهم حضوراً وقال لهم مُعزياً ومُهنّئاً بنفسِ الوقت : "إن الله سبحانه وتعالى اختار له هذه الوفاة في شهر رمضان المبارك في ليالٍ يسعى الكل إلى العبادة فيها ، وهذا فضل من الله أن احتضنَ عبداً من عبادهِ في هذه الليالي المباركة .. راجياً أن يطرحَ الله في أولاده البركة ، وأن يسيروا على طريق الهدى الصحيح في خدمة الدين والوطن جميعاً".

   رحلَ السيد محمد علوي وما رحلتْ مآثرُهُ وبقي ذكرُهُ خالداً في صفحات التاريخ ، وإن أضعف الإيمان في تقديم شيء عنه بعد وفاته هُوَ طبعُ ما كُتِبَ عنه وقيل فيه من نثْرٍ أوشِعْرٍ وجمعه في كتاب شهادةً له ، وألا يُعتمد في ذلك على "الملف الصحفيّ" الذي طبعتْهُ شركة تهامة مشكورةً ، بل يُضمّ إليه ما كُتِبَ عنهُ خارجَها - ويصلُ أضعافَ ما في الملف – مع حذف بعض الشهادات الموهومة في "الملف الصحفي" كشهادة الشيخ صالح اللحيدان ( المستشار بوزارة العدل ) التي اختلط عليه اسم شيخنا السيد محمد علوي المالكي باسم شخصٍ آخر كان له صلةً به ، أما شيخنا فلم يتصل به ولم يكن بينهما أي مناقشات وكل ما ورد في مقالته عنه وَهْمٌ وغير صحيح البتّة يفطنُهُ أصغر تلاميذ شيخنا ( رحمه الله ) .

إن معظم ما كتب عن السيد محمد علوي بعد وفاته – فيما أعلم - مَحدُودُ النّشر لا يكادُ يُوجد منه شيء في المكتبات أو معارض الكتب ، فليس سوى مؤلّفيْن فقط :
الأول : كتاب ضخم من 3 أجزاء في دراسة أسانيد المرحوم بقلم تلميذه السيد نبيل بن هاشم الغمري ، حمل كل جزء عنوانه الخاص كالتالي : "الأسوار المُشرِفة على مشيخة وأسانيد صاحبي شيخ مكة المشرفة" ، "إتحاف العَشيرة بوصل أسانيد شيخ مكة بالكتب الشهيرة" ، "المحفوظ المرويّ من أسانيد محمد الحسن بن علويّ"، وهذه الأجزاء دراسةٌ عميقة ومهمّة في جزء من علمِ المرحوم ولا تتعرّض لتفاصيل حياته ومنهجه العلمي وحراكه الدعوي .

والمُؤلّفُ الآخر : كتاب "إمام دار البعثة السيد محمد بن علوي المالكي الحسني وآثاره في الفكر الإسلامي" للدكتور حمد دوّاح ، وهو دراسة غير عميقة وتفتقر للكثير من العناصر المهمة في حياة المرحوم مع ما فيها من أخطاء .

إن هناك الكثير والكثير جداً من حياة هذا العَلَم المكي الأصيل لم يُكتبْ بعد ، إضافةً إلى الكثير من كتبه ودراساته التي جاوزتْ 30 كتاباً وبحثاً مخطوطاً غير مطبوعٍ ، ومكتبةٍ كتب ضخمة جداً تمثّل ثلاثة أجيالٍ منذ جدّه السيد عباس مفتي المالكية ، ناهيكَ عن مذكراته الذاتية التي أعلمُ - ويعلمُ خواصُ طلابه – كيف كان يُسجّل فيها كل شيء بحياته العلمية والشخصية ومواقفه ولقاءاته وكل حدثٍ كبيرٍ وصغير في حياته العريضة المليئة بالأحداث والمعارك التي وإنْ غابتْ تفاصيلُها عن الكثير ؛ فإن دقائقها مُسجَّلةٌ شاهدةٌ للتاريخ .

إن على آل المالكي أن يُسرعوا في جمع ما كُتب عنه وإصدارِهِ في كتاب توثيقي بالنص والصور الفوتوغرافية كواجب لا ينبغي التأخّر فيه كل هذه المدّة وقد مضى على وفاته أكثر من 10 سنوات ! وعلى عاتق وزارة الثقافة والإعلام في نفس الوقت ومن منطلق وطني ووفاءً لعلماء الوطن الذين شاركوا في حواراتِه الوطنيةِ ودعَوا إلى الوحدة والسلام ؛ أن تُسهم في طباعة كتبه كمجموعة كاملة وتنشرها في مكتباتها العامة وغيرها من المكتبات ؛ وأضعف الإيمان أن تفسح لكُتبه أنْ تأخذ مكانَها وحقّها من المكتبات ودُورِ النّشر والتوزيع في زمنٍ أصبحتْ الكتبُ فيه متداولة عبر الانترنت للجميع ؛ فكم هو الوطن بحاجة إلى نشر فكر أبنائه من علماء الاعتدال والفكر المستنير القائم على الكتاب والسنة السمحاء ؟!

 

موضوع خاص بموقع قبلة الدنيا ..مكة المكرمة | كتبه السيد حسن محمد شعيب ( صهر السيد محمد علوي المالكي رحمه الله ) | نشر بتاريخ 1436/9/15هـ .