مستودع للحديد.. يلتهم بئر الحديبية
على مرمى حجر من أحد أشهر المعالم النبوية في مكة المكرمة (مسجد الحديبية)، تم تسوير بئر الحديبية ضمن مساحة أرض تعد الآن لتصبح مستودعا ضخما لأحد مصانع الحديد في السعودية، من دون أي معلومات متوفرة عن مصير البئر النبوية في المستقبل القريب.
صباح السبت الماضي وقفت “مكة” على مسجد الحديبية في طريق مكة ـ جدة القديم (20 كلم غرب مكة المكرمة) بعد معلومات مؤكدة عن توجه جديد لوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف لهدم البناء القائم حاليا وإنشاء مسجد جديد حال انتهاء خرائط التصاميم والتراخيص اللازمة لذلك ضمن مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز الحضاري.
وتبعد البئر النبوية نحو 500 متر فقط شرق المسجد الحالي، تفصلها عنه طرق وعقوم ترابية وقطع أراض تم تسويرها حديثا.
بعضها يحتوي على بقايا بساتين جافة تم تحويطها بشكل بدائي وعبثي يخلو من أي تخطيط واضح يحترم العلاقة المتلازمة بين موقعي المسجد والبئر الذي يقال (على خلاف مشهور) إنه تم في موقعه عقد “صلح الحديبية” المعروف بين النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وكفار قريش في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة (مارس 628 ميلادية).
ويقول الخبير في المواقع النبوية والمعالم التاريخية الدكتور سمير بن أحمد برقة: إن دخول البئر النبوية في حوزة ملكية خاصة يفتح السؤال مجددا عن واقع المخاطر التي تهدد الأمكنة النبوية والتاريخية في المملكة، مستغربا ألا تكون البئر ضمن حيازة أرض مسجد الحديبية الشرعية في وكالة الأوقاف والمساجد.
وطالب برقة الجهات الرسمية المختصة بأن تتدخل بسرعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وحماية البئر وإعادة تخطيط موقع صلح الحديبية ليصبح داخل ملكية الصك الشرعي لأرض المسجد قبل تجديد بنائه من قبل فرع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف في مكة المكرمة.
تعديات أم ملكيات؟
في العام الماضي كانت معظم الأراضي المحيطة بمسجد الحديبية تحتوي فضاء مفتوحا تتخلله قطع متعددة المساحات مسورة.
وبعدها بنحو كيلو متر تقريبا تنتشر أحواش ومعاطن لتربية الإبل وتوزيع ألبانها على الراغبين من المعتمرين والحجاج الذين يزورون الموقع بكثافة خاصة في موسمي الحج والعمرة.
وبعد تحذيرات من وزارتي الزراعة والصحة في المملكة عقب ثبوت علاقة الإبل بفيروس كورونا القاتل، تمت إزالة جميع الأحواش تحرزا من مخالطة الإبل وتجنبا لشرب حليبها.
وخلال شهور فقط، تم بشكل متواتر ظهور حالات تسوير قطع الأراضي بالشكل الذي يمكن مشاهدته الآن على أرض الواقع.
في الماضي كانت أراضي منطقة الحديبية (مركز الشميسي حاليا) تشتهر بوفرة المياه الجوفية، وعلى امتداد الطريق القديم إلى مكة المكرمة يمكن مشاهدة عدة آبار قديمة ومزارع قائمة حتى الآن.
ويبعد مسجد الحديبية نحو ميل تقريبا من علامات حدّ حرم مكة المكرمة الغربي، وأحد الأسبلة التي أنشأها الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود لسقيا الحجاج والمعتمرين.
ويقول برقة: إن المغفور له الملك المؤسس قام بإنشاء عدة آبار وأسبلة في طريق الحاج القديم إلى مكة، منها اثنان، أحدهما في الحلّ والآخر داخل حدود الحرم على طريق جدة مكة القديم، وما زالت شواهدها قائمة حتى الآن، وتنتظر يدّ العناية والاهتمام العاجل بهما، كونهما معلمين تاريخيين يجب الحفاظ عليهما.
وأضاف: إن منطقة الحديبية ثابتة في كل مصادر التاريخ النبوي، خاصة في سلسلة وقائع العام السادس الهجري، إذ شهدت أحداثا إسلامية مهمة أشهرها بيعة الرضوان التي نزل فيها قرآن يتلى حتى تقوم الساعة، ثم صلح الحديبية الشهير بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين كفار قريش، بعد أن عزم ونادى في المسلمين بالمدينة المنورة أنه سيؤدي مناسك العمرة بدون حرب مع قريش، والقصة مشهورة.
وأكد برقة على نبوية بئر الحديبية في قوله: ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم، عندما وصل الحديبية ومعه نحو 1400 رجل وامرأة (وقيل 1700 رجل وامرأة)، دعا بماء من البئر فجيء به إليه فتمضمض منه ومجّ ما تمضمض به في البئر ففاض ماؤها ببركته صلى الله عليه وآله وسلم.
وأوضح برقة: مسجد الحديبية هو ثاني أهم علامات حدود الحرّم الأربعة لمكة المكرمة، بعد حدّ الجعرانة الذي اعتمر منه النبي صلى الله عليه وسلم، وحدّ الحديبية الذي اعتمر وأحل فيه نيّة العمرة بمقتضى معاهدة الصلح الشهيرة، ومسجد السيدة عائشة في التنعيم (أقرب مواقيت الإهلال بالعمرة لأهالي مكة)، ورابعا أي موقع يقع خارج علامات وحدود حرم مكة، مشيرا إلى أن موقع الحديبية شهد أيضا حادثة تعلي شأن المرأة في الإسلام، حين أشارت أم المؤمنين أم سلمة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يظهر إلى أصحابه ويحلّ إحرامه أمامهم، قطعا للجدل والبلبلة التي ظهرت على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد عقده وثيقة الصلح مع مشركي قريش لعشر سنوات، والتي تقضي بأن يعود هو وأصحابه إلى المدينة المنورة من دون إتمام مناسك العمرة، وهو ما كان.
معاد والحديبية
عقدت مبادرة “معاد لتعزيز الهوية المكيّة” اجتماعا طارئا مساء الاثنين الماضي في جدة لبحث سبل معالجة حالة التعدي على بئر الحديبية، والتواصل مع إمارة منطقة مكة المكرمة، وأمانة العاصمة المقدسة، ووزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، وهيئة تطوير مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، وهيئة السياحة والآثار للتنسيق المشترك حيال الوقائع الجديدة في محيط حرم مسجد وبئر الحديبية.
وقال رئيس “معاد” الدكتور فائز بن صالح جمال لـ “مكة”: إن المبادرة الخاصة بإحياء مسجد وبئر الحديبية تشمل وضع تصور كامل بعد أن قامت في وقت سابق بالتنسيق مع الجهات الرسمية بشأنه، ورفع تصورها لكيفية الاستفادة القصوى من أرض المسجد القائم حاليا، والمسجد القديم بجواره، والبئر، والقلعة التاريخية أعلى الجبل القريب منه، وإعداد محددات وموجهات أولية تساعد المكتب الاستشاري لمشروع التنفيذ وتلزمه بالشكل المقترح لما ينبغي أن يكون عليه البناء الجديد للمسجد وجميع مرافقه العامة، والاستفادة من إحياء بئر الحديبية النبوية كمنهل مائي في حرم المسجد وساحاته الخارجية، مع إنشاء مركز ثقافي متكامل وصالات عرض سمعية وبصرية تلحق بالمباني الجديدة لتستخدم في التوجيه والتوعية والتذكير بالأهمية التاريخية لهذا الموقع بأحدث الوسائل الممكنة، أسوة بما تم عليه العمل سابقا في مبادرة إحياء بئر طوى في مكة المكرمة.
وتوقع أن ينتهي وضع التصور الكامل لمخططات مسجد الحديبية الجديد خلال الأسابيع القليلة المقبلة لعرضه على بعض الجهات المسؤولة التي طلبت ذلك بشكل عاجل.
وكشف جمال أن هناك ملاحظات واضحة على وجود تعديات أو تداخلات على ملكيات الأراضي في منطقة الحديبية، بحسب معلومات أولية لمركز معلومات مبادرة معاد، لافتا إلى أن الاجتماع أوصى بالتحقق والتثبت منها من خلال التواصل المباشر مع أمانة العاصمة، وشركة البلد الأمين، وهيئة تطوير مكة المكرمة والمشاعر المقدسة للوقوف على حقيقة الأمر.
وقال: ستقف لجنة من المبادرة تضم عددا من أساتذة التاريخ في جامعة أم القرى وخبراء في المواقع النبوية في مكة، السبت المقبل على موقع مسجد الحديبية والقيام بجولة ميدانية لمعاينته والمنطقة المحيطة به للتحقق من كل المعلومات وتثبيتها بشكل دقيق وواضح.
.. وتهديد يواجه سبيل الملك المؤسس
بعد نحو خمسة كيلومترات إلى الغرب من موقع مسجد الحديبية، وقفت “مكة” على إحداثيات جديدة لمشروع يتبع لأمانة العاصمة المقدسة لإنشاء شبكات ريّ مع خزانات خرسانية ربما تهدد أيضا موقع بئر أثري وتاريخي لسقيا الحجاج أنشأه الملك المؤسس رحمه الله في عام 1361هـ.
ويقع البئر ومبنى السبيل التاريخي بحالة مهملة للغاية، في عمق ما يبدو حديقة صحراوية تمتد بطول نحو ألف متر مسورة بساتر بلاستيكي على الضفة اليمنى للمتجه إلى مكة المكرمة، تحيط به عدة بلدوزرات وحفريات عميقة لإنشاء خزان أرضي ضخم المساحة تحت أرض الحديقة.
خلال الجولة قابلت “مكة” مهندسين من جنسية عربية يعملان في المشروع، واستغربا التوقف واقتحام حرم المشروع لتصوير بناء البئر التاريخي.
وبدا أنهما لا يعرفان شيئا يذكر عن مبنى السبيل وتاريخه، رغم وجود لوحة تعلو بناء السبيل تشير إلى وقفية البئر وتبرع الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن به لسقيا الحجاج ومؤرخة بعام 1361هـ أي قبل نحو 75 عاما مضت.
وقامت أمانة العاصمة بوضع عشرات من أعمدة الإنارة الخاصة بالحدائق داخل المسطح الصحراوي والجاف للموقع الذي بدأ العمل به في جمادى الأولى 1433هـ وينتهي بنفس التاريخ من العام الحالي 1436هـ وبقيمة تصل إلى 30 مليون ريال بحسب اللوحة الإعلانية في أرض المشروع.
ولم يتسن لـ “مكة” الاطلاع على خرائط المشروع في أمانة العاصمة المقدسة، وما إذا كانت أعمال المشروع تقتضي إزالة مبنى سبيل الملك عبدالعزيز وردم البئر الملحق به من عدمه.
أطلال المسجد الأثري صامدة منذ 600 عام
يلاصق مبنى مسجد الحديبية القائم حاليا من الجهة الجنوبية بقايا المسجد القديم الذي يعود تاريخ إنشائه إلى نحو 600 عام.
وتبقت من المبنى القديم شواهد متآكلة لبعض أعمدة وجدران ومحراب المسجد المبني بالحجارة من دون سقف، بمساحة إجمالية لا تتجاوز 150 مترا مربعا فقط.
وبحسب الباحث المكي غسان بن مطهر نويلاتي، تم الحفاظ على بقايا المسجد القديم كأثر تاريخي أثناء بناء المسجد الحالي قبل نحو 37 عاما تقريبا، إذ أزيل جسم المسجد القديم ومنارته السابقة وتم إبقاء الجزء الحجري الحالي لأسباب متعارضة، تتعلق بخلاف قديم ومشهور حول دقة مكان صلح الحديبية، وموقع شجرة بيعة الرضوان، والمواقع التي سلكها وأقام فيها النبي صلى الله عليه وسلم خلال قدومه لأداء مناسك العمرة في السنة السادسة للهجرة النبوية، وما رافق ذلك من هدم لمسجد قديم وبناء آخر مكانه، وهدم الآخر أيضا بعد اكتمال إنشائه، حتى تم إنشاء المسجد القائم الآن وفي موقعه الحالي على يد وزارة الأوقاف سابقا، حسما لكل الجدل الذي أثير حول هذه المسألة.
وشدد نويلاتي على ضرورة وأهمية العودة إلى خرائط هيئة المساحة الجيولوجية ومعلوماتها للتأكد من كل إحداثيات ومواقع هذه المنطقة التاريخية، مرجحا أن لدى الهيئة معلومات كاملة حول هذا الموضوع، يمكن الاستفادة منها طالما أن هناك اهتماما رسميا بإعادة بناء وإحياء منطقة الحديبية وتجديد مسجدها الحالي.
وأشار الباحث المكي إلى أهمية المعلومات التي وردت في كتاب عضو هيئة كبار العلماء الدكتور عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان بعنوان “الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة”، والذي أفرد في ملحق خاص رحلة ميدانية إلى بعض المواقع الأثرية في شمال وغرب مكة المكرمة في شوال العام 1421 ضمت إلى جانبه كلا من الدكتور أسامة البار بصفته آنذاك مديرا لمركز أبحاث الحج، والدكتور عويد المطرفي رحمه الله، والدكتور معراج مرزا، والدكتور عبدالله شاووش، وعبدالعزيز قطب، وعدنان قطب، وسمير نتو، وفيصل ملا، والمصور السينمائي طلال قاضي، والمصور الفوتوجرافي كامل أبو الخير.
وتم في هذه الجولة رصد وتوثيق المواقع التاريخية في منطقة الحديبية، ورفع إحداثياتها بأجهزة (G.P.S) وتصويرها بالكامل بالفيديو وكاميرا مركز أبحاث الحج، وسطر معلومات مهمة عنها في كتابه القيم والمشهور.
المصدر : صحيفة مكة 1436/1/19هـ | عمر المضواحي
0 تعليقات