أسـواق مكـه الشعبيـة.. الذاكرة تفيض بملامح الماضي الجميل

في مدينة استثنائية ليست ككل مدن العالم، من حيث الطبوغرافية والتوافد اليومي عليها كقبلة ووجهة دينية لأمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ولكونها من أكثر المدن السعودية التي تحظى بحجم الإنفاق الحكومي مما أزال أحياءً بكامل شوارعها وأسواقها وحاراتها لصالح التطوير والتنمية.. مكة المكرمة قبلة النور ورجى قصص يدور فلكها حول أسواق تاريخية تقاوم التغيير بالتراجع والانحسار وأخرى تتعافى على أنقاض الأسواق القديمة وثالثة لفظت أنفاسها الأخيرة، ورابعة أسواق عشوائية غير مأسوف عليها.

شهدت السنوات العشر الأخيرة إزالة سبعة أسواق قديمة متاخمة للمنطقة المركزية بمكة، وارتبطت بالحجاج والمعتمرين وسكان مكة المكرمة على مدى سنوات طويلة، وهي أسواق الجودرية والغزة وشعب عامر والشبيكة وحارة الباب والشامية والقرارة حيث أصبحت مناطق داخل توسعة الساحات الشمالية للحرم المكي وللمشاريع الملحقة بها مثل محطات القطارات والطريق الدائري الأول.

"الرياض" تستعرض في هذا التحقيق أشهر هذه الأسواق وما آلت إليه، وأكثر أسواق مكة المكرمة ازدهاراً اليوم.

رواج وازدهار

مصائب قوم عند قوم فوائد، لا تملك إلا أن تردد هذا المثل الشعبي عندما تعرف أن ثمة أسواق خامدة اشتعلت لدرجة ارتفاع قيمة محلاتها عشرات المرات بأسباب إزالة الأسواق القديمة بالقرب من الحرم المكي، ويعتبر سوق الجعفرية أحد أهم الأسواق المستفيدة الذي أصبح وجهة حقيقية للمستثمرين في بيع مستلزمات الحج والعمرة والزيارة والهدايا والخردوات والملابس فضلاً عن أنه تحول إلى مقصد للحجاج والمعتمرين الباحثين عن هدايا رحلات الحج والعمرة.

انتعاش ملحوظ

ويبقى سوق العتيبية من الأسواق التي استفادت اقتصادياً من إزالة الأسواق القريبة من الحرم المكي حيث تحول السوق إلى سوق مركزية جديدة خاصة في ظل ربطه بالحرم المكي بنفقين جديدين مكيفين، ويزيد عمر السوق عن نصف قرن وفقاً لمصادر تاريخية سكنت الموقع ويروي الشيخ فازع اللحياني -أحد ساكني الموقع منذ ٦٠ عاما- أن الحي تكون من مساكن المواطنين من بيوت الشعر والخيام ثم بيوت الصفيح والمبان الشعبية وقد أنشئت فيه مجزرة لذبح المواشي كما أن الحي كان يضم ما يعرف بالمنشية وهي حلقة مصغرة لبيع الخضار واللحوم وأضاف ونتيجة التوسع العمراني توسعت المحلات التجارية على الشارع العام في زمن لا تعرف مكة المكرمة إلا الأسواق القريبة من الحرم المكي التي تكلف المواطنين عبء الذهاب اليها ويزيد عدد المحلات في سوق العتيبية على 2000 محل تجاري مختلفة الأنشطة التجارية.

مقاومة الزحف

ومن بين الأسواق التاريخية المهمة التي تقاوم زحف التطوير والتنمية سوق جرول الذي يزيد عمره على بعد 85 عاماً حيث يتهيأ ليكون ضاحيةٍ مركزية جديدة مُطوّرَة ضمن مشروعات خادم الحرمين الشريفين التطويرية لمكة المكرمة، ولا زالت ذاكرة الحي التي تفيض بسيل من ذكريات الذين سكنوه تستحضر ملامح حياة الأمس بماضيها الجميل، حيث يقصد السوق أبناء حارات مكة المكرمة والقرى المحيطة بها لاحتضانه تُجار الجُمْلة، وباعَة البهارات والخضار والفواكه، وسوق العلف والحبوب، والحمام، وسوق الماشية الذي تم نقله في التسعينيات الهجرية.

وقال طلال الحساني -عمدة الحي- إنّ سوق جرول يتكئ على موروث قديم، ويحتضن بئر طوى التي اغتسل منها الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم قدومه لفتح مكة المكرمة ومعه الجيش الفاتح، بالإضافة إلى أول فندق في مكة المكرمة، ومقر وزارة الداخلية قديماً، ومنزل الوزير عبدالله السليمان وزير المالية.

وأخذ سوق جرول شهرته بعد نقل سوق الخضار من الحلقة القديمة بجوار الحرم المكي إلى الموضع الحالي مما حوله لملتقى تجار ومزارعي وادي فاطمة وهدى الشام وعسفان والطائف.

ويؤكد علي الحربي -أحد سكان جرول سابقا- أنّ الحيّ لا يفصله عن ساحات الحرم اليوم سوى 700م، وأنّ (90%) من مبانيه قديمة، والبقية عبارة عن أبراج سكنية بُنيَت مؤخراً لمساكن الحجاج، وأنّ المشروعات التطويرية نسفت مالا يقل عن (65%) من الحيّ لصالح إنشاء المحطة المركزية للحرم المكي.

تجارة جديدة

وفي خضم موجات التغيير التي طالت معظم الأسواق المحيطة بمكة المكرمة ظهرت تجارة جديدة لم تكن معروفة من قبل وهي تجارة المحلات التجارية داخل الفنادق وهي خدمات تسويقية ظهرت في ظل قيام فنادق عملاقة تضم في داخلها محلات تجارية.

وظهرت دكاكين الفنادق وكأنها تتبع زحف الحجاج باتجاه المساكن والفنادق حيث ظهرت حوانيت ملاصقة لفنادق الحجاج وداخل الفنادق ساهم في ارتفاع عائداتها في موسم العمرة مع رمضان والحج.

وكشف مروان خليل -مندوب توزيع- أن موسم الحج يعتبر من المواسم المنتظرة في حين تعتبر مكة المكرمة أكبر سوق مستهدف من لمستلزمات الحجاج مبينا أن احتضان أم القرى لمواسم العمرة ورمضان والحج قادها للتفوق على كثير من مدن المملكة في استقطاب منتجات المصانع.

وكشف متسوقون من حجاج بيت الله أن الأسواق المغلقة جذبت نسبة كبيرة من الحجاج في فضاء التسوق، وبيّن قاسم ناهض -حاج يمني- أن فخامة الأسواق وتوفر التكييف في فصل الصيف وتواجد الماركات وتنوع المعروض أسباب تعددت لترفع الطلب على الأسواق المكيفة في مركزية مكة المكرمة في حين أن الشعبية ظلت تقاوم ضغوط السوق.

بدوره ألمح عبدالله أسعد -مستثمر- إلى أن الخليجيين وأصحاب الدخل العالي والمتوسط من الحجاج يفضلون الأسواق الفاخرة المغلقة لكن البسطاء من حجاج الدول الفقيرة يتجهون نحو المحلات الشعبية والبسطات الموسمية.

ويشير سلطان قادري -بائع- إلى أن جنسية الحجاج تحدد نوع البضائع فهناك من يعشق الهدايا والخواتم والمساويك وهناك من يفضل الملابس وألعاب الأطفال والعطارة والخردوات.

ثلث قرن

ومن بين الأسواق التي غادرت الذاكرة المكية الى غير رجعة الأسواق الأفريقية المخالفة والتي تآكلت بأسباب تنفيذ مشروع طريق الملك عبدالعزيز حيث حاصرتها معدات التطوير من كل الجهات، ومعدات القطع الصخري من كل صوب، وأضحت أطلالاً إلا من بقايا بضائع تقليدية وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة.

المترددون من أبناء الجالية الأفريقية والعمالة المقيمة ظهرت وكأنها تلقي النظرة الأخيرة على السوق اليتيم الذي ظلت تتردد عليه أكثر من ثلث قرن، -سوق قودن- كما يسميه الأفارقة ربما يكون السوق الوحيد الذي تآكل من كل الأطراف وأصبح السوق مكشوفاً في العراء أمام الزائرين.

حالة من الرضا رصدتها "الرياض" لمواطنين أظهروا فرحتهم باختفاء أشهر سوق أفريقي غارق في العشوائية، فيؤكد حسين الهذلي كأنه حلم أومعجزة ما نشاهده في مكة المكرمة لأسواق فوضوية خارجة عن ملامح وضوابط وأنظمة الأسواق الحديثة والتاريخية نظراً لاتساع مساحة التجاوزات فيها لذا فنحن غير عابئين بما آلت إليه هذه الأسواق وبانتظار تنفيذ مشاريع التطوير.

الأسواق العشوائية

ومن ضمن الأسواق العشوائية القديمة التي طالتها معدات التطوير سوق المنصور الذي ظل يمارس دوره التجاري لأكثر من نصف قرن من خلال 800 محل تجاري، ولعل مما يميز هذا السوق أنه قريب من الحرم المكي بأقل من 2 كم.

وسمي السوق بالمنصور نسبة إلى صاحب السمو الملكي الأمير منصور بن عبدالعزيز -رحمه الله- وزير الدفاع الأسبق في عهد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه الذي عوض ملاك البيوت الشعبية والأكواخ قديما بجنيهات ذهبية، ويضم شارع المنصور قصر الأميرة منيرة وقصر الأميرة العنود وهو الآن مقر الهلال الأحمر ومركز الرعاية الأولية حالياً، وقصر الأميرة الجوهرة كما يضم بيوت قديمة وتجارية.

ويصف محسن الشريف -عضو اللجنة العقارية في الغرفة التجارية- حال السوق اليوم بالعبارة "آخر العلاج الكي" مضيفاً أن كل الحلول والمقترحات والتوصيات والمطالبات التي سردتها وسائل الإعلام على مدار عمر السوق لم تفلح حيث جاء اجتثاث السوق من جذوره كحل فاعل وناجع.

تهيئة الكوادر البشرية

لمخرجات التطوير

من جهته أكد د. فايز جمال -مهتم بالتاريخ المكي-: إن مسؤولية تطوير الجوانب الاقتصادية والاجتماعية مسؤولية مشتركة بين القطاع العام والخاص من خلال حصر وتحديد متطلبات المشاريع الكبرى من الكوادر سواء في مرحلة التنفيذ أو التشغيل والصيانة وحصر الإمكانات المحلية المتوفرة للتدريب والتأهيل وبيان الفرص الاستثمارية في مجال التأهيل والتدريب وما تحتاجه من ضوابط وتنظيم وتنسيق وحصر الجهات ذات العلاقة في القطاعين العام والخاص والعمل على وضع خارطة طريق مرحلية لتهيئة الكوادر البشرية اللازمة لإدارة وتشغيل وصيانة مخرجات مشاريع التطوير.

من جانبه شدد د. سمير برقة -مهتم بالتاريخ المكي- على أهمية الاعتناء بإعادة الأسواق المكية القديمة لتحقيق التنمية المجتمعية فيما يتعلق بالعادات والقيم وإعادة النسيج السكاني المكي والحياة الاجتماعية بعد انتهاء المشاريع التطويرية والعمل من الآن لمواكبة الاستفادة وتحقيق طموحات ولاة الأمر في تحقيق المكاسب الاقتصادية لأبناء مكة المكرمة وتحقيق الأبعاد الأمنية لتطوير أسواقها.

الحفاظ على الهوية المكّـية للأسواق

طالب د.فايز جمال -مهتم بالتاريخ المكي- بإعادة توطين التجارة حول المسجد الحرام وتخصيص المحلات التجارية في مركزية مكة المكرمة وتمكين السكان المحليين وإحياء الأسواق المتخصصة ومكافحة التستر والفقر وتحقيق التعاون بين جميع المعنيين بتحقيق مفاهيم التنمية المستدامة وهي إمارة منطقة مكة المكرمة وأمانة العاصمة المقدسة ووزارتي التجارة والاستثمار والعمل والتنمية الاجتماعية والغرفة التجارية الصناعية بمكة المكرمة.

وأكد د.جمال أن إعادة الهوية المكية لأسواق مكة المكرمة يعتبر مشروع أمني واقتصادي واجتماعي وثقافي يحقق تطلعات ولاة الأمر والمسؤولين في توطين الوظائف وتوفير الروحانية ومواجهة هيمنة العمالة الوافدة.

وأكد د.جمال على أهميه الاعتناء بالبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية لاستدامة التنمية ومخرجاتها حتى لا تتحول مخرجات مشاريع التوسعة والتطوير الكبرى إلى مصدر للمشاكل الاجتماعية والديموغرافية التي تستنزف الموارد الاقتصادية لمكة المكرمة ولعدم وجود مبادرة تختص بتطوير الكوادر البشرية لمقابلة مخرجات مشاريع التطوير والتوسعة.