الحمامات التركية في مكة المكرمة

عرفت مكة المكرمة الحمامات قديما كما عرفتها حواضر البلاد العربية في العراق والشام ومصر، وفي عصور سبقت الحمامات العربية في الأندلس، غير أنه لم يصلنا من نبأ تلك الحمامات سوى النزر اليسير في بعض مدونات التاريخ المكي وكتب الرحلات.

تعود صناعة الحمامات في العالم إلى أزمان بعيدة، وتعد العاصمة المجرية بودابست من أقدم حواضر أوروبا عناية بالحمامات الساخنة، ولذا يقال إن الرومان لم يعتادوها إلا حينما وطئت أقدامهم تخوم بودابست.

والدولة العثمانية بدورها اتصلت خلال فتوحاتها في أوروبا بالحضارة الأوروبية وعملت على استنساخ بعض مظاهر حضارتها وتعميمها على بعض الحواضر العربية التي كانت تحت ولايتها على الرغم من أن البلاد العربية عرفت الحمامات منذ العهد الأموي، ثم ازدهرت في العهدين الفاطمي والمملوكي، فوجد المسلمون في تلك الحمامات ما يتفق وعناية الإسلام بالنظافة الشخصية إلى جانب، كونها أندية اجتماعية تضم أفراد المجتمع الواحد يتبادلون فيها أطراف الحديث.

ومما وصلنا من تاريخ مكة الحديث وجود حمامين مشهورين: حمام القشاشية وحمام باب العمرة، يذكر الفاسي أن أحمد بن عبدالملك بن مطرف الكنجري (من أعيان القرن السادس) كان صاحب الحمام الذي بأجياد وأنه أوقفه على رباطه المعروف بالمروة.


ثم يستدرك المؤرخ المكي الصباغ أنه لم يكن في زمانه سوى حمامين، حمام باب العمرة الذي بناه محمد باشا (المعروف بصقوللو محمد باشا، الصدر الأعظم في زمان سليمان القانوني) صاحب المدرسة التي عند باب الزيادة وأنه بنى كل ذلك نزولا عند رغبة السلطان كما جاء في منائح الكرم عند السنجاري، وحمام القشاشية المشهور الواقع بالشارع العام.

في دراسة للدكتور محمد حرب نشرت في مجلة الدارة أشار فيها إلى جهود المعمار سنان في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومنها بناء الحمام العثماني في القشاشية، وأشار له بحمام السلطان سليمان، غير أنه كان معروفا عند أهل مكة بحمام النبي أو حمام القشاشية، وحمام باب العمرة في زمان السلطان سليمان القانوني، ولكنه من غير المؤكد من كان القائم الحقيقي بالأعمال الإنشائية، محمد باشا كما أشار التقي الفاسي أو المعمار سنان باشا.

وينوه الدكتور حرب إلى لوحة تأسيسية كانت منصوبة على واجهة حمام القشاشية مؤرخة في 970هـ، مما يعني أن البناء قد تم قبل العمارة الكبرى للمسجد الحرام التي قام بها السلطان سليم الثاني وأتمها السلطان مراد الثالث والتي ابتدأت في 979هـ، علما بأن حمام القشاشية قد رمم على أيدي المهندسين التركيين الأخوين بولند ونهال ألوانكين في 1984م.

وصفة هذين الحمامين كما جاء عند الكردي أنهما يحتويان غرفا عدة وأحواضا مزودة بالمياه الساخنة والباردة وبأرضية مفروشة بالمرمر الرخام.
ويؤكد الكردي هنا أنه لم يكن في مكة حينها سوى هذين الحمامين: القشاشية وباب العمرة.

وفي أحد كتب الرحلات النادرة وضعته أميرة هندية تسمى نواب سيكاندر، أميرة بوبال (Nawab Sikander, Begum of Bhopal)، في 1280هـ/‏‏ 1864م، أشارت الأميرة الهندية إلى «حمامات عظيمة» في مكة وأن تلك المخصصة للنساء كانت منعزلة عن الرجال.

ولعله المصدر التاريخي الوحيد الذي يشير إلى أن الحمامات التركية لم تكن حكرا على الرجال، بل كانت تشمل النساء كذلك.

ومن غريب الأخبار ما ذكره مؤرخ القرن الثالث الهجري، أبوإسحاق الفاكهي المكي إذ أحصى 16 حماما في حاضرة مكة وحدها، ومن جملة تلك الحمامات ثلاثة بأجياد: حمام عند دار شركاء، وحمام عند دار دانق، وحمام عند السواقين.

ولعله من الصعب الجزم أن تلك الحمامات التي ذكرها الفاكهي كانت على نحو الحمامات التركية والرومية التي نعرفها، على أنه لا يستحيل وجودها في ذلك الزمان.

ويجدر القول إلى أن الحمامين قد استحالا إلى حوانيت أو مستودعات مؤجرة للأهالي، فقد شغل بنك الراجحي حمام القشاشية لبعض الوقت، أما حمام باب العمرة فقد كانت البلدية تعرضه للإيجار على صفحات الصحف المحلية.


وبحسب مذكرات أحمد الكاظمي، فقد أزيل حمام باب العمرة في صفر 1375هـ بقرار من بلدية مكة توسعة للشارع المقابل له.

المصدر : صحيفة مكة 1437/10/28هـ | بقلم د.سلطان الطس .