محمد حسن فقي.. شاعرٌ إنساني وصوت مختلف

لوْ نَسَأَ الله تبارك وتعالى في عمر الشَّاعر السُّعوديّ محمَّد حسن فقي (ت 1425هـ=2004م) – لسرَّه أن اخْتُصَّ بأربع رسائل جامعيَّة عالية، ولرأى في ذلك تعويضًا عادلًا عنْ سكوت النَّقد الأدبيّ عنْ شِعره، ومجافاته له، ولطالما شكا هذا الشَّاعرُ الحكيمُ ظلمَ النُّقَّاد، وطوى صدره على ألم ممضٍّ أنْ لم يُقَدِّرْ أحد منهم نبوغه وعبقريَّته، حتى إذا أَسَنَّ وبلغ مِنَ العمر خريفه جاءتِ الجائزة الَّتي أنشأها أحمد زكي يمانيّ باسْمه، وحملت اسم «الشَّاعر المكِّيّ»، لتُلْبِسَ الشَّاعر الحكيم أنواط المجد، وتُذْكِر القرَّاء والنُّقَّاد العرب بشاعر راض مِنَ الشِّعر أصعبه فلان له، ومَلَكَ قِياده، وتَهَدَّى إلى مَضَايِقه.


◗ متعدد الأوصاف
ونستطيع أنْ ندعو محمَّد حسن فقي «شاعر المعنى»، ونستطيع، كذلك، أنْ نعتدَّه «شاعر الخطيئة والتَّكفير»، وبوُسْعنا أن نَسُكَّ التَّعابير في شعره: «شاعرًا حكيمًا»، «فيلسوفًا»، «متشائمًا»، «متصوِّفًا»، لكنَّه، مهما تعدَّدتْ أوصافه، وتفنَّن الدَّارسون في تصنيفه، فأبلغ وصف له أنَّه «شاعر مقتدر»؛ أُوتي قدرة على تذليل تلك المعاني، على اختلاف ما بينها، فصار له منها شعرٌ سائغ، نتلقَّاه فلا نحسّ فيه نُبُوًّا ولا تجافيًا، أدَّاه إلينا في أمتن لغة وأسدّ تركيب، فتارةً يوغل في مُشابهة الشِّعْر القديم حتَّى يصحّ أنْ نرفع قصيدته إلى شاعر مِنَ العصر الإسلاميّ أو العبَّاسيّ، وتارةً يُسْمح في مفرداته ولغته، ويكون أدنى إلى ما يعالجه الشُّعراء الرُّومنطيقيُّون في ألفاظهم ومعانيهم، لكنَّ لغته، في كلتا حالتيه، ترتفع حتَّى يبلغ بها الذُّرَى.

◗ فلسفة وحكمة
نَظَمَ محمَّد حسن فقي القصائد الطِّوال، وبثَّ في أوصالها فلسفته وحكمته وألمه وتشاؤمه وإحباطه، ونَظَمَ «الرُّباعيَّات»، وكانتْ مَجْلًى للشَّاعر الحكيم النَّقَّاد، وسواء قرأتَ له مطوَّلة أوْ قرأتَ له رباعيَّة، فلا بُدَّ أنَّك ستقف في هذه وتلك على شاعر جرَّب الحياة وخَبَرَها، ولمّا كان له ذلك، صاغ تلك التَّجربة شِعْرًا، هو، إنْ تأمَّلتَ ظاهره، هادئا رزينا، لكنَّك لا تكاد تخرج منه حتَّى تلوح لك في أثنائه معالم «ثورة» على الظُّلم والطُّغيان وما استتبَّ للنَّاس مِنْ ألوان الحياة وما نُشِّئُوا عليه، وجِمَاع ما يغور في عقلك ووجدانك مِنْ محمَّد حسن فقي، أنَّه شاعر قاده الشِّعْر والفلسفة معًا إلى معنى «التَّسامح»، فكان، بذلك، شاعرًا «إنسانيًّا»، سخَّر «موهبته» للكتابة عن الإنسان، مهما كان دينه أوْ عِرْقه أوْ لونه أوْ ثقافته
تمنَّيْتُ لوْ أنَّني مِشْعَلٌ
أُنيرُ السَّبيلَ لأرضِ الهُدَى
ولوْ أنَّني كنتُ فيه الوَقودَ
فَحَسْبِي مِنَ الدَّهر أنْ أُسْعِدا
وحَسْبِيَ أن يَسْعَدَ الآخرونَ
وإنْ جاوزوا في الجُحُودِ المَدَى

◗ في مصاف الكبار
ومحمَّد حسن فقي مِنْ شعراء السُّعُوديَّة الكبار، وُلِدَ في مكَّة المكرَّمة عام 1332هـ=1914م، ولا نقرأ في نشأته ما يُفْرده عنْ أقرانه مِنْ أدباء الرَّعيل، نشأ في الحَارَة، كما نشأ غيره، واختلف إلى مدرسة الفَلَاح، كما اختلف إليها مئات مِنَ المكِّيِّين، ولا نكاد نَظْهر على شيء مختلف في ما أُتيح لنا مِنْ مصادر نشأته، وأنا أسوق ذلك مؤمِّلًا أن يتكشَّف لي مِنْ سِيرته الأولى ما أعتدُّه مصدرًا مِنْ مصادر ثقافته: كيف أُتيح له ذلك القَدْر الواسع مِنَ العِلْم باللغة وفِقْهها؟ وكيف اتَّصل بالفلسفة والحكمة حتى عُدَّ شاعرًا «حكيمًا فيلسوفًا»؟ وما تلك النَّفس الَّتي بَرَأَها الله، فسخَّرَ شِعْره للإنسان، مِنْ حيث هو إنسان؟ الحقّ أنَّ معرفة تلك النَّشأة، والوقوف على مصادر تلك الثَّقافة، لا بُدَّ أن يَجْلُوَا لنا تلك النَّفْس الَّتي اتَّقت التَّعصُّب وأعرضتْ عنه، فكان شِعْره مُشْبِهًا كبار الشُّعراء الإنسانيِّين في الأدب العربيّ، كأبي العلاء المعرِّيّ، وابن عربيّ المتصوِّف، فاتَّسع قلبه لكلّ النَّاس، وما ضاق بأحد، وكان صوته الشِّعريّ مختلفًا عنْ سواه مِنَ الشُّعراء السُّعُوديِّين:
تمنَّيْتُ لوْ أنَّني شاعرٌ
يَهُزُّ القلوبَ إذا ما شَدَا
يُذيبُ المشاعرَ في لحنِهِ
ويَجْلُو العقولَ إذا أرشدا
إذا أَجْدَبَ النَّاسُ كان الغَمَامَ
وإنْ أَخْصَبَ النَّاسُ كان الجَدَا
تمنَّيْتُ لوْ أنَّني مُصْلِحٌ
يؤاخي الكنيسةَ والمَسْجِدا
شَريعتُهُ الحُبُّ بينَ الأنامِ
ولوْ هَدَمَ البُغْضُ ما شَيَّدا
يُجَدِّدُ مِنْ عَزْمِهِ للنِّضالِ
فللَّهِ والخَيْرِ ما جَدَّدا

المصدر : القبس الالكتروني | بقلم أ.حسين بافقيه