مكتبة المؤرخ الدهلوي .. مخزن للمخطوطات ومرجعية للباحثين
هو عبدالستار بن عبدالوهاب الدهلوي نسبة إلى دهلي عاصمة الهند مكي المولد والنشأة والوفاة حنفي المذهب هندي الأصل، يعرف بأبي الفيض وأبي الأسعاد. قدم والده عبدالوهاب الدهلوي إلى مكة المكرمة سنة 1249هـ للحج ثم استقر بها ممتهنا التجارة وبيع الكتب وبقي بها إلى أن توفي بها سنة 1313هـ ودفن في المعلاة.
ولد عبدالستار في أواخر ذي القعدة سنة 1286هـ بدار والده في محلة الشامية بمكة المكرمة، ناشئا نشأة صالحة علمية حاله حال أغلب أقرانه في ذلك الزمن، فقد بدأ بقراءة القرآن الكريم في سن أربع سنوات حتى حفظه عن ظهر قلب حينما بلغ ثماني سنوات وقد صلى بالناس التراويح على عادة المكيين في ذلك الزمن بدكة باب الزيادة سنة 1297هـ، كما أنه التحق بالمدرسة الصولتية في مكة المكرمة وأخذ عن معلميها وأستاذتها وقد أجيز في التدريس والتحديث والقراءة في المسجد الحرام سنة 1307هـ، وعينه شيخه عباس صديق مفتى مكة المكرمة في زمن الشريف عون الرفيق أمينا للفتوى غير أنه لم يلبث بها طويلا حتى تركها، فعين مصححا للمطبعة الميرية في مكة المكرمة ثم اشتغل بالتدريس في المسجد الحرام.
طاف الدهلوي عددا من المدن طلبا للعلم فقد زار المدينة المنورة في أكثر من مرة، كما أنه جاور بها مرتين وأخذ عن مشايخها والواردين إليها، كما زار الطائف وأخذ عن بعض مشايخها، إلا إن رحلته لمصر تعد الأشهر فقد لبث في مصر ما يقارب الأربع سنوات منذ سنة 1333هـ إلى سنة 1337هـ آخذا عن مشايخها. وقد أتيح له أثناء وجوده في مصر الاطلاع على كتب دار الكتب المصرية والجامع الأزهر ما جعله يقوم بنسخ عدد كبير من الكتب والعودة بها إلى مكة المكرمة.
لم يترك الدهلوي علما أو فنا إلا أخذ منه فقد درس الحديث وعلومه، والفقه، والتوحيد، وكذلك التفسير، واللغة، والأدب وغيرها. ويذكر أن مشايخه يتجاوز عددهم 200 شيخ من مختلف البلدان فمنهم المكي والمدني والنجدي والمصري والشامي والمغربي والهندي واليمني وغيرهم على اختلاف مذاهبهم. ومن أشهر مشايخه أحمد بن زيني دحلان، وأبو شعيب الدكالي، وأحمد رضا خان البريلوي، وأحمد بن عيسى النجدي، وأحمد الحضراوي، وخلف بن إبراهيم الحنبلي، وعبدالله القدومي النابلسي، وعبدالجليل برادة، ومحمد بن بخيت المطيعي، ومحمد عبدالحي الكتاني.
هذا وقد آخذ عن الدهلوي جملة من المشايخ فيما بعد ومنهم أحمد بن محمد شاكر، وسليمان الصنيع، وعبدالله بن حسن آل الشيخ، وعبدالله بن بليهد، وعبدالله بن عبدالعزيز العنقري، ومحمد راغب الطباخ، ومحمد ياسين الفاداني. وعلاوة على تدريسه بالحرم المكي كان أيضا يقيم بعض دروسه في رباط الداودية وكانت دروسه في أغلبها في الحديث والتفسير، وقد اعتمد مدرسا بالحرم المكي في العهد السعودي فقد ورد اسمه من ضمن مدرسي المسجد الحرام في جريدة أم القرى لسنة 1345هـ وكذلك سنة 1349هـ واستمر كذلك إلى أن توفي في 11 / رجب / 1355هـ سالكا منهج السلف الصالح متبعا لطريقة أهل السنة والجماعة. وقد أشار في وصيته إلى أن يكون خروجه مخرج أمثاله من أموات المسلمين خروجا موافقا لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولعل من أبرز الآثار التي تركها الدهلوي رحمه الله مكتبته الخاصة وهي المكتبة الفيضية التي آلت بعد وفاته إلى مكتبة الحرم المكي، وللحق فالمكتبة الفيضية تعد ركنا أساسيا لمكتبة الحرم المكي وميزة من مميزاتها وبخاصة في قسم المخطوطات. ويذكر الدهلوي أنه بدأ بجمع الكتب منذ بداية طلبه العلم حتى أنشأ مكتبته الخاصة في خلوة من رباط عمه غلام نبي في الشامية ثم أوقفها سنة 1313هـ لطلبة العلم من مكة المكرمة وتحتوي مكتبته على أكثر فروع العلم كالتفسير والحديث ومصطلح الحديث والتوحيد والتصوف والفقه وغيرها من آداب وفنون، وأشار عبدالله المعلمي أمين مكتبة الحرم المكي أن المكتبة الفيضية تحتوي على 1850 كتابا ما بين مخطوط ومطبوع وإن كان أغلبها مخطوطا بخط يده رحمه الله.
وقد أثنى عدد من المؤرخين على المكتبة الفيضية بل وجعلها مرجعا لأعمالهم كعمر عبدالجبار في كتابه سير وتراجم بعض علمائنا في القرن الـ 14 حيث جعل المكتبة الفيضية مصدرا أساسا له يتردد إليها وينهل منها. وما يميز المكتبة الفيضية هي تلك المنسوخات الموجودة فيها التي قام الدهلوي، رحمه الله، بنسخها فقد قام بنسخ عديد من الكتب تتجاوز الـ 130 كتابا من مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف والقاهرة والإسكندرية.
ولم يقتصر نسخه على فن معين بل نسخ كتب الحديث، ومصطلح الحديث، والتاريخ، والتراجم، والسيرة، والمنطق، وغيرها ومن أشهر منسوخاته ثبت الأثبات لأبي بكر خوقير ومسانيد ابن حجر الهيثمي وإتحاف فضلاء الزمن بتاريخ ولاية بني الحسن للطبري، والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين للفاسي، وكذلك شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، وخبايا الزوايا لحسن العجيمي، والمقصد الأرشد في تراجم أصحاب الامام أحمد للمقدسي، وبداية الهداية للغزالي.
ولم يقتصر نسخه على الكتب فقط بل نسخ عددا من الإجازات منها إجازة من سعد بن حمد بن عتيق النجدي لمحمد بن عبداللطيف آل الشيخ، ويمكن القول بأن منسوخات الدهلوي هي بيت القصيد للمكتبة الفيضية على الرغم من وجود عديد من المطبوعات البولاقية والهندية والتونسية والشامية والمكية في المكتبة، إلا أن المنسوخات بحسب رأيي هي حجر الزاوية للمكتبة، والمطالع لمنسوخات الدهلوي لا يجد نفسه أمام كتاب منسوخ وحسب بل إنه يضيف في هوامشه من علمه ما يزيل اللبس ويكمل المعلومة كما كان كثيرا ما يستدرك ويصحح في الهوامش ليقف القاري أمام منسوخ محقق نسبيا، علاوة على وضوح الخط ومراعاة العناوين الجانبية والمواضع المهمة وذلك بكتابتها في الهامش وكتابتها في المتن بمداد مغاير غالبا ما يكون بالأحمر للتنبيه.
ولم يقتصر الدهلوي على ذلك فقط بل صنف وألف كتبا في غاية الأهمية وإن كانت جميعها ما زالت مخطوطة إلى الآن باستثناء كتابه فيض الملك الوهاب المتعالي بأنباء أوائل القرن الثالث عشر والتوالي الذي قام بتحقيقه دكتور عبدالملك بن عبدالله بن دهيش، وكتاب حافل جمع في مؤلفه تراجم أعيان القرن الثالث عشر وما بعده. ولم يقتصر في تراجمه على الحجازيين فقط بل ترجم لأعيان نجد ومصر والشام والمغرب والهند من أمراء وعلماء وأدباء وغيرهم شملت ما يقارب 1800 ترجمة.
ومن مؤلفاته المخطوطة كتاب مائدة الفضل والكرم الجامعة لتراجم أهل الحرم، جمع فيه الأسر المكية وبين فيه أصولها، وترجم لأعيانها، وغير ذلك من المؤلفات في الحديث ومصطلح الحديث والفقه والعقيدة والتاريخ والتراجم والأنساب كنور الأمة بتخريج كشف الغمة المسمى أيضا السلسال الرحيق الأصفى في ستة مجلدات، وسرد النقول في تراجم الفحول في مجلدين وكذلك رسالة في أنواع التوسل، ورسالة في أفعال العباد، وغيرها من المؤلفات التي تجاوزت 20 مؤلفا.
المصدر : الاقتصادية 1438/1/13هـ | بقلم : عبدالله الرقيب
0 تعليقات