وفاء النيل للحجاز

 

منذ القرون الإسلامية الأولى كان الدعاء للملوك على منابر الحرمين يعد إيذانا ضمنيا بدخول الحجاز تحت مظلة ذلك الحاكم وعباءة مقدسة تخلع عليه إما بالإحسان أو بقوة السلطان.

يخبرنا التاريخ أن الرابطة التاريخية التي تجمع مصر والحجاز ورعاية السلطة المصرية للحرمين ابتدأت رسميا في عهد الدولة الإخشيدية التي لم تعمر طويلا.

ويرى السباعي في كتابه «تاريخ مكة» أن انضواء الحرمين تحت مظلة حكام مصر ابتدأ في عهد الإخشيد في عام 331هـ، وما لبثت حناجر خطباء الحرمين حتى لهجت بالدعاء للإخشيد وهو ما دعاه إلى التفاخر بهذه المنقبة العالية بقوله «إنه وإن لم يكن لي شرف إلا إمارة الحرمين لكفاني ذلك» ثم كانت الصدقات المجزية ترسل إلى مكة باسم الإخشيد.

لطالما ارتبطت العطايا المصرية للحرمين بالأعياد المصرية القديمة ومراسم احتفالية كبرى في ساحات القاهرة العامة، ولعل أحد تلك المناسبات المرتبطة ارتباطا وثيقا بالحرمين هو عيد وفاء النيل، حيث كان لدى قدماء المصريين الإيمان الراسخ في قدسية نهر النيل وكونه مصدر الحياة والخير وأن امتداده يمثل حدود العالم الآخر، كما هي حدود العالم الذي يعيشون فيه.

تحتفل مصر منذ أزمان بعيدة بوفاء النيل ابتداء من 15 أغسطس من كل عام، ومنشأه الاحتفاء بارتقاء منسوب النيل حتى يصل لـ16 ذراعا، إذ كان يفيض شمالا حتى يصل إلى الدلتا (وجه بحري) ويصب في البحر المتوسط، وكان هناك اعتقاد سائد بأنه إذا لم يعقد هذا الاحتفال في حينه، فإن النيل سيأبى الفيضان وسقاية الأرض والمزروعات.

وحينما زار ليون الأفريقي مصر في 1517م وصف هذا الاحتفال بقوله «حينما يفيض نهر النيل في هذه الأيام يعقد لهذا الحدث احتفال كبير مصحوبا بالموسيقى وجلبة كبيرة، وفيه تستقل الأسر المصرية قوارب النيل المزينة بالأقمشة الباذخة والسجاجيد، حاملين معهم ما لذ وطاب من الحلويات والأطعمة المختلفة والشموع، يشاركهم السلطان ذاته بصحبة حاشيته، فيقوم بضرب السد الذي يحبس المياه بفأس لينهمر النهر في خلجان المدينة، حتى يتمكن السكان من العبور فيها بالقوارب».

أما في العهد العثماني فكان لهذا الاحتفال دلالاته المختلفة، وبواعث أعلى مما كانت في السابق، إذ ارتبط العيد بالمساعدات والمخصصات النقدية والعينية التي كانت تؤمنها مصر للحرمين، كما يشير الدكتور محمد علي فهيم، فكان فيضان النيل والاحتفال به إشارة إلى أن مصر ستضطلع بدورها التاريخي في تأمين المخصصات السنوية للحجاز، ولذا كان الباشا يتقدم المحتفلين في كل عام.

ومن جملة وثائق سجلات الديوان العالي بمصر إشارة لاحتفاء السلطان العثماني بهذا العيد وفيها «بأنه قد حصل السرور لمولانا السلطان الأعظم ـ نصره الله ـ وبه يخرج المال الميري من تحت يد الديوان وغلال العنبر (الغلال الأميرية التي تخزن كفائض للدولة بمصر) والحرمين الشريفين على ما جرت به العادة من قديم الزمان.
.
وعلى هذا يخرج غلال الحرمين الشريفين والعنبر الشريف للسنة المذكورة، تحريرا في سبع عشرة صفر سنة ألف ومئة وتسعين وتسع من هجرة من له العز والشرف صلى الله عليه وسلم». يشار إلى أن الحكومة المصرية لا تزال تقيم هذا الاحتفال سنويا.

 

وتتمثل مخصصات الحرمين التي يبعث بها حكام مصر للحجاز كل عام في عنصرين، أحدهما العيني - هي كسوة الكعبة المشرفة - ثم ألحق بها في القرن الثاني عشر الهجري كسوة المقام والحجر وكيس مفتاح باب الكعبة، إلى جانب مجموعة من الستائر لغرض تغطية الأضرحة في مكة والمدينة، ويشار إلى أنه كانت هناك، منذ العهد المملوكي، إدارة خاصة بالكسوة في مصر تحت مسمى «نظارة كسوة الكعبة المشرفة».

أما العنصر الآخر وهو المادي - ما يسمى بالصرة الشريفة – وهو على أربعة أصناف: الصرة الميرية، صرة الأوقاف، الصرة الرومية، وصرة دار السعادة.

ويشير إبراهيم رفعت إلى أن أول من أرسل الصرة إلى الحجاز كان المقتدر بالله العباسي (295-316هـ).

ولعل أبرز من أجرى الأرزاق وأوقف القرى والضيع من خيرات مصر هو السلطان الأشرف قايتباي الذي زار الحجاز في حجته عام 884هـ واطلع على أحوال الناس فيها فأوقف الكثير من العقار، وفي العهد العثماني الأول، أوقف السلطان سليمان القانوني تسع قرى مصرية لصالح الحرمين.

 

وعليه كانت تخرج هذه المخصصات في موكب المحمل المصري في حج كل عام في مسيرة احتفالية باذخة تبدأ من «وكالة الست» بالجمالية، ثم يؤتى بالكسوة من مقر صناعتها بالخرنفش إلى ميدان القلعة صلاح الدين بالقاهرة مصحوبة بالموسيقى العسكرية.

وكان لتلك الصرة قوائم ووثائق محاسبية دقيقة توضح مقدارها وأوجه صرفها، ولعل من لطائف تلك الوثائق بعض أوجه الصرف التي لا تخلو من الغرابة: منها أن هناك مخصصا لصالح قراءة قصة المولد في محرم من كل عام، وهناك من أجرى مخصصا لملء دوارق ماء زمزم، أو لمنظف قناديل الحرم المدني، وأخرى حوت مرتبات خاصة لإحياء ليلة المولد النبوي، أو لقراءة القرآن لروح عزيز في الحرمين، وهناك من أوقف بمصر لقراءة البخاري ودلائل الخيرات.

وهكذا كانت تلك الأوقاف والمعونات تمثل احتفاء الخلفاء والسلاطين بالحجاز، وكانت مصر بالأخص - وهي هبة النيل كما ينقل عن هيرودوت - موردا ومعينا أساسيا لمخصصات الحرمين.

  • فيضان النيل بشارة على تأمين مخصصات الحجازأول من أرسل الصرة إلى الحجاز كان المقتدر بالله العباسي  
المصدر : صحيفة مكة | 1437/3/25هـ | بقلم : سلطان الطس - باحث دكتوراه في علوم المحاسبة بجامعة ليدز