فِلم هولندي عن الحج صوّر قبل 88 عاماً
الفرق واضح بين ما هو وثائقي وما هو روائي الأفلام. ولكن الحدود ما بين النوعين تضيع في بعضها، كما هو الحال في فِلم هولندي يعود إلى عشرينيات القرن الماضي، تم تصويره في المملكة بهدف «توثيق» فريضة الحج، وسجل بالفعل لقطات تاريخية ثمينة. ولكن ما مدى أمانته للحقيقة؟.
الحج قبل 88 عاماً
موضوع الفلم تهتز له القلوب: مشاهد الحج عام 1928م. والفِلم هولندي، يزعم أنه أول فِلم في التاريخ، يعرض الحج بصور غير ثابتة، يرافق الحجاج الإندونيسيين من ديارهم، ثم على متن السفينة حتى وصولها إلى جدة، ثم مكة المكرمة، ثم المدينة المنوّرة، ثم مكة مرة أخرى، قبل العودة إلى جدة، ومنها إلى السفينة، حتى الوصول إلى بلادهم.
أكثر من سبعين دقيقة والفِلم يشد المشاهد، رغم أنه صامت والتعليقات الموجودة عليه لا تحتوي على معلومات جديدة، فجاذبيته هي في رؤية هؤلاء المؤمنين وهم يتحملون كل التعب من أجل تأدية هذه الفريضة، والانتقال من السفينة إلى قوارب شراعية، ثم على ظهر الجمل، أو السير على الأقدام مسافات طويلة، والتعرف على شكل المسجد الحرام آنذاك، وكذلك المسجد النبوي، وشوارع وميادين المدينتين الشريفتين.
شاهدنا الفِلم مرة وراء مرة، وظهرت أسئلة كثيرة لا يجيب عنها الفِلم، فكان لا بد من الحديث مع الابن الأصغر للشخص الذي صوّره، وهو الوحيد المتبقي من العائلة على قيد الحياة، اسمه يان كروجرز، ويبلغ من العمر ثمانين عاماً، ويحمل الدكتوراة في الكيمياء.
قال إن أباه لم يكن مسلماً، وإنه دخل الأراضي المقدسة متخفياً، وقام بالتصوير بكاميرا وضعها بين ملابسه، ولذلك فإن الأميرة يوليانا، أميرة العرش الهولندي آنذاك والملكة فيما بعد، التي حضرت العرض الأول للفِلم في مدينة لايدن الهولندية في عام 1928م، رفضت قبوله حفاظاً على مشاعر المسلمين، خاصة وأن إندونيسيا كانت آنذاك تابعة للتاج الهولندي، وتسبب هذا الموقف من الأسرة المالكة الهولندية، إلى عدم حصول والده على أي دعم مادي من الحكومة، وعدم رغبة الجهات الهولندية في اقتناء الفِلم.
اعترف بأن والده لم ينطلق من أي دوافع دينية، عند قيامه بتصوير هذا الفِلم، وأن المعلومات الواردة في الفِلم عن الإسلام عامة والحج بصورة خاصة، كتبها الحاج سليم آجوس، وهو من أهم الشخصيات التي أسهمت في تأسيس دولة إندونيسيا.
البحث عن الحقيقة
عندما يتناول فِلم ما أحداث الحج، ثم تجده يركِّز كثيراً على شركة الملاحة، والسفن التي تنقل الحجاج، وما توفره من خدمات، واهتمام الطاقم براحة الحجاج.. فإن الأمر يصبح مفهوماً، عندما يذكر الدكتور كروجرز أن والدته كانت تعمل في مكتب مدير شركة الملاحة في هولندا، قبل أن تنتقل إلى زوجها في إندونيسيا على حساب الشركة، ويؤكد كروجرز أن هناك كثيراً من المؤشرات أن تكون أمه، أقنعت أباه بعمل هذا الفِلم، بدعم من الشركة، ويؤكد ذلك أن الشركة كانت تعرض الفِلم باستمرار في إندونيسيا، بزعم أنه تعريفي بشعائر الحج، لكنه في الحقيقة يقدِّم دعاية لها.
كذلك ذكر الابن أن والده سافر في رحلة الحج، ومعه 10 – 12 شخصاً، كلهم ممثلون، يتكرر ظهورهم في الفِلم، وكانوا بالطبع يعرفون أنه غير مسلم، وأنهم كانوا بمنزلة الجواسيس له. وبذلك استطاع أن يصوِّر مشهد وصول موكب الملك عبدالعزيز، إلى المسجد الحرام في اللحظة المناسبة، لأنه حصل على هذه المعلومات، قبل موعد وصوله بفترة كافية.
يتضح من ذلك أن لممولي الفِلم هدفاً واضحاً، وهو الحصول على أكبر عدد من الحجاج، ليسافروا على سفنهم، فإذا كان عدد الحجاج آنذاك يبلغ حوالي خمسين ألف شخص، يدفع كل واحد منهم ما يعادل 2500 ريال سعودي، فإننا نتحدث عن ملايين كثيرة، يمكن أن تدخل خزائنهم عاماً وراء عام، وليس للأمر علاقة بنقل صورة صادقة عن الحج، مما يوضح سبب وجود معلوماتٍ خاطئة، مثل القول إن الحجاج يتجهون جميعاً في اليوم الثالث من ذي الحجة إلى المدينة، لتأدية العمرة.
صحيح أن المشاهد يرى الصور التي توثِّق الحدث، لكن الكاميرا ليست هي التي تلتقط بل الشخص الذي وراءها. فهو يختار ما يريدنا أن نعتقد أنه الحقيقة. ولذلك، مثلاً، لم نرَ شيئاً سلبياً على السفينة، حتى مشهد الشخص الذي مات أثناء رحلة العودة، أظهر الفِلم الاهتمام البالغ بتغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، قبل إلقاء الجثمان بوقارٍ شديدٍ في مياه المحيط.
كذلك لا يستطيع المشاهد أن يعرف، من هم الأشخاص الذين يؤدون الحج فعلاً، ومن هم هؤلاء الممثلون، الذين رافقوه في مهمة عمل لا علاقة لها بالحج؟ هل هم هؤلاء الأشخاص، الذين يجلسون في الخيمة أثناء وجودهم في عرفة، وبدلاً من أن تلهج ألسنتهم بالدعاء، وبدلاً من أن يقرأوا القرآن الكريم، تراهم يدخنون بشراهة ويضحكون ويتسامرون؟
حتى النصوص التي تظهر في الفِلم، والبالغ عددها 157 تعليقاً على المشاهد المعروضة، تبدو وكأنها وصف محايد وموضوعي، ولكنها في الحقيقة الوصف الذي وضعه الحاج سليم آجوس، الذي يقال إنه كان صاحب رؤية اشتراكية للإسلام، وأنه كان مؤيداً لفكر المعتزلة، ولذلك فإن هذا الوصف يوجِّه من يرى الصور إلى اتجاه معين.
رؤية الخبير
قررت جامعة أوتريخت الهولندية عرض الفِلم تزامناً مع موسم الحج، وفي إطار مشروع بحثي أكاديمي، ورأى الدكتور يان كروجرز أن المشاهدين لن يتحملوا 72 دقيقة من الصمت، فقرر تكليف متخصص في الموسيقى الشرقية، أن يضع موسيقى تصويرية للفِلم. وإذا بهذه الموسيقى تُضيف بُعداً جديداً للفِلم، فهي قادرة على أن تجعلك ترى المشهد بصور متعددة، تبعاً لاختيار اللحن.
عندما يكون الفِلم صامتاً، تركِّز على الصورة، وتقرأ باهتمام كل كلمة، ولكن الموسيقى لا تخاطب العقل، بقدر ما تؤثر على المشاعر، فالموسيقى التي ترافق صعود القنصل الهولندي إلى السفينة، لتفقد رعايا بلاده من الإندونيسيين، تختلف تماماً عن الموسيقى المصاحبة لمشاهد الأفارقة المقيمين خارج أسوار جدة. ومرة تسمع الأذان من شخص تركي، ومرة أخرى تسمع فيروز (المسيحية) وليلى مراد (اليهودية الأصل)، وأسمهان (الدرزية)، وأم كلثوم، وهن يغنين للحجاج.
تحدثت مع الدكتور عمرو رياض، الأستاذ بجامعة أوتريخت، الذي رأى في الفِلم جوانب أخرى كثيرة، منها تركيز الفِلم على الجانب الصحي، من فحص طبي للحجاج قبل السفر إلى مكة، ودخولهم الحجر الصحي فور نزولهم من السفينة، وقبل عودتهم إلى أهلهم، مع التنبيه إلى حالة الوفاة على السفينة، لتوضيح عواقب التهاون في الجانب الصحي، والتحذير من مخاطر نقل العدوى.
وأشار الدكتور رياض إلى الجانب السياسي، وأن هولندا عانت بشدة من تبادل الأفكار بين الحجاج، وخوفها من أن ينقلوا إلى بعضهم بعضاً خبراتهم في ظل الاحتلال الأوروبي، سواء كان إنجليزياً أو فرنسياً أو هولندياً، والخوف من انطلاق شرارة الثورة بينهم. ولذلك كانت إشارة الفِلم إلى حرص القنصل الهولندي فان در مولن على متابعة أحوال الحجاج بنفسه، رغم أن هذا القنصل كان معروفاً بحرصه على جمع تقارير سرية عن الحجاج الإندونيسيين يرسلها لوزارته في لاهاي، ومعرفة الأشخاص المؤثرين بين الحجاج، بحيث يستميلهم، ويكسب ولاءهم لبلاده.
كما أشار إلى عرض الفِلم لمدرسة الفلاح التي كانت مصدراً للحصول على العلوم الإسلامية، والأفكار التي كانت جماعات كبيرة في إندونيسيا تتبناها، وتعمل على تطبيقها، مما هدَّد من قبل عروش أمراء كانوا موالين لهولندا.
فعندما تشاهد مقطع فيديو، (يوثِّق) حادثة، حتى لو تعلَّق الأمر بمشاهد الحج، تذكر أن عينك مهمتها أن ترى فقط، أما التفكير فيقوم به العقل.
المصدر : مجلة القافلة
0 تعليقات