دا ر أبي سفيان ( مستشفى القَـبّان )

لكل مدينة تاريخ, وجزء من تاريخها يتمثل في المواقع المميزة فيها والمشهورة منها دينيا وثقافيا واجتماعيا, ومكة المكرمة مدينة المسلمين المقدسة, تاريخها عريق لا يخلو من الأماكن والآثار والقصص حولها, كالمسجد الحرام ومقام إبراهيم وبئر زمزم والقصور والقلاع وكذلك الدور التي شكلت النسيج المكي العمراني والاجتماعي ومنها المأثورة الذكر ذات الأهمية كدار السيدة آمنة حيث مولد سيد البشر صلى الله عليه و سلم  ودار زوجته السيدة خديجة بنت خويلد ودار الندوة ودار الأرقم, وهنا نسلط الضوء على أحد فصول التاريخ , دار الصحابي الجليل (أبو سفيان بن حرب) التي اكتسبت أهمية تاريخية يوم فتح مكة إضافة إلى كونها دار كبير قريش وقتها, حيث ذكرها النبي صلى الله عليه و سلم  عند دخوله المدينة المعظمة وإعطائه سكانها الأمان بقوله: (( ‏من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن )).

(ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)
دار أبي سفيان بن حرب بمكة المكرمة كانت واقعة على يمين الصاعد من المسجد الحرام إلى المدّعى محاذية للمروة, فتكون عند أول شارع المدّعى الخارج من المسجد الحرام, وهذه الدار التي عناها رسول الله صلى الله عليه و سلم  يوم فتح مكة حينما نادى مناديه: " من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن, ومن دخل المسجد فهو آمن, ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن". وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين خلت من رمضان من السنة الثامنة للهجرة .

يطلق على دار أبي سفيان رضي الله عنه " القَبَّان بفتح القاف وتشديد الباء وهي واقعة جهة المسعى بأول المدّعى.

قال الأزرقي في تاريخه بصحيفة (193) من الجزء الثاني ما ملخصه: أنه كان يباع في الرحبة التي بين الدارين, دار أبي سفيان ودار حنظلة بن أبي سفيان الحنطة والحبوب والسمن والعسل التي تحملها العير إذا قدمت مكة من السراة والطائف وغير ذلك, فهذه الرحبة أشرف ربع مكة.

جاء في تاريخ الأزرقي ما نصه: لآل حرب بن أمية بن عبد شمس دار أبي سفيان بن حرب التي بين الدارين, يقال لها دار ريطة ابنة أبي العباس, وهي الدار التي قال عنها النبي صلى الله عليه و سلم  يوم الفتح: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

تاريخ الدار
ينقل الشيخ الكردي وصف الامام الأزرقي للدار فيقول عنها: أن جهة دار أبي سفيان هذه "أي مستشفى القبان" كانت من قديم الزمان فيها دار للمرضى أيضا, فإنه يقول في تاريخه بصحيفة 192 من الجزء الثاني: ودار الحدادين التي بسوق الليل مقابل سوق الفاكهة, وسوق الرطب في الزقاق الذي بين دار حويطب ودار ابن أخي سفيان بن عيينة التي بناها, ودار الحدادين هذه كانت فيما مضى يقال لها دار مال الله كان يكون فيها المرضى وطعام مال الله. انتهى كلامه – فهو يقول: دار الحدادين يقال لها دار مال الله وهي واقعة بسوق الليل وفي هذه الدار يكون المرضى في ذلك الزمن –
ويضيف الكردي : نقول وسوق الليل واقع وراء المدعى, ويبتدئ سوق الليل من وراء مستشفى القبان كما يبتدئ المدعى من هذه المستشفى.

ويقول الشيخ الغازي في الجزء الثالث في تاريخه عند ذكر ترجمة وتولية الحاج محمد حسيب باشا مكة ما نصه: ثم تولى بعد الحاج محمد شريف باشا المشير الحاج محمد حسيب باشا سنة (1264) وقدم مكة فأحسن إلى جيران بيت الله تعالى وصرف لهم مرتباتهم, واخذ في مباشرة تعمير المآثر المباركة, وزاد في ماهيات بعض خدمة الحرم الشريف , ثم عمّر المحل المعروف الآن "بالقبان" وجدد بنائه وجعله خلاوي لفقراء الحرم ورتب لهم عشيا وشوربة, وفي زماننا اتخذت "أي دار أبي سفيان المسمى بالقبان" (خستخانة) وهذه كلمة تركية معناها مستشفى, لمرضى فقراء الأهالي والمنقطعين , و هي دار أبي سفيان الذي قال فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم  يوم فتح مكة : "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن".

ثم إنه اعتنيت بهذه المستشفى أكثر مما تقدم, فإنه لما كانت سنة (1282) أمرت "بزم عالم" والدة السلطان عبدالمجيد خان من سلاطين آل عثمان بجعل هذه الدار مستشفى للمرضى فكان فيها بعض الأطباء مع ما يلزم من الأدوية, فبطل وزن الحبوب والأشياء فيها, فنقل القبان إلى الدكاكين المجاورة للدار بالمدعى وما زال ذلك إلى اليوم (زمن الكردي). ولهذا نسب المستشفى إلى القبان فقيل لها "مستشفى القبان".

فلما تعددت المستشفيات بالبلدة الطاهرة نقل المرضى من هذه الدار إلى بعض المستشفيات الأخرى, وجعل مستشفى القبان مستودعا للأدوية الصحية والأدوات الطبية العائدة لوزارة الصحة وذلك ابتداءً من سنة (1364هـ), فصارت تعرف الآن "بمستودع وزارة الصحة".

سبب تسمية الدار بـ (القبّان)!
يوضح ذلك الكردي حيث يقول : إن دار أبي سفيان المذكورة تعرف في زماننا بمستشفى القبان , وهي في محلها في أول المدّعى , والقبان بفتح القاف وتشديد الباء. قال عنها المنجد: "آلة توزن بها الأشياء والكلمة من الدخيل" وسبب نسبة المستشفى إلى القبان هو أنه كان في الدار المذكورة توزن أكياس الحبوب وصفائح السمن والعسل ونحوها, بميزان طويل يثبت فيه ما يراد وزنه ثم يحمله شخصان لمعرفة مقدار الوزن في مقابل أجر معين.

 

قصة عن الدار
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي عبدالرحمن بن الحسن بن القاسم عن أبيه, عن علقمة بن نضلة قال: أصعد عمر بن الخطاب
رضي الله عنه المعلاة في بعض حاجته, فمر بأبي سفيان بن حرب يهيئ جملا له, فنظر إلى أحجار قد بناها أبو سفيان شبه الدكان في وجه داره, يجلس عليه في الغداة, فقال له عمر: يا أبا سفيان, ما هذا البناء الذي أحدثته في طريق الحاج؟ فقال أبو سفيان: دكان نجلس عليه في فيء الغداة. فقال له عمر: لا أرجع في وجهي هذا حتى تقلعه وترفعه, فبلغ عمر حاجته, فجاء والدكان على حاله فقال له عمر: ألم أقل لك لا أرجع حتى تقلعه؟ قال أبو سفيان: انتظرت يا أمير المؤمنين أن يأتينا بعضا أهل مهنتنا فيقلعه ويرفعه. فقال عمر رضي الله عنه : عزمت عليك لتقلعنه بيدك, ولتنقلنه على عنقك, فلم يراجعه أبو سفيان حتى قلعه بيده ونقل الحجارة على عنقه وجعل يطرحها في الدار.

فخرجت إليه هند ابنة عتبة فقالت: يا عمر, أمثل أبي سفيان تكلفه هذا وتعجله عن أن يأتيه بعض أهل مهنته.

فطعن بمخصرة كانت في يده في خمارها, فقالت هند ونفحتها بيدها: إليك عني يابن الخطاب, فلو في غير هذا اليوم تفعل هذا لأضطمت عليك الأخاشب.

قال: فلما قلع أبو سفيان الحجارة ونقلها استقبل عمر القبلة وقال: الحمد لله الذي أعز الإسلام وأهله, عمر بن الخطاب رجل من بني عدي يأمر أبا سفيان بن حرب سيد بني عبد مناف بمكة فيطيعه.
ثم ولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انتهى من الأزرقي.


ومعنى الدكان هنا كما جاء في المنجد: شيء كالمصطبة يقعد عليه والكلمة فارسية. ومعنى المخصرة بكسر الميم هنا كما في المنجد: ما يأخذه الملك بيده ليشير به إذا خاطب.

وصف الدار في القرون المتأخرة
في تحصيل المرام يصف المؤرخ الصباغ (ت 1321هـ) الدار بقوله: "وهذا المحل بوقتنا الآن جعل دارا للأطباء يداوى فيه المرضى, ومصرف ذلك على والدة السلطان عبدالعزيز خان, ورأيت فيه من الأدوية الغريبة التي لم توجد في غيره, وتصرف عليه أموال عظيمة, كل ذلك لأجل الأجر والثواب, والشفاء من الله".

وأبلغ وصف للدار كان من الأديب عزيز ضياء في رائعته (حياتي مع الجوع والحب والحرب) حيث وصفها وصفا دقيقا نذكر أبرزه بقوله:
"وجدنا القبّان الذي ندخله من بوابة واسعة بعد صعود عدد من السلالم الطويلة من الحجر الأسود بعرض البوابة الواسعة, ووجدناه مكانا جميلا في مواجهة الداخل المسجد الصغير.

ثم وإلى يمين الممر الواسع أو ما يسمى (الدهليز) حديقة وبركة ماء ممتلئة, ليست كبيرة ولكنها تتناسب مع الفناء حولها, وفي الصدر من هذه الحديقة وعلى الجانبين أبواب فتح كلا منها السيد أحمد ونحن نمشي خلفه وهو يقول: هادي ثلاث قاعات وكل قاعة فيها الأسرِّة بعددكم.

لاحظنا من جانبنا أن في القاعة الواسعة عددا من الشبابيك تطل على الحديقة, يواجهها في أعلى الجدار عدد من المناور المغلقة بدُرف من الزجاج, لكن لا بد لفتحها من سلّم.

وخرجنا إلى الدهليز الفسيح, وفيه باب ذلك المسجد الصغير المغلق, ثم باب آخر رأينا عبر قضبانه التي كانت من الحديد المدهون بلونٍ أبيض, حديقة أخرى بدت لنا أجمل من حديقتنا ولكن لا سبيل إلى الدخول إليها لأن الباب محكم الإغلاق, فاقتربنا منه والتصقنا به لنستوفي رؤية ما وراءه.

كانت الحديقة نظيفة وأشجارها قصيرة, قال المنديلي إنها أشجار الليمون, وهناك أحواض منسقة فيها مجموعة من النباتات المزهرة, عرفنا منها ما يسمى (ورد الليل) و (تفاح الوَجَنْ) و (النرجس) ونبات متسلق على جذوع أشجار الليمون يعرف بأنه يسمى (حبيب الصباح) لأنه يعطي أزهارا تتفتح في الفجر, ثم تذبل في الضحى.


وأخذنا ندير نظراتنا بقدر ما يسمح التصاقنا بالباب, فرأينا بركة ماء بيضوية الاستدارة لا ترتفع عن الأرض أكثر من متر واحد تقريبا, وفي وسطها نافورة يتدفق منها الماء برفق وببطء.

أقبلنا نريد دخول المسجد لنرى ما فيه, ولم يمانع البواب ولكنه قال إنه مظلم وعلينا أن ندخله في النهار وفهمنا منه أنه نادرا ما صلّى فيه أحد, لأن الباب الكبير مغلق دائما, مع أنه خالٍ من أي نافذة ما عدا (مِنْورين مرتفعين بارتفاع مبنى القبّان)."

أما الشيخ الكردي فقد دخل الدار ووصفها وصفا عاما ويقول :
وقد دخلنا هذه الدار في يوم الثامن والعشرين من شهر رجب سنة (1376هـ) لأخذ بعض الصور الفوتوغرافية لها, ووجدنا فيها لوحة طولها نحو متر واحد وعرضها نحو نصف متر كتب فيها بخط الثلث "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" كتبها (محمد عارف مصطفى شكري) سنة  (1312هـ).

 

كما وجدنا في الدار المذكورة بئرا قديمة جدا وهي بعيدة الغور غزيرة الماء وفي طعم مائها نوع ملوحة, يقال أنه وقع فيها شخص فمات منذ خمسة عشر سنة فنزل إليها بعض الغواصين من مكة فلم يقدر أن ينتشل جثة الرجل الذي وقع فيها فأتوا بغواص من جدة من رجال البحر فنزل فيها فأخرج الجثة.

وليس جميع حدود مستشفى القبان, وبعبارة أخرى "مستودع وزارة الصحة" هو حدود نفس دار أبي سفيان في زمنه, بل إن داره القديم جزء صغير بالنسبة إلى عمارة المستودع اليوم بأضعاف ما كانت عليه في زمنه رضي الله عنه .

ودار أبي سفيان المذكورة لا تبقى بعد مرور أربعة عشر قرنا عليها على ما كانت عليه في زمنه, فلا بد أن يحصل عليها خراب فعمار مرارا عديدة, لكن لا يزال نفس المحل والموضع معروف ومحتفظ به إلى اليوم وفيه محراب ظاهر, وخلف هذا الموضع بالضبط يقع موضع ميلاد فاطمة الزهراء ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم  ومنزل أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها.

 

مصير الدار

 

وبما أن دوام الحال من المحال, ولكل شيء نهاية, فإن مصير هذه الدار قد آل إلى الزوال, حيث تقرر إعادة كان الهدف من ذلك هو إعادة بنائها لتتم الإستفادة منها بشكل أفضل, بعد انتشار المستشفيات ومراكز الخدمات الصحية في نواحي مكة, ويذكر الشيخ الكردي خبر ذلك:

"وفي عامنا هذا (1385هـ) بدأت الحكومة السعودية في هدم مستشفى القبان الذي محله في الأصل هو محل دار أبي سفيان رضي الله عنه , تريد الحكومة أن تهدمه ثم تبنيه وتجعله دار للكتب للنفع العام". اهـ.

ولكن للأسف أن ذلك لم يتم حيث أنه بعد هدم الدار بقيت أرضًا فضاءً استخدمت فيما بعد إلى مواقف للسيارات! واستمرت على هذا الحال إلى أن حان وقت توسعة الملك فهد بن عبدالعزيز – رحمه الله- وتم رصف الأرض برخام المسجد الحرام, لتطوى بذلك صفحة وذكرى من التاريخ المكي.

أخبار متفرقة عن مستشفى القبّان من جريدة أم القرى

 

المراجع:-
1.التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم . محمد طاهر الكردي.
2.إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام مع تعليقه المسمى بإتمام الكلام, عبد الله الغازي المكي.
3.تحصيل المرام في أخبار البيت الحرام والمشاعر العظام ومكة والحرم وولاتها الفخام, محمد بن أحمد الصباغ.
4.أم المؤمنين خديجة بنت خويلد: سيدة في قلب المصطفى , محمد عبده يماني.
5.حياتي مع الجوع والحب والحرب, عزيز ضياء.
6.مجلة العربي, العدد 78 , العام 1385هـ/1964م.
7.جريدة أم القرى, دارة الملك عبدالعزيز.

موضوع خاص يموقع قبلة الدنيا ..مكة المكرمة | من اعداد : بدر أحمد بدرة | معالجة الصور : حسن عبدالعزيز مكاوي | تم النشر في على الموقع في تاريخ 1437/7/23هـ