رحلة عمر أبيركرومبي إلى مكة المكرمة - 1965م

 "أبعث لكم سلامي من مدينة الإسلام المقدسة. لي الشرف الاستثنائي لأشهد وأشارك وأغطي بالصور واحدة من أكثر التجارب تأثيراً في العاطفة عرفها الإنسان؛ الحج إلى مكة وعرفات. لقد كانت تجربة شخصية لا تنسى بالنسبة لي، وهي بلا شك ذروة نجاحنا الصحافي في المملكة العربية السعودية".

توماس أبيركرومبي في رسالة بعثها إلى رئيس تحرير المجلة الجغرافية  الوطنية (National Geographic magazine) جيلبرت إم. جروسفينور  في 7 أبريل 1965م من مكة المكرمة.

الأمريكي توماس (عمر) أبيركرومبي (13 أغسطس 1930- 3 أبريل 2006) الذي يجيد، إلى جانب لغته الإنجليزية الأم، العربية والفرنسية والألمانية والإسبانية؛ يعد واحداً من أشهر كتاب ومصوري المجلة الجغرافية الوطنية العريقة التي احتفلت بميلادها الخامس والعشرين بعد المئة في 2014م، حيث اشتهر بتغطياته المميزة للشرق الأوسط، وله ما يزيد عن أربعين قصة صحافية. ولم تكن مهام أبيركرومبي الصحافية محدودة بمواضيع الجغرافيا المصورة، بل كانت تنطوي على جوانب دينية واجتماعية وإثنوغرافية. ومما لا شك فيه أن أبرز محطات حياته المهنية كانت تغطيته موسم الحج في 1965م، وله السبق كأول صحافي غربي - على اعتبار أن عبدالغفور شيخ كان طالباً حين نشر تغطيته للحج في يوليو 1953م - يحصل على تصريح بتغطية شعائر الحج وبإذن شخصي من الملك فيصل آل سعود - يرحمه الله.

لا نعرف الكثير عن ظروف تحوله إلى الإسلام في أوائل 1965م، ولكن زيارته لقرية لبنانية في قضاء زحلة تدعى قب إلياس شهدت أول علامات تحوله إلى الإيمان الجديد، حيث يصف شعوره بعد زيارته مسجد القرية بقوله: (اختلطت بالناس وانجرفت مع التيار البشري بعد خروجنا من الباب المضيء، ثم عبرنا نحو زقاق ضيق يعج بالمتسولين، فغدوت مع الناس في شعور دافئ بالانتماء، وبدا لي أنهم تقبلوني كواحد منهم).

يحدثنا أحد محرري المجلة «دون بيلت» في مقالة تأبينية لتوماس بعد وفاته بأربعة أشهر، ويشير إلى أنه وبالرغم من تكتم توماس الشديد حول المسائل الإيمانية، إلا أنه يشدد وبما لا يدع مجالًا للشك بأنه كان مسلماً حقيقياً، ولعل ما يدلل على ذلك ارتباطه بالعالم الإسلامي على مدى سنوات طوال من حياته.
«من الخرطوم، القاهرة، إسطنبول، ومن باكستان، نيجيريا، إيران، الصين، وإندونيسيا؛ مسلمون من كافة أرجاء العالم. رجال أعمال، بدو، حدادون، موظفون، باشوات وفقراء؛ كلهم سواء أمام الله، ليس عليهم إلا ملابس الإحرام البسيطة»

هكذا يصف لنا توماس أبيركرومبي انطباعه الأولي عن الحج، هذا المشهد المهيب الذي لطالما ألهب مشاعر الرحالة واستثار في نفوسهم مهابة وجلال هذه المشاعر الإيمانية.

صورة مهيبة للحشود المؤمنة في مشعر عرفات  بعدسة الراحل مؤخرًا صفوح نعماني ونشرها أبيركرومبي في تقريره - National Geographic

في أثناء حج ذلك العام الموافق 1384للهجرة النبوية كانت ملامح التوسعة السعودية الأولى قد بدأت في الظهور بشكل واضح، كما وثقتها عدسة أبيركرومبي. وهي التوسعة التي ابتدأ العمل فيها في الرابع من شهر ربيع الثاني 1375للهجرة في عهد الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود - يرحمه الله. وتظهر صور أبيركرومبي اتساع محيط المسجد الحرام لما وراء الرواق العباسي (المعروف اصطلاحاً بالرواق العثماني) الذي ظل على حاله من المساحة - عدا زيادتي دار الندوة شمالاً وباب إبراهيم غرباً- منذ حجة الخليفة المهدي العباسي في 164للهجرة. على أن التغييرات التي أجريت في المسجد الحرام في العهد السعودي قد بدأت فعلياً منذ سنوات بعد إزالة المقام الحنبلي والمالكي  والحنفي في عام 1377للهجرة، ثم الشافعي وبيت زمزم القديم في 1383للهجرة،  وقد كانت هذه المقامات مراكز للمذاهب الإسلامية الأربعة ومقراً لصلاتهم ابتداء من عام 497 للهجرة، كما يرجح المؤرخ المكي تقي الدين الفاسي، إلى جانب المقام الزيدي الذي كان مستقراً بين الركنين (الحجر الأسود والركن اليماني)، وكان قد أبطله الشريف عطيفة أمير مكة في ذلك الزمان بأمر السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون في عام 726 للهجرة، كما جاء في إتحاف الورى للنجم ابن فهد. كما أنه لا يظهر في الصور من مآذن المسجد الحرام القديمة السبعة سوى (من اليمين إلى اليسار) منارة باب المحكمة، ومنارة باب العمرة، وأخيراً منارة باب الوداع.

ها هو أبيركرومبي يؤدي مهمته في توثيق الزمان والمكان بعدسته فيعتلي المنارة المشيدة حديثاً في الجنوب الغربي من المسجد الحرام قبيل غروب الشمس في علو 300 قدم فوق باب الملك عبد العزيز، فكانت إحدى أعظم الصور الفوتوغرافية التي التقطت للمسجد الحرام، وقد اختيرت واحدة من أعظم 50 صورة في تاريخ المجلة الأمريكية العريقة.

يحكي أبيركرومبي تفاصيل دخوله المسجد الحرام للمرة الأولى فيقول: (مضينا مع مطوفنا محمد نور من خلال القسم الحديث من المسجد الحرام، وتحملت الدولة السعودية من أجل إنشائه مئة مليون دولار، وهو في طريقه للتمام، ويحيط بشكل كامل بالمسجد القديم  - الذي أنشئ في القرن الثامن للميلاد. عبرنا من خلال باب السلام وسلكنا طريقنا خلال ساحة الطواف، وبدت حينها أمامي من وسط الحشود التي توحدت باللون الأبيض الكعبة المشرفة - بيت الله - الذي بني من حجارة مكة الجرانيتية… وتلك دموع الفرح قد علت وجوه الكثيرين، ذلك أنهم أخيراً قد اقتربوا من الغاية المقدسة لحياتهم).

 يقول حينما اعتلى المنارة: (اعتليت المنارة ثم نظرت بلهفة فإذا بأعظم وأجمل تظاهرة إسلامية قد تبدت أمامي… ربع مليون مسلم اصطفوا حيث هم تجاه الكعبة، وظهر أنهم قد ألّفوا سجادة شرقية هائلة وجميلة، نسج الحجاج بملابسهم البيضاء الدوائر الآخذة في الاتساع حول الكعبة، وأضافت أعمدة الإنارة أنماطاً متناظرة على شكل وردة مضيئة… ارتفعت همسات خافتة من الحشد في جوقة صامتة  تحت سماء مكة: «الله أكبر» - في انسجام تام، كل الجباه لامست حصباء الفناء بوقار).

توماس أبيركرومبي أثناء اكتشافه لبقايا نيزك في الربع الخالي الذي قطعه برفقة زوجته لين والدليل المرافق جابر, ويعد النيزك الأكبر الذي تم اكتشافه في البلاد العربية وهو اليوم معروض في المتحف الوطني في الرياض - National Geographic
وبالطبع لم تكن رحلة أبيركرومبي للحج لتمنعه من ممارسة ترحاله بسيارته اللاند روفر قاطعاً ما مجمله 20 ألف ميل شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً. كانت المملكة حينها بتعداد 6 ملايين و630 ألف نسمة - كما أشار الكاتب. لم يفت أبيركرومبي أن يشهد بنفسه ما شهده بعض الرحالة الغربيين من الارتحال في الربع الخالي، على خطى أول من قطعها، وكان الإنجليزي برترام توماس في 1930م ثم تبعه الحاج عبد الله فيلبي في 1931م، فالرحالة البريطاني ويلفريد ثيسجر، الشهير بمبارك بن لندن في رحلتين في 1945م و 1950م. 
 
حرص توماس أبيركرومبي -يرحمه الله- على الاتصال بالشرق بعد إسلامه مراراً، والتحق بقوافل الحجيج في مكة المكرمة في أربعة مواسم. كان يرى في الشرق أكثر من مجرد مهمة صحافية أو مغامرة يتوق لها مثقف غربي، فيقول: (إن الشرق مكان مبهر لأسباب عديدة، منها أنه مبتدأ الحضارة وموئل الأنبياء). نقل توماس قصصاً صحافية عديدة للقارئ الغربي بحياد كبير، وبلا شك كان أهمها تغطيته للحج في عام 1965م التي نشرت في المجلة الجغرافية الوطنية في يناير 1966م تحت عنوان المملكة العربية السعودية: ما وراء رمال مكة، ثم عاد مرة أخرى في قصة صحافية جديدة في يوليو 1972م بعنوان السيف والموعظة، وقدم فيهما أنموذجاً للعمل الصحافي المحترف والموضوعي.
 
(القليلون فقط عرفوا العالم أكثر، أو أحبوا الناس أكثر من توماس أبيركرومبي) 
دون بيلت
 
 

 

المصدر : مدونة سلطان الطس | على الانترنت