الملكة عفت.. أيقونة «تعليم البنات»
توالى على عرش المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها بهذا الاسم في سبتمبر 1932 سبعة ملوك ابتداء من الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود طيب الله ثراه، مرورا بالملوك؛ سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، وعبدالله (رحمهم الله جميعا)، وانتهاء بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز. لكن في عهد الملك الشهيد فيصل بن عبدالعزيز وحده ظهرت من لـقبت لأول مرة بالملكة.
هذه الملكة، التي تحل قريبا ذكرى وفاتها، هي «عفت بنت محمد بن عبدالله بن ثنيان بن إبراهيم الثنيان» التي تزوجها الفيصل عندما كان نائبا للملك على الحجاز ووزيرا للخارجية في عام 1932،
فأنجبت للملك الأمراء؛ محمد وسعود وعبدالرحمن وبندر وتركي، والأميرات سارة ولطيفة ولولوة وهيفاء.
ويعود نسب الملكة عفت إلى آل سعود من فرع الأمير ثنيان بن سعود بن محمد بن مقرن أخو الإمام محمد بن سعود (مؤسس الدولة السعودية الأولى) التي حاربها إبراهيم باشا بن محمد علي باشا والي العثمانيين على مصر في عام 1818. وبعد هذه الواقعة أرسل محمد علي باشا جدها عبدالله بن ثنيان وعائلته إلى إسطنبول حيث استضافهم السلطان العثماني عنده. وفي إسطنبول عاش الجد عبدالله تحت الإقامة الجبرية في «دولمة بهجه»، وتزوج أولا من سيدة شركسية اسمها «روح تاز هانم» فأنجبت له محمد وأحمد وسليمان، ثم تزوج للمرة الثانية من السيدة التركية «آسيا هانم» التي أنجبت له عفت في عام 1915 ثم شقيقها زكي.
ولذا فإن الملكة عفت ولدت في تركيا ودرست في مدارسها الأولية والثانوية الأكثر تطورا وقتذاك بالأبجدية العربية، ثم بالأبجدية اللاتينية التي فرضها أتاتورك. كما شهدت أحداث تلك الحقبة العاصفة مثل سقوط الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك، وصراع القوى الأجنبية على تقسيم إرث الإمبراطورية العثمانية، الأمر الذي توسعت معه مداركها وإلمامها بالأحداث والصراعات السياسية الإقليمية والدولية، إضافة إلى تشربها أفكار المجتمعات الحديثة وعلى رأسها ضرورة تأهيل المرأة وتعليمها لأداء دور في مجتمعها إلى جانب الرجل. وهو ما سنتبين تجلياته وأثره على حياتها اللاحقة في ما بعد.
في أعقاب وفاة والدها في إسطنبول، واجهتها الكثير من المشاكل المعيشية غير المتوقعة في ظل المبلغ المحدود الذي كانت تصرفه لها الحكومة التركية. تعالوا نقرأ بشيء من التفصيل عن تلك الظروف التي عانتها عفت وأهلها في تركيا وقتذاك، اعتمادا على ما قالته ابنتها الأميرة لولوة الفيصل في حديث لها مع رئيسة تحرير مجلة «عربيات» الدولية (عدد مارس 2000).
قالت الأميرة لولوة (بتصرف): «كانت حياة والدتي في تركيا صعبة للغاية، فعندما تُوفي والدها، خلف وراءه زوجته (آسيا هانم)، وابنته (عفت)، وابنه الصغير (زكي)، وشقيقته المشلولة (جوهران)؛ ليتقاسموا من بعده الفقر تحت سقف المنزل الصغير الذي جمعهم، ويواجهوا الحياة معتمدين على معاش بسيط. كان عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم، فبدأت جدتي تبحث عن عمل لتوفير الحياة الكريمة لأفراد الأسرة، وكانت تجيد الحياكة، فاستنجدت بتلك الحرفة لتحيك الملابس لجيرانها ومعارفها، غير أن العائد من عملها مجتمعاً مع معاش الزوج الفقيد لم يكن قابلاً للقسمة على أربعة أشخاص، ليغطي أساسيات الحياة من مأكل ومشرب وملبس وعلاج، إضافة إلى التعليم، فاضطرت جدتي أنْ تتزوج من رجل آخر، وتسافر معه لمقر إقامته مصطحبة معها ابنها الصغير (زكي). ولقد أنجبت من زواجها الثاني كلاً من مظفر أدهم وكمال أدهم (تولى رئاسة المخابرات السعودية العامة في عهد الملك فيصل)». وهكذا «ظلت عفت مع عمتها جوهران، إحداهما ترعى الأخرى، وكلتاهما تعتمدان على معاش والدها البسيط.. ولم تكن مصاعب الحياة التي مرت على عفت بعيدة عن الأجواء العامة والحروب التي ألقت بظلالها على تركيا والعالم الإسلامي بشكل عام، فشعرت مبكراً بمرارة فقدان مَن تحب، وبالاستقرار الذي تدفعه الشعوب من حياتها ثمناً للحرب، كما لاحت أمامها حقيقة أن على النساء أنْ يكن مؤهلات للاعتماد على أنفسهن، وشاهدتْ في والدتها نموذجاً لذلك عندما اضطرتها ظروفها القاسية أن تستنجد بحرفة تتقنها لتعول أسرتها بدلاً من أن تستجدي العون من الآخرين».
نتيجة لهذه الظروف الصعبة قررت عفت في عام 1931 مع عمتها جوهران، أن تكتبا إلى الملك عبدالعزيز كي يأذن لهما بأداء فريضة الحج على أن يعودا بعدها إلى تركيا. فبعث الملك بدعوة لهما، بل وأوعز إلى ابنه الثاني ونائبه على الحجاز فيصل بن عبدالعزيز أن يحسن استقبالهما ووفادتهما، فحدث اللقاء الأول بين الفيصل وعفت الذي توج بزواجهما بعد وقت.
دعونا نقرأ ما قاله ابنها الأمير تركي الفيصل عن ظروف الدعوة وتلبيتها طبقا لما ورد في المصدر السابق: «كان الملك عبدالعزيز يعرف عم والدتي (أحمد الثنيان) الذي فرَّ من تركيا، وعاد إلى المملكة، وأصبح مستشاراً للملك، كما أنه قد رافق والدي في رحلته الأولى لإنجلترا عام 1919 لأنه يجيد اللغات». ويضيف قائلا: وعندما وصلت عفت وعمتها جوهران إلى المملكة، لم يكن الفيصل في البلاد، ولكنه التقى بها بعد عودته. وعن ذلك اللقاء الأول قالت عفت بنفسها طبقا لما جاء في كتاب «عفت الثنيان.. تاريخ وإنجاز» لسميرة إسلام، وكذلك في كتاب «دار الحنان.. سيرة الأميرة عفت الثنيان»: «التقيتُ بالملك فيصل بحكم القرابة التي بيننا، وشعر كلانا بالانسجام مع الآخر، جذبتني شخصيته، وظللنا لفترة نتحدث سويا من خلال ترجمان لأنني عشت في تركيا كل عمري، ولكن شيئا فشيئا تعلمتُ اللغة العربية». وفي مكان آخر تحدثت عفت عن اللقاء بتفصيل أكثر فقالت (بتصرف): «كان هذا اليوم صعبا جدا بالنسبة لي، خصوصا أني لا أعلم ما هو مستقبل القرار، كنت لا أجيد التحدث بالعربية، ولا أعرف كيف أتعايش مع وضع جديد لا أعلم عنه شيئا من قبل، أتذكر سألني الأمير فيصل إنْ كانت رحلتنا من تركيا الى السعودية متعبة، فلم أفهمه، فعاد وسألني مرة أخرى وأيضا لم أفهمه. هنا استوعب الأمير بأني لا أجيد اللغة العربية، طلبتُ منه وقتها أن أتعلم اللغة، وفعلا هذا ما حدث فتعلمت اللغه العربية واللهجة السعودية في فترة قصيرة جدا».
امرأة استثنائية تخطت تعقيدات «مناوئي التعليم»
قررت عفت أن تكون امرأة استثنائية في بلدها، فاتخذت مواقف تصب كلها في خدمة مجتمعها وبنات جنسها، وحل مشاكلهن في مجلس مفتوح، وتقديم العون للمحتاجات، ونقل همومهن ومشاكلهن إلى زوجها الأمير ثم الملك في ما بعد. ومن حسن حظها أنّ الفيصل كان رجلا طموحا وزوجا مثاليا يتفهم أحلام زوجته في بناء مجتمع جديد يحمل راية العلم والمعرفة، فساعدها على تحقيق ما تريد لجهة تغيير واقع النساء السعوديات ونشر التعليم في صفوفهن.
وعن هذا تخبرنا الملكة عفت أن قرار تغيير واقع المرأة السعودية من خلال السماح لها بالتعليم كان قرارا صعبا بسبب عدم انفتاح المجتمع وقتذاك. وتخبرنا في هذا السياق قائلة (بتصرف): «كنت أشعر بحزن شديد عندما أرى الفتيات الصغيرات يتزوجن في سن صغيرة أو يقمن بأعمال المنزل وغيرها من الأمور التي لا تناسب أعمارهن (...) كنت أبحث عن طريقة أحول بها حياتهن للأفضل، كنت أريد أن يكون لهن مستقبل ناجح».
فماذا فعلتْ عفت يا ترى؟ فاتحتْ زوجها في الموضوع، وهي خائفة من رفضه أو عدم تقبله الفكرة الجريئة، لكن كم كانت دهشتها عظيمة من ردة فعله، حيث «شجعني على الاستمرار طالما هدفي هو بناء مستقبل أفضل».
وهكذا قامت عفت، مدعومة بموقف زوجها لجهة السماح للمرأة السعودية بالتعليم وحقها في اختيار مسار مستقبلها، بافتتاح قسم لتعليم البنات إلى جانب قسم تعليم البنين داخل مدرسة الطائف النموذجية في عقد الأربعينات من القرن العشرين، لكن قسم البنات لم يستطع في حينه سوى استقطاب عدد محدود من الفتيات بحسب رواية الأميرة لطيفة الفيصل التي درستْ في تلك المدرسة النظامية مع إخوانها وأخواتها. وتعلق الأميرة لولوة الفيصل قائلة: «الأهالي لم يرسلوا بناتهم إلى المدرسة، ولم يشجعوا الخطوة، ووالدتي لم تكن ترغب بافتتاح مدرسة لبناتها فقط»، لكنها اضطرت اضطرارا إلى ذلك فافتتحت مدرسة لتعليم البنات داخل قصرها كانت تديرها بنفسها وتشرف على كل شؤونها، بل وراحت تشرف على كل مدرسة جديدة للبنات تفتح في بلادها ضمن مشروعها الهادف إلى نشر العلم الذي يجعل من السعودية بلدا متطورا وشعبا مثقفا.
وبطبيعة الحال واجهتها في بداية الأمر انتقادات كثيرة من الجماعات المحافظة التي وصفت دخول الفتيات للمدارس بـ«بداية المنكر والفساد المؤدي لمشاكل كثيرة» انطلاقا من مفهوم تقليدي مفاده أن «مكان المراة هو المنزل فقط». لكن عفت ردت على المحافظين بتذكيرهم بدور زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابيات الجليلات في مجتمعهن. كما واجهتها مشاكل أخرى تمثلت في صعوبة استقدام المعلمات من البلاد العربية في زمن ما قبل اكتشاف النفط لرفضهن القدوم إلى بلد لا يعرفون عنه شيئا، إضافة إلى عقبة أخرى تجسدت في صعوبة وضع المناهج الدراسية المناسبة. غير أن الملكة عفت بسياستها ودهائها وحكمتها قاومت كل الصعاب وعملت جاهدة في تحويل حلمها إلى حقيقة. فنجدها تنجح بدعم من الفيصل في عام 1955 في تأسيس مشروعها الرائد المتمثل في مدارس «دار الحنان» التي سنؤجل الحديث عنها إلى ما بعد. ويقال إن حادثة اغتيال الملك فيصل قد أثرت عليها كثيرا فشعرت بحزن شديد أثر على صحتها وجعلها تبتعد عن المشهد الاجتماعي لسنوات طويلة، كيف لا والرجل كان عضدها وسندها في طموحاتها، وقد نُقل عنها قولها عن الملك فيصل (بتصرف): «إن ما حدث للملك فيصل دليل على شجاعته وقوته، تعلمتُ منه القوة والإصرار والحب والوفاء والشجاعة والحق، وكل تلك الصفات حاولتُ جاهدة أن أغرسها في أبنائي وأبناء الشعب السعودي». أما الذي أبلغها بمقتل زوجها فهو ابنها الأمير تركي الفيصل الذي يخبرنا في مقال له بعنوان «رسالة إلى أمي» تم نشره في جريدة الشرق الأوسط (28/2/2000) أن والدته لم تبكِ، وتلقت النبأ بشجاعة قائلة فقط «خذوني إلى زوجي». وفي المقال ذاته قال الأمير تركي عن والدته: «كانت عضداً لوالدي في أحلامه وطموحاته، تجادل مَن كان يقف معارضاً لهذه الطموحات، وكان والدي (رحمه الله) يبعث لها مَن كان يرى أنه مخالف أو ليس مقتنعاً ببعض هذه الأحلام لتقنعه بها».
شغفها بـ«المعرفة» أورثته أبناءها وبناتها
رفعت عفت شعار أن «تعليم المرأة هو سلاحها» وأوصت أبناءها وبناتها بالتمسك به وبذل الجهد في سبيله، فلم يكن غريبا أن يكرسوا حياتهم لنشر العلم والاستثمار في التعليم. ونجد تجليات ذلك في افتتاح الأميرة سارة الفيصل لمدارس التربية الإسلامية في الرياض، وقيام الأمير محمد الفيصل بتأسيس مدارس المنارات الدولية في داخل السعودية وخارجها، وقيام الأميرة هيفاء الفيصل بتأسيس المدرسة الفيصلية في مدينة الخبر، وقيام أبنائها الذكور مجتمعين بافتتاح مدارس الملك فيصل في الرياض.
إلى ذلك، فإن كريماتها تناوبن على الإشراف على مدارس دار الحنان. هذه المدارس التي حرصت عفت على أن تطعمها بأحدث الأساليب التربوية والتعليمية المستقاة من تجارب الدول المتقدمة والمتفقة مع المفاهيم الإسلامية وحاجات المرأة السعودية، وذلك ضمن مفهوم «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه». وهكذا كان من الطبيعي أن تبرز هذه المدارس كمؤسسة تربوية راقية ذات أبعاد جديدة وصور متميزة تدعو إليها التعاليم الإسلامية مثل العمل الخيري والتكافل والتنافس الشريف والإتقان والإخلاص والإبداع والابتكار وتنمية الشخصية وغيرها.
من مآثر عفت الأخرى، اهتمامها بالثقافة التي يكتسبها المرء، بحسب رأيها، من القراءة والبحث في الكتب وليس من المقررات المدرسية وحدها. لذا فقد كانت القراءة هي هوايتها المفضلة، بحسب كلام ابنتها الأميرة لطيفة الفيصل، فدأبت على قراءة كل شيء وكونت مكتبة ضخمة زاخرة بأمهات الكتب في مختلف المجالات. وفوق ذلك دعمت البرامج الثقافية اللامنهجية في مدارس دار الحنان بالمحاضرات والندوات وأنشطة «أسبوع الكتاب».
ومن مآثرها أيضا إطلاقها ودعمها للجمعيات الخيرية وجمعيات الرعاية الاجتماعية قبل وقت طويل من تأسيس وزارة حكومية تعنى بهذه المسائل. حيث أسست في الرياض «نادي فتيات الجزيرة الثقافي» الذي تحول لاحقا إلى «جمعية النهضة»، وأوكلت إلى بناتها وصديقاتها وضع اللوائح الأساسية لعملها، فراحت تلك الجمعيات تنظم الندوات والمحاضرات والرحلات، وتعتني بالأسر الفقيرة، وتمحو أمية النساء وتعلمهن اللغات، وتقدم الدورات المتقدمة في تعليم لغة «برايل» للكفيفات.
انتقلت الملكة عفت إلى جوار ربها في 15 فبراير عام 2000 عن عمر ناهز الـ85 وذلك على أثر عملية جراحية لم تتحمل صحتها قوتها، فكتبت سعاد الجفالي في صحيفة «عكاظ» (11/3/2000) قائلة: «نبكيها ونفتقدها أبداً، وستظل ذكراها معنا ما دام للذكرى مكان».
المصدر: عكاظ 1438/5/7هـ | قراءة: د. عبدالله المدني ( أستاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين )
0 تعليقات