محمود القيسوني و بواكير العمل المؤسسي العسكري في مكة المكرمة
لما قامت الحرب العالمية الأولى على سوقها بين الحلفاء ودول المركز، لم تكن البلاد العربية بمنأى عن شررها.
ففي تمام الساعة 9:12 فجرا بالتوقيت الغروبي الت اسع من شعبان من عام1334هـ أطلق الشريف حسين بن علي أمير مكة رصاصة من بندقيته من أعلى قصره بالغزة مؤذنا بفك ارتباط البلاد العربية عن الدولة العثمانية وقيام ما سمي لاحقا بالثورة العربية الكبرى.
قشلة جرول بعدسة محمود القيسوني 1916 - 1918م - (من مقتنيات متحف الحرب العالمية بلندن)
تلا هذه الوثبة سقوط الحجاز (ولاحقا باقي الأراضي العربية) من عهدة الدولة العثمانية بعد ما يربو عن أربعمئة عام من سيطرة العثمانيين على الأراضي العربية.
لقد كان باعث هذه الحركة ومبدأها، إلى جانب الدافع السياسي بطبيعة الحال، تنامي الحس القومي عند جماعة من مثقفي العرب في الإستانة والشام والعراق ومصر، فلما تغلب الشريف حسين على الحامية التركية في الحجاز، اشتعلت فيهم جذوة الحماس فتقاطروا على الحجاز زرافات ووحدانا، ولذا كان من الطبيعي أن يكون لهؤلاء المتوثبين سهمة في نهضة الحجاز وبناء مؤسساته العامة حال جلاء الحامية التركية عن البلاد.
التقرير العسكري السري للقيسوني - أرشيف الوثائق الحربي - ويظهر سجل خدمته في الحجاز
تشكلت أول وزارة في مملكة الحجاز بعد تأسيسها في السابع من ذي الحجة عام 1334هـ ونجد أن من وفدوا إلى مكة من العرب بعد الثورة قد تقلدوا المناصب في الدولة الناشئة أمثال كامل القصاب للمعارف والدكتور نديم للصحة وعزيز المصري أول وزير للحربية.
ولعل خلافات عزيز المصري مع الشريف حسين قد عجلت برحيله فكان تعيين البكباشي محمود القيسوني لإدارة دفة «وكالة الحربية».
القيسوني في مكتبه بمكة المكرمة عام1919م
سيرته
ولد محمود القيسوني في 23 جمادى الآخرة1292هـ الموافق 27 يوليو1875 م والتحق في شبابه بالمدرسة الحربية (الكلية الحربية بالقاهرة) ثم خدم عسكريا في مناطق عدة في مصر وخارجها، حتى استقر به الحال في الأراضي الحجازية ابتداء من 18 سبتمبر 1916.
تسنم وكالة الحربية في مملكة الحجاز شاغلا موقع مواطنه عزيز المصري.
يحدثنا عبدالله فيلبي في كتابه «قلب الجزيرة العربية» عن لقائه بالقيسوني في جدة إبان وزارته لحربية الحجاز ويبدو أنه لذ له الحديث مع الضابط المثقف فيصفه بأنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة، علاوة على كونه مضيافا ومستقل الرأي، ويمضي فيلبي بقوله إن القيسوني يتمتع بخصال حميدة وسيكون له مستقبل واعد. ويختم بأنه تلقى منه صورا فوتوجرافية لمكة وضواحيها.
القيسوني بالزي العسكري في مكة المكرمة
ولا يخفى ولع القيسوني بالتصوير إذ نجد أن من بين المجموعة الفوتوجرافية النادرة الخاصة بالضابط البريطاني الشهير توماس لورنس – الشهير بلورنس العرب - في متحف الحرب العالمية الأولى في لندن طائفة من الصور التي التقطها القيسوني بكاميرته وتضم صورا لأحد أبواب المسجد الحرام وبعض المعالم العمرانية المكية.
ومن الواضح أن للقيسوني حظوة لدى الشريف حسين إذ إن نوري السعيد يشير في مذكراته إلى أن الشريف قد أوغل في معاقبة السعيد نفسه حينما تعرض للقيسوني بالإساءة، ومبعث هذا الإشكال هو غضبة القوميين العرب جراء عزل عزيز المصري وإحلال القيسوني مكانه، ويرى السعيد أن الأخير كان «بعيدا عن الشعور العربي» وهي إشارة إلى أن القيسوني كان ينأى بنفسه عن تحزبات دعاة القومية العرب والضغوط التي مارسوها على الشريف حسين.
كما أن وثائق الأرشيف البريطاني تظهر تنامي دور القيسوني عقب الثورة، فكان في الكثير من المراسلات يتحدث نيابة عن الملك، وهو ما تتغافله المدونات التاريخية التي عنيت بتأريخ تلك الفترة.
القيسوني بالزي العسكري في مكة المكرمة
أعماله
مدرسة الموسيقى العسكرية:
بعد أن وضعت الحرب الكونية أوزارها، أخذت المؤسسات الحكومية في مملكة الحجاز في النشوء، وكان من بينها فرقة الموسيقى العسكرية العربية والتي أسسها وكيل الحربية البكباشي محمود القيسوني.
فبحسب صحيفة القبلة (الصحيفة الرسمية للدولة) في عددها 48 في الخامس من ربيع الثاني من عام1335هـ تخرجت من مدرسة الموسيقى العسكرية العربية أولى دفعات جوقة الموسيقى العسكرية من أبناء مكة المكرمة، إذ عمل القيسوني بنفسه على تدريب من تطوع من أبناء مكة على قراءة النوتة الموسيقية ابتداء من منتصف صفر1335هـ بقشلة جرول.
ثم تولى هذه المهمة أحد الضباط الذين وفدوا من الطائف لهذا الغرض، وأخذ في تعليمهم وتدريبهم لثماني ساعات يوميا، وما هي إلا أواخر ربيع الأول من العام نفسه حتى أجادت الجوقة عزف الألحان العسكرية واستعرضت فنونها إزاء القصر الملكي.
المدرسة الحربية الهاشمية :
في صبيحة الاثنين الثالث من جمادى الآخرة 1335، طالع المجتمع المكي صحيفة القبلة في عددها 64، وفي إحدى صفحاتها الأربع إعلانا لمرسوم ملكي بتأسيس أول مدرسة للحربية في الحجاز تحت إشراف وكيل الحربية البكباشي محمود القيسوني، ويرجح المؤرخ العراقي طالب وهيم أنه كان على الأرجح صاحب الفكرة.
شغلت هذه المدرسة موقع قشلة (قشلاق) الجند بجرول – والتي بقيت هناك حتى إزالتها في شعبان1411هـ.
كانت مدرسة داخلية بالمجان ويشترط للانخراط في دوراتها أن يكون المتقدم ملما بمبادئ القراءة والكتابة والحساب وأن يكون في الفئة العمرية ما بين 17-19 سنة.
وخصص للمنتسبين جعلا وملابس عسكرية، وهم تحت إشراف كوادر من الضباط العرب، معظمهم من الشام والعراق.
ثم توالى تخريج دفعات الطلبة كل ستة أشهر ليمارسوا مهامهم العسكرية.
رحيله
كان آخر عهد القيسوني بالحجاز في 24 يوليو 1920م فحزم متاعه دون عودة متجها إلى القاهرة ليكون هناك فيما بعد ياورا لوزير الحربية المصري.
بطاقة وكيل الحربية البكباشي محمود القيسوني (مجموعة خاصة)
ويخبرنا خيرالدين الزركلي في كتابه «ما رأيت وما سمعت» أن القيسوني قد تقدم باستقالته للملك حسين، فكان سلفه صبري بك العزاوي، وهو ضابط عراقي خدم في الجيش العثماني في المدينة المنورة حتى تسليمها من قبل فخري باشا – الوالي العثماني – للشريف علي بن الحسين وأخيه الشريف عبدالله بن الحسين فانضم للجيش الشريفي منذ حينه.
يذكر أن أصغر أبناء القيسوني – الدكتور عبدالمنعم – كان وزيرا للمالية والتخطيط ونائبا لرئيس مجلس الوزراء المصري في عهدي جمال عبدالناصر وأنور السادات، ويعد واحدا من أهم الشخصيات الاقتصادية في التاريخ المصري الحديث، ويذكر أنه كانت تربطه صداقة شخصية بالملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود.
ولعل هذه الرابطة كانت سببا في إيفاد الرئيس السادات للدكتور عبدالمنعم القيسوني إلى السعودية في1974م لبحث سبل إنقاذ الاقتصاد المصري بعد الأزمة المالية التي ضربت النظام الاقتصادي جراء حرب أكتوبر 1973م، وأثمرت هذه الجهود حزمة من الإجراءات نحو دعم الدولة المصرية.
المصدر : صحيفة مكة 1437/3/14هـ | بقلم : سلطان الطس باحث دكتوراه في علوم المحاسبة بجامعة ليدز
0 تعليقات