أبوبكر خوقير.. رائد العلم والدعوة

    الشيخ أبوبكر خوقير -رحمه الله- قامة علمية جليلة، لم تكن تأخذه في الحق لومة لائم، وكان رابط الجأش قوي العزيمة، نافذ البصيرة بما حباه الله من علم وحكمة، ولا غرابة إذا ما علمنا أن الشيخ أبوبكر ينحدر من أسرة ذات علم ووجاهة، ومكانة في البلد الحرام، سافر إلى الهند وجلب أثمن كتب السلف ونشرها في مكة المكرمة، التي عرف عن علمائها الأفذاذ تنوع مشاربهم ودراساتهم الفقهية في إطار المذاهب السنية الأربعة، إذ قلما تجد عالماً أو قاضياً أو مفتياً لم يطيل الجلوس في طلب العلم عند هؤلاء الرواد، الذين لطالما كان لهم قدم السبق في وأد البدع والمذاهب المنحرفة حتى فتح الله على يدي علماء مكة المكرمة باباً واسعاً لنشر مذهب أهل السنة والجماعة في كل أرجاء المعمورة، ولم يكن الشيخ أبوبكر خوقير إلاّ واحداً من هؤلاء العلماء الرواد الذين جاهدوا وناضلوا من خلال رحلاتهم ومؤلفاتهم لينشروا مصابيح العلم الشرعي، فيعلموا الناس العلوم الشرعية من ينابيع صافية عذبة، ويجتهدوا فيما فيه خلاف بين العلماء من مبدأ «سددوا وقاربوا».

نشأ الشيخ أبوبكر خوقير نشأة علمية واشتغل بطلب العلم منذ الصغر، وكان شغوفاً بقراءة كتب الحديث وأئمة العقيدة السلفية، وساعده في ذلك بيئته ومحيطه الأسري والاجتماعي، لاسيما أنه في بلد الله الحرام، حيث يكثر العلماء ويتوافدون من مختلف الأقطار، فسهلت له الظروف الإقبال على طلب العلم بعد توفيق الله.

 

أسس مكتبة في باب السلام بمكة وعُيّن مدرساً بالحرم وسخّر مكانته العلمية ومؤلفاته لخدمة الدين

 

دراسة العقيدة

درس أبوبكر خوقير وتعلم وتنقل وارتحل وألف مجموعة من كتب العقيدة، بعد أن درسها على يد علماء البيت الحرام، وكانت دعواه إلى التوحيد وتصحيح العقيدة الإسلامية هدفه ومبتغاه الأسمى، فحارب مع أقرانه من علماء مكة المكرمة كافة أنواع البدع، لاسيما تلك التي كانت رائجة بين بعض وفود الحج سنوياً، وذلك من خلال دعوتهم الصريحة إلى توحيد الربوبية والألوهية، وكان للشيخ أبوبكر خوقير مكتبة خاصة بمنزله كما جرت العادة عند علماء مكة المكرمة، وكان رحمه الله يعمل مدرساً في المسجد الحرام، تحدث عنه الكثير من المؤرخين وأشادوا بمكانته العلمية وجهاده في سبيل تنقية العلوم الشرعية من بعض ما علق فيها ومراجعتها وتدقيقها، حيث قدم علماء مكة المكرمة -عليهم رحمة الله- جهوداً مضنية ومضاعفة في هذا الباب.

 

طلب العلم

كان الشيخ الجليل أبوبكر بن محمد عارف بن عبدالقادر بن محمد علي خوقير، من بيت اشتهر بالعلم والمكانة الاجتماعية في مكة المكرمة، والده هو الإمام بالمقام الحنفي الشيخ محمد عارف، وجدّه العلامة الكبير الشيخ عبدالقادر بن الشيخ محمد علي خوقير، وولد الشيخ أبوبكر خوقير بمكة المكرمة عام 1284ه، وهناك روايات أخرى بأن مولده كان 1282ه، ونشأ نشأة علمية واشتغل بطلبه للعلم منذ صغر سنه، وكان شغوفاً بقراءة كتب الحديث وأئمة العقيدة السلفية، ساعده على ذلك بيئته ومحيطه الأسري والاجتماعي، لاسيما أنه في بلد الله الحرام، حيث يكثر العلماء ويتوافدون من مختلف الأقطار، فسهلت له الظروف الإقبال على طلب العلم بعد توفيق الله، كما أن الشيخ أبوبكر لم يكتفِ بمن لاقى من العلماء بمكة المكرمة، على علو مكانهم بل ارتحل في طلب العلم، وأخذ عن كثير من العلماء الأجلاء خارجها، وعكف على كتب السلف وشغف بالاستفادة منها وإدامة النظر فيها فجمع وحصل واستفاد ونفع الله بعلمه الكثير من العباد.

وقال عنه الشيخ عبدالستار الدهلوي -رحمه الله-: "وقرأ القرآن وجوده واشتغل بطلب العلم حتى أدرك كبار أهل عصره من أهل بلده، وارتحل إلى البلدان الشاسعة وأخذ عن أفاضلها"، وتمعن الشيخ أبوبكر خوقير وقرأ مؤلفات علماء مكة المكرمة والمدينة المنورة وقابل علماء العراق والشام ومصر والهند، وقرأ كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب واشتغل في مسألة التوحيد التي هي عماد الإسلام.

 

مكانته الأسرية

أسرة خوقير من البيوت الشهيرة بمكة المكرمة، حيث عرفت بالوجاهة والثراء، وجاء في كتاب (الرحلة الحجازية) أن بيت خوقير من البيوت التي توطنت مكة منذ زمن بعيد، وأوضح زكريا بيلا في ترجمته للشيخ عبدالقادر خوقير مدى حرص أبناء هذه الأسرة على طلب العلم الشرعي وفقاً لمقتضى سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وقد قال بيلا يصف العلامة عبدالقادر خوقير -جد الشيخ أبوبكر- ما نصه: "الشيخ عبدالقادر بن محمد علي خوقير -جد أبي بكر خوقير- ولد بمكة وطلب العلوم على يد علمائها الكرام ودرس في المسجد الحرام، وتوفي باسطنبول سنة 1304 ه، وسبب مبارحته لمكة هو أنه كان يجاهر بالنصيحة ولا يبالي بذوي المناصب الرفيعة، كما أنه ورد ذكر الشيخ عبدالقادر خوقير ضمن خطباء ومفتي المقام الحنفي المكي لعام 1303ه.

 

رحلاته العلمية

ويذكر أن الشيخ أبوبكر خوقير سافر إلى الهند، وكان يجلب كتب السلف المطبوعة وينشرها في مكة المكرمة، حتى يطلع عليها طلبة العلم، إضافةً إلى ذلك التقى علماء الهند فنهل منهم واستقى من علمهم، فعلم وتعلم وكان محل ثقة لديهم، لاسيما وهو قادم من جوار بيت الله العتيق، حيث مجمع العلم والعلماء، كما كانت له رحلات إلى مصر حيث التقى ببعض علمائها وأخذ عن بعض مشائخها.

وقال الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله-: "وكان –رحمه الله– قد اعتاد الاتجار بالكتب منذ عزله الشريف عون الرفيق من وظائف الحرم الشريف، وكان يدعو للشريف عون بالرحمة لإلجائه إلى تجارة الكتب التي تعينه على العلم فكان يسافر إلى الهند يحمل إليها من مطبوعات مصر ومكة ويعود منها ببعض مطبوعاتها".

وقد روى الشيخ أبوبكر خوقير عن مشائخ معروفين مشهورين بعلو الإسناد منهم الشيخ حسين بن محسن الأنصاري اليماني، والقاضي أحمد بن إبراهيم بن عيسى، والشيخ محمد الأنصاري، والشيخ محمد بن عبدالعزيز الهاشمي الجعفري الهندي، وأحمد دحلان، والشيخ عبدالرحمن سراج مفتي مكة، كما درس على جده عبدالقادر خوقير وأخذ عن عدد من العلماء الذين يفدون إلى مكة المكرمة.

 

جهوده الدعوية

عُرف عن الشيخ أبوبكر خوقير -رحمه الله- حرصه على نشر التوحيد والعقيدة السليمة فعمل على شرح علوم توحيد الربوبية، وكذلك شرع يبين ويوضح للناس توحيد الألوهية، وبيان عبادة الله التي شرعها للناس كالدعاء والذبح والنذر والاستغاثة، وكان رحمه الله شديد الإنكار على الذين يشدون الرحال للأولياء ويقدمون النذور لهم ويتمسحون بالمقابر، ونهج الشيخ أبوبكر خوقير نهج العلماء مذكراً بالله في قوله وعمله وسمته، وقد قال زكريا بيلا في ترجمته للشيخ: "إني رأيته يرتدي جبة وعمامة كعلماء زمانه يدرس عند باب المحكمة جلست عندها استمع إليه"، ويذكر أنه يوصي بقراءة صحيح البخاري ويقول: "إني قرأت البخاري وعرفت شرح الحديث بعضه ببعض، كما استفدت من مسند إمامنا أحمد بن حنبل وروايته مع مراجعة الغريب وضبط اللفظ، ويقول لطلابه أنه يكفي الطالب المبتدئ بلوغ المرام وعمدة الأحكام، وللطالب المنتهي المشكاة والمنتقى فإنهما جمعا ما في الكتب الصحاح مع بيان الصحيح من السقيم، وأسهب في توضيح الصفات والإيمان بكل ما ورد في القرآن والأحاديث بما وصف الله به نفسه من صفات على حقيقتها دون التعرض لها بشيء من التكييف والتمثيل والتشبيه والتأويل والتحريف والتعطيل، كما كان مهتماً بتفسير كتاب الله، عالما بمعانيه وممن أخذ منهم هذا العلم الجليل الشيخ عبدالرحمن سراج مفتي مكة المكرمة -رحمه الله-، وقد قرأ الشيخ أبوبكر خوقير على مشايخه في فنون عده فمن ذلك قراءته على الشيخ القاضي أحمد ابن عيسى -رحمه الله-، وكذلك قرأ على جده الشيخ عبدالقادر خوقير.

 

كتب ومؤلفات

ومن مؤلفات الشيخ كتاب (فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال)، طبع بمطبعة المنار بمصر عام 1343ه ويقع في 72 صفحة، وكتاب (مسامرة الضيف بمفاخرة الشتاء والصيف)، طبع في شركة نوابغ الفكر، وكتاب (ما لابد منه في أمور الدين على طريقة السلف الصالح ومذهب الإمام أحمد بن حنبل في العقائد) وطبع في مطبعة التمدن في القاهرة بمصر سنة 1332ه يقع في 118 صفحة، وكتاب (مختصر في فقه الإمام أحمد بن حنبل) طبع بالمطبعة المنيرية بدمشق سنة 1349ه يقع في 40 صفحة، وكذلك كتاب (تحرير الكلام عن سؤال الهندي في صفة الكلام) ويوجد في مكتبة جامعة الرياض مخطوطاً بقلم المؤلف فرغ منه عام 1337ه، إضافةً إلى كتاب (التحقيق فيما ينسب لأهل الطريق) يوجد في مكتبة جامعة الرياض بقلم المؤلف سنة 1334ه، وذلك وفقاً لما ذكره المؤرخ عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ، إلى جانب كتاب (ثبت الاثبات الشهيرة).

 

مكانة علمية

ويذكر الزركلي في الأعلام أن الشيخ أبوبكر خوقير فقيه حنبلي، من أهل مكة، مولداً وسكناً ووفاة، وعين مفتياً للحنابلة سنة 1327، واشتغل بالاتجار في الكتب، فأسس مكتبة له في باب السلام بمكة، وفي ذات السياق فقد قال الشيخ محمد رشيد رضا في ترجمته للشيخ أبوبكر خوقير: "وقد جلست إليه في مكتبته في باب السلام غير مرة وكان مهذباً رقيق الطبع حسن المعاشرة على شدته في دينه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، حتى أن مجلسه لا يخلو من دعابة ما في المفاكهة ونكت أدبية وتاريخية"، كما عُيّن مدرساً بالحرم المكي في العهد السعودي، واستمر إلى أن توفي رحمه الله، كما ترجم له أحمد بن محمد الحضراوي المكي الهاشمي، ووصف الشيخ أبوبكر خوقير بقوله: "إنه عالم فاضل ومدرس الحرم المكي نادرة العصر وأعجوبة الدهر بلا حصر"، ومشيراً إلى أنه حفظه لكتاب الله تعالى واشتغل بطلب العلم، وسطع نوره فأتقن ثم درس بالمسجد الحرام المكي فنفع الخلائق، وعرف بفضله الكامل اللائق ومع ذلك مشتغل بالأسباب كما هو شأن السلف الأنجاب مع الجد والاجتهاد، فهو في مصالح المسلمين دائماً.

وعن مكانته العلمية قال عنه الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن عثيمي: "رحم الله الشيخ أبوبكر خوقير، حيث جاهد في الله بقلمه ولسانه حق جهاده وأوذي في ذات الله فما ضعف وما استكان والله يحب الصابرين"، وقال عنه الشيخ عثمان القاضي: "كان في علم الحديث وكان من أخص زملائنا في مكة وله شهرة وصيت ذائع رحمه الله"، وذكره الشيخ محمد رشيد رضا والشيخ عبدالستار الدهلوي والشيخ منير الدمشقي والشيخ محمد نصيف والشيخ عبدالرحمن آل الشيخ -رحمهم الله- وتحدثوا عن مكانته العلمية وإنجازاته الكبيرة، لخدمة الدين والعقيدة السلفية الصحيحة.

 

خطاباته ووفاته

ألقى الشيخ أبوبكر خوقير خطاباً بين يدي الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- بحضور أعيان ووجهاء البلد كما ذكرت جريدة أم القرى في عددها 62 بتاريخ 20/8/1343ه، كما ألقى خطاباً عام 1330ه، خلال حفل المدرسة الصولتية الذي يقام نهاية كل عام دراسي يجتمع فيه أهل العلم من منسوبي المدرسة بغيرهم بهدف النهوض بالمستوى التعليمي للمدرسة.

وتوفي الشيخ أبوبكر خوقير -رحمه الله- بالطائف عام 1349ه وكانت بعض المصادر أكثر دقة، فذكرت أن وفاته وافق يوم الجمعة غرة ربيع الأول، عن عمر يناهز السابعة والستين إثر إصابته بإحدى الأمراض الباطنية بعد رحلة طويلة مع العلم والتدريس والتعلم، رحم الله الشيخ العلامة المكي أبوبكر خوقير رحمة واسعة.

المصدر :  جريدة الرياض 1436/12/18هـ | منصور العساف