المجري جرمانوس وقصة حب مكية

لا يأتي ذكر المستشرقين وإسهامهم في دراسات المشرق العربي أو أدب الرحلات الحجازية إلا وقفزت أسماء تتكرر في كل مرة، أمثال سنوك هورخرونيه، وبوركهارت، وريتشارد بيرتون. فمنهم من أسلم ووضع بصمة واضحة في الإسلاميات واللغة والاجتماع، ومنهم من تخفى كاذبا ليحقق هدفا استعماريا وجاسوسيا مع ضعف الإسهام العلمي.

على أن العالم المستشرق الكبير يوليوس جرمانوس، الذي يحب أن يسمى «حاجي عبدالكريم جرمانوس» كان من أولئك الأعلام المتبحرين الذين تجاوزتهم أقلام المترجمين وسقطوا من تصانيف أدب الرحلات، على علو مكانتهم العلمية وثقل إرثهم في علوم شتى كالتاريخ واللسانيات وتاريخ اللغات والأدب العربي والتركي والرحلات.

ولد عبدالكريم جرمانوس ذو الأصول اليهودية في العاصمة المجرية بودابست في السادس من نوفمبر 1884م.

تخصص في دراساته الأكاديمية في اللغة والآداب التركية والعربية. وفي فصول متأخرة من حياته ارتحل إلى مصر ودرس في الأزهر واتصلت أسبابه بأسباب كثير من رجال الدين والشعر والأدب، أمثال محمود تيمور، طه حسين، محمد حسين هيكل، عباس محمود العقاد.

اعتنق العالم المجري الإسلام في الهند بعد دراسات مستفيضة واتصال روحي عميق بالثقافة الإسلامية من خلال عمله الأكاديمي ورحلاته إلى البوسنة أولا ثم تركيا.

من القاهرة، كما كان دأب كثير من الرحالة والمستشرقين، انطلق جرمانوس في رحلته الحجازية التي غيرت مسار حياته سنة 1934م.

غير أن صلة الحاج عبدالكريم بمكة المكرمة بدأت تحديدا منذ سن السادسة عشرة، وكان حبا من النظرة الأولى.

يروي جرمانوس شعوره حينما تلقف أول صورة لمكة في مقال له بمجلة القافلة سنة 1971 م في حج 1390هـ «وقعت عيني على صورة لمنازل ذات سطوح مستوية ارتفعت بينها قباب مستديرة تحت سماء أضيئت بضوء هلال.

صورة التقطها جرمانوس للمسجد الحرام أثناء حجته الثالثة

وفوق أحد السطوح امتدت خيالات على شكل خطوط عجيبة لأناس وقفوا في صفوف منتظمة وهم يرتدون الملابس الفخمة الجميلة.

ولقد أثرت علي هذه الصورة كثيرا. كان المنظر شرقي الطابع، شبيها إلى حد كبير بالأمكنة التي يتحدث عنها أحد الرواة في حكاياته الغريبة عن الشرق العربي.

كان المنظر قريبا إلى قلبي بدرجة أنني غدوت كشاب مجري في السادسة عشرة من عمري وكأني أجلس مع باقي المستمعين العرب فوق الديوان الناعم الوثير نستمع إلى المغني بصوته الحنون المخزن.. فولد في نفسي حبا لا يحتمل لمعرفة طبيعة شعاع هذا النور الذي يجادل الظلام في الصورة».

ومن هناك ارتبط جرمانوس بالعالم العربي فقضى عمره دارسا ومدرسا وباحثا في الشأن الأدبي العربي والإسلامي، متجولا في أنحاء العالم الإسلامي ومنافحا عن ثقافته وتاريخه.

وإذا بهذا المحب، وبعد مرور أربعة وثلاثين عاما على أول تعلقه بأم القرى، يصف مشاعره إذ حطت رحاله في البلد الحرام حاجا للمرة الأولى «ثم تابعنا سيرنا، ووضحت لي معالم مكة، فأخذ حنيني يتوثب، واستطلاعي يشتد، وأخيرا دخلنا مكة.

أجل، دخلنا أول بيت وضع للناس، تلك هي مكة التي يتجه إليها ثلاثمائة مليون من المسلمين خمس مرات كل يوم، وقد كنت مقرورا أحس ببرد شديد، ولكن فرط التذكر وحضور المعاني الدينية في نفسي، كل ذلك أكسبني حرارة زالت بها البرودة عني وتحولت إلى حالة جديدة، إذ نبع من أعماقي نبع عرفان الجميل لله الذي هداني إلى هذا البلد وما كنت مهتديا له لولا لطفه بي وإرادته الخير لي».

لم يفوت جرمانوس إبان إقامته في مكة توثيق معالمها وعمارة المسجد الحرام بكاميرا جيب مزدوجة. ثم ترك انطباعاته في كتابه «الله أكبر» الذي نشره في 1936م بالمجرية أول مرة، ثم ترجم إلى الألمانية والإيطالية. وينقل عنه أنه قدم وصفا دقيقا لمعالم المسجد الحرام من نقوش وكتابات، كما قام بدراسة الحجر الأسود بصفته دارسا للجيولوجيا في مرحلة متقدمة من حياته.

على أن هذا الكتاب قد غدا في غاية الندرة، والسبب دون شك إهمال ترجمته من قبل المؤسسات العلمية المختصة على ما حوى من مدونات الرحلة الحجية لعالم لغوي وإسلامي كبير.

توفي الحاج عبدالكريم جرمانوس سنة 1979م بمسقط رأسه بودابست، وكم نحن اليوم بحاجة لترجمة وبحث إرثه العلمي الضخم، وخاصة تلك المصنفات التي عنيت بتاريخنا ولغتنا وثقافتنا.

 

المصدر : صحيفة مكة 1437/11/5هـ