بيرتون يتحايل بزيت الجوز لدخول مكة
ليس من المبالغة في شيء إذا قلنا إن رحلات المستشرقين إلى جزيرة العرب ـ الرحلات الحجازية خاصة - كانت ولا تزال أحد أهم مصادر التاريخ وتقصي أحوال أسلافنا، ثقافتهم، فنونهم، تجارتهم ونمط عيشهم على وجه العموم في تلك الأزمنة.
لا شك أن دوافع الرحلات الغربية إلى الحجاز لم تخرج، نظريا عن كونها مغامرات للطبقة المثقفة في بلاد الغرب تهدف إلى سبر أغوار سحر الشرق وكشف ما خفي عن المدن المحرمة على غير المؤمنين، وهو ما يعد سبقا مهما يخول صاحبه للظفر بالشهرة والصيت والمناصب المرموقة.
على أن غايات تلك الرحلات، وبخاصة في عصر الثورة الصناعية الأوروبية وتنامي الحس الاستعماري، كانت خليطا من العمل الأكاديمي العلمي والممارسة الاستخباراتية لخدمة حكوماتهم وطموحاتها السياسية والمتمثلة غالبا في الرغبة في التوسع وفرض السيطرة العسكرية.
ربما ما يعلل تزايد الرحلات التي أخذت طابعا استخباراتيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن الدول العظمى كانت تسعى جاهدة إلى إيفاد من تتوسم فيهم الصلابة وحب المغامرة إلى بلاد الشرق في محاولة حثيثة لاستكشاف العالم الذي تنوي استعماره، فانطلق أولئك الرحالة بأقنعة المثقف، أو العالم الآثاري، أو الأثنوجرافي تحت ستار الدراسة والبحث العلمي والتي تصب في صالح تلك الشعوب وتسعى للنهوض بها، فكانت رحلات مثمرة كرحلة الضابط والدبلوماسي البريطاني ريتشارد بيرتون.
يجد القارئ لسيرة ريتشارد بيرتون صعوبة كبيرة في توصيف شخصيته عطفا على سيرته المربكة وغرابة أطواره.
ولد بيرتون في 1821م من أسرة أيرلندية-إنجليزية عاش طفولة بالغة الشقاء، فبينما هو في صباه كان طرفا في أحد الأيام في مشاجرة مع معلمه في المدرسة وانتهت بتهشيم رأس المعلم بآلة الكمان.
وحينما انتقل إلى أكسفورد في مراهقته طالبا في كلية ترينيتي أكسفورد تم فصله سريعا لسوء سلوكه، رغم كل ذلك إلا أنه كان صاحب شخصية استثنائية كثيرة المواهب وغزيرة المعرفة فأصبح لاحقا أحد أشهر الرحالة الغربيين وبخاصة بعد تخفيه في شخصية أفغاني مسلم وإقامته في مكة والمدينة بدعم من جمعية الجغرافيا الملكية البريطانية.
أما غرابة أطواره فتتجلى في مدوناته والتي قد يصعب تفسير حقيقة وعيه بالمجتمعات الشرقية ونظرته المتأرجحة بين الإنصاف والبهتان، فعلى سبيل المثال: بينما هو يصف السكان المحليين بكل لطف ويكيل المدائح في كرم أخلاقهم، إذا به يشير إليهم في موقع آخر بنعوت معيبة تتصف بالتعصب والتحامل الشديد.
لم يكن بيرتون أول من زار مكة من مواطني الجزر البريطانية، بل سبقه الصبي الإنجليزي جوزيف بتس في 1680م بعد أن وقع في الأسر وقدم إلى الحجاز مع مولاه الجزائري ودون رحلته بالتفصيل.
بدأت استعدادات بيرتون للرحلة الحجازية المثيرة من الإسكندرية، حيث انخرط في سلك الدروشة والتصوف لينهل منها تفاصيل الحياة الإسلامية ليكون ـ كما يقول ـ مسلما أصيلا لا «برم» بضم الباء، وهو وصف من يدعي الإسلام لأغراض مالية أو استخباراتية.
ونظرا لما يمتلك بيرتون من مهارات التمثيل والتخفي فقد استخدم زيت الجوز لطلاء بشرته إلى جانب التعرض لأشعة الشمس لفترات طويلة حتى يكتسب اللون الداكن كرجل أفغاني.
متسلحا بدفتر التدوين إلى جانب مسدسه وخنجره العربي، ارتحل بيرتون إلى الحجاز في 1853م، فمكث في المدينة المنورة شهرين قبل أن يتم رحلته الخطرة إلى موئل الإسلام - مكة المكرمة - كحاج متصوف يسمى «عبدالله الأفغاني».
هناك لم يقو بيرتون ـ وهو الشخصية المتعالية ـ على إخفاء مشاعره فيقول «لقد شاهدت الكثير من الشعائر الدينية لأتباع ديانات أخرى حول العالم غير أنني لم أعهد أبدا هذا الشعور من الخشوع والعاطفة».
دلف بيرتون للمرة الأولى إلى المسجد الحرام من باب الزيادة ووصف الكعبة المعظمة بعاطفة جياشة بقوله «ها أنا ذا قد وصلت أخيرا إلى مبتغاي بعد رحلة شاقة وحققت آمالي التي راودتني لسنوات، كانت الكعبة الضخمة تتجلى أمامي في هالة من السحر الغريب، وأقول إنه من بين كل هؤلاء المتعبدين المتعلقين بأستار الكعبة لم يكن أحدهم أكثر عاطفة من الرجل القادم من أقصى الشمال (يعني نفسه)».
لم يفوت بيرتون هذه الفرصة للدخول للكعبة المشرفة حينما شرعت بوابتها الذهبية في مناسبة تغيير كسوتها وبمعاونة أحد سكان مكة، حتى إنه تجاسر ورسم الكعبة على ملابس إحرامه لينقلها لاحقا في كتابه، ولم يخف بيرتون نيته المسبقة حينها بالاستيلاء على قطعة من كسوة الكعبة، لكن الأعين من حوله كانت يقظة، ولكنه حصل عليها لاحقا كهدية من الشاب المكي محمد البسيوني ـ مرافق بيرتون ودليله.
عاد بيرتون إلى بلاده مثقلا بتجربة استكشافية تركت أثرا كبيرا في نفسه ووضع ما دونه في كتاب «رحلة حج سرية إلى مكة والمدينة» وضمن في كتابه سجلا دقيقا لجغرافية مكة وطبوغرافيتها ومسالكها وجبالها وعادات أهلها والصراع السياسي في دهاليز قصورها، فكان واحدا من أثرى المؤلفات في أدب الرحلات الحجازية رغم ما اعتراه من شوائب التعصب والتعميم المجحف.
المصدر : صحيفة مكة | بقلم سلطان الطس - باحث دكتوراه في علوم المحاسبة بجامعة ليدز 1437/2/24هـ
0 تعليقات