إعادة اكتشاف تاريخ مكة المكرمة

لطالما كان مجتمع العلماء المكيين حفيا بتاريخ البلد الحرام وتوثيق حرمه عمارة وخدمة، ومشاعره وجباله وشعابه، فأفردوا المصنفات في تحرير أوليات بناء البيت الحرام وعمارته وتوسعته، وفي تراجم الأعيان والفضلاء من أهلها، ولم يهملوا توثيق خططها وجغرافيتها. ولقد تفرد الدكتور محمد الحبيب الهيلة بتاريخ وترجمة تصانيف التاريخ المكي، ومن ألف في تاريخ مكة المكرمة في كتابه «التاريخ والمؤرخون بمكة من القرن الثالث الهجري إلى القرن الثالث عشر» وقدم لنا إحصاء يدعو إلى الدهشة في هذا الشأن، إذ أحصى 187 مؤرخا مكيا في الفترة ما بين القرن الثالث وحتى القرن الثالث عشر الهجري، ألفوا زهاء 846 مؤلفا في تاريخ مكة وما يتصل بها. ولكن مما يؤسف له أن من بين كل تلك المصنفات التاريخية لم يطبع سوى 98 عنوانا، منها ما كان من الطبعات القديمة أو التجارية غير المحققة. وما طبع من تلك الكتب المحققة لا يرقى إلى بضعة عناوين. ثم أشار إلى أن ما بقي غير مطبوع يربو على 750عنوانا، ومن تلك المخطوطات 505 عناوين لم يستدل عليها المؤلف، مع إقراره بأنه لم يحص كل المؤرخين ومؤلفاتهم، وذلك لبقاء كثير من تلك المصنفات من غير طباعة أو تحقيق.



غير أنه بلا شك لم يُعن العلماء بكتاب تاريخ مكي كما هو الحال مع كتاب «أخبار مكة» للأزرقي، إمام المؤرخين المكيين، فهذا السفر النفيس، هو كتاب في الخطط المكية، تناول فيه الأزرقي مسرد بناء البيت الحرام، وأرخ بإسهاب للأماكن المأثورة كبيت مولد النبي صلوات ربي عليه، وبيت السيدة خديجة وأمثال تلك الآثار الشريفة من دور ومساجد، كما لم يهمل جغرافية مكة، حجرها ومدرها، أودية وآبارا وجبالا. فكان عمدة في موضوعه، ومهيمنا في أقرانه من كتب التاريخ. واللافت أن الكتاب كان ثمرة أجيال من مؤرخي مكة ابتداء من جد أبي الوليد الأزرقي، أحمد بن محمد الأزرقي، ثم إسحاق الخزاعي، شيخ الحرم، ثم محمد بن نافع الخزاعي عن عم أبيه إسحاق الخزاعي. والكتاب، كما يشير محققه رشدي الصالح ملحس، محقق نسخة المطبعة الماجدية ومحمد سعيد عبدالمقصود، التي صدر الجزء الأول منها في 1352هـ والثاني في 1357هـ، كان مفقودا، ولم يتعرض المحقق إلى تاريخ فقده أو يتطرق إلى المسألة بشيء من العرض والتحليل، على أن مخطوطات الكتاب، كما يؤكد الدكتور الهيلة، كانت متوفرة بمكتبات الشرق والغرب وعدّد منها تسع نسخ يعود بعضها إلى القرن السادس الهجري.

اهتديت منذ أيام وأنا أتصفح رفوف قسم العلوم السامية بمكتبة برذرتون، وهي المكتبة الرئيسة بجامعة ليدز البريطانية، إلى نسخة نادرة من كتاب الأزرقي، طبعة ليبزج في 1858-1861م، التي اعتنى بها وأخرجها إلى النور المستشرق الألماني فيردناند فستنفيلد (1808-1899م). وهذا المستشرق الكبير، الذي يقول فيه ماجد شبّر في مقدمته لكتاب «أشراف مكة»، والذي ألفه فستنفيلد ذاته، إنه «حقق لوحده مكتبة شاملة لأصول الدراسات التاريخية والجغرافية والعقائدية... وإن الأعمال الكبيرة التي قام بها يعجز عن القيام بها مجمع علمي من المجامع العربية في الوقت الحالي»، وقد ترجم له الدكتور عبدالرحمن بدوي في «موسوعة المستشرقين» بتوسع. أخرج فستنفيلد كتابه هذا بالاعتماد على ثلاث نسخ من مخطوطات أوروبية لكتاب الأزرقي، وأضاف عليها مقدمة بحث فيها مخطوطات الكتاب وترجم لمؤلفه. هذا وتضمن، إلى جانب الأزرقي، بعض نصوص التاريخ المكي، وهي منتخبات ضمت تواريخ الفاكهي والفاسي وابن ظهيرة.

لم تنشأ حركة الطباعة في مكة المكرمة حتى أسس الوالي العثماني عثمان نوري باشا أول مطبعة في الحجاز بجنوب المسجد الحرام، وهي مطبعة الولاية (المطبعة الأميرية أو مطبعة الحكومة) سنة 1302هـ، حوالي 1885م، أي بعد ما يربو على 27عاما من طباعة أخبار مكة في ليبزج بألمانيا، وهنا تبرز أهمية طبعة فستنفيلد التي أتاحت للعالم الاطلاع على هذا المؤلّف البديع في تاريخ أم القرى، والذي كانت جل المؤلفات التاريخية المكية منذ القرن الثالث الهجري وحتى اليوم عالة عليه. ومما يشير إلى علو مكانته أن تناولته أقلام المؤرخين بالاختصار والنظم والنسخ، إذ اختصره الإسفرائيني في «زبدة الأعمال وخلاصة الأفعال»، ثم يحيى الكرماني الذي اختصره في «مختصر تاريخ مكة المشرفة»، وعبدالملك الأرمنتي الذي نظم الكتاب في أرجوزة بعنوان «نظم تاريخ مكة للأزرقي في أرجوزة».

ويطيب لي من هنا أن أزف البشرى بأن قادم الأيام ستشهد ظهور دراسة متميزة للعالم المكي الدكتور معراج مرزا لكتاب الأزرقي «أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار» بالاعتماد على أكثر من 21 مخطوطة، يعود بعضها إلى القرن السادس الهجري، وستكون بإذن الله إضافة قيّمة للمكتبة المكيّة.

المصدر : صحيفة مكة المكرمة 1437/6/20هـ