التَّشويق إلى البيت العتيق
نقرأ في كُتُب التَّراث هذه العنوانات:
مثير العزم السَّاكن إلى أشرف الأماكن، لعبدالرَّحمن ابن الجوزيّ (ت 597هـ)، وكِتاب التَّشويق إلى حجّ البيت العتيق، للجَمَال الطَّبريّ المكِّيّ (ت 695هـ)، وإثارة التَّرغيب والتَّشويق إلى المساجد الثَّلاثة والبيت العتيق، لمحمَّد بن إسحاق الخوارزميّ المكِّيّ (ت 877هـ)، ومثير شوق الأنام إلى حجّ بيت الله الحرام، لمحمَّد بن علَّان بن عبدالملك بن علَّان الصِّدِّيقيّ المكِّيّ (توفِّي قبل سنة 1005هـ)، ويستجلب نظرنا في هذه العنوانات تلك الكلمات الَّتي لا تخرج عنْ «مثير»، و»إثارة»، و»التَّشويق»، و»شوق»، و»التَّرغيب»، وأنَّ الغاية الَّتي تسعى إليها تلك الكُتُب هي ترغيب المسلمين في الحجّ إلى البيت العتيق، وزيارة المسجد النَّبويّ الشَّريف، وقدْ يزيد آخرون المسجد الأقصى، فإذا مضينا نقرأ تلك الكُتُب ألفيناها كلَّها تكاد تنهج نهجًا واحدًا، وأنَّها جميعها تُغْري المسلمين بالحجّ إلى تلك الأمكنة الشَّريفة وزيارتها بتبيان ما أوردتْه الآثار مِنْ فضائلها، وما جاء في فضل الحجّ والعمرة، وماء زمزم، ومِنًى، وعرفات، والمزدلفة، ومثلها ما ورد في فضل المدينة المنوَّرة، وأمكنة الإجابة. ويُرَجِّح العلَّامة محمَّد الحبيب الهيلة، أنَّ هذا الضَّرب مِنَ التَّأليف لمْ يظهرْ إلَّا في القرن السَّادس الهجريّ، وأنَّ أوَّل ما صُنِّفَ فيه هو مثير الغرام السَّاكن إلى أشرف الأماكن، لأبي الفرج عبدالرَّحمن ابن الجوزيّ، ثُمَّ شاع هذا اللَّون مِنَ التَّأليف، ولا سيَّما لدى فقهاء المكِّيِّين ومؤرِّخيهم. وعند العلَّامة عبدالوهَّاب أبو سليمان أنَّ أقدم أثرٍ في فضائل مكَّة المكرَّمة والتَّرغيب في سُكناها إنَّما هو رسالة التَّابعيّ الجليل الحسن البصريّ (ت 110هـ) في فضائل مكَّة والسَّكن
فيها، خاطب صديقه عبدالرَّحيم بن أنس الرَّماديّ، وكان يسكن مكَّة، فلمَّا بلغ الحسن أنَّه أراد مغادرتها إلى اليمن، كتب إليه كِتابًا يرغِّبه في سُكْنَى مكَّة والمقام فيها، «وذكر له مِنْ فضائلها، وخصائصها ما يثني عزم صديقه... عن مغادرة مكَّة المكرَّمة».
وكان مِمَّا أغرى به الحسن البصريّ صديقه الرَّماديَّ بالمقام بالبلد الحرام أنَّ فيه أمكنة يستجاب فيها الدُّعاء، وأنشأ يُعَدِّد له تلك المواضع، وقال له «وإنَّك إذا خرجتَ مِنْ حرم الله تعالى وأمنه ذهبتْ عنك بركة هذه المَشاهد».
فَصَّلَ عبدالوهَّاب أبوسليمان الحديث عن تلك الأمكنة في كِتابه الأماكن المأثورة المتواترة في مكَّة المكرَّمة، وبسط القول في ما انطوتْ عليه مدوَّنات التَّاريخ والآثار مِنْ حديث عنها، على أنَّ غايته الَّتي أرادها إنَّما هي أنَّ استحباب الدُّعاء في تلك الأمكنة أمرٌ متواترٌ مأثور، فبدأ بكُتُب السِّيرة النَّبويَّة، فمدوَّنات التَّاريخ المكِّيّ الخاصّ، ثُمَّ ما أَلَّفه العلماء المكِّيُّون عنْ تلك الأمكنة، نثرًا وشِعْرًا، حتَّى إذا استوفى ذلك، عاد فأشبع تلك الأمكنة المستحبّ فيها الدُّعاء في المدوَّنات الفقهيَّة، واختصَّها بفصلٍ تامّ.
وسواء تَعَلَّقَ الأمر بكُتُب الفضائل، أوْ التَّشويق، أوْ أمكنة الإجابة، فإنَّها كلَّها تؤول إلى مسألة واحدةٍ لا تبرحها، وهي إغراء المسلمين بالحجّ إلى البيت العتيق، وزيارة الأمكنة الشَّريفة في مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، بلْ لعلَّه يجاوز هاتين المدينتين، متى تَشَعَّبَ الحديث إلى الأحاديث النَّبويَّة الَّتي سِيقتْ في بيان «فضائل البُلدان والنَّواحي»، والكُتُب الَّتي وُضِعَتْ فيها، وسلكتْ إلى المسلمين مسالك مختلفةً أظْهرها «التَّشويق» و»إثارة الغرام»، وكان هذا اللَّون مِنَ الكُتُب أدنَى إلى ما صنَّفه الأسلاف في كُتُب «السِّياحات»، وهو لون مِنَ التَّصنيف عُرِفَ به المتصوِّفة، يُغْرون به أهل الطَّريق بغِشْيان المزارات، وأبعد تلك الكُتُب صِيتًا كِتاب الإشارات إلى معرفة الزِّيارات لأبي الحسن الهرويّ المتوفَّى سنة 611هـ.
وبوُسْعنا أنْ نرى في كُتُب «التَّشويق إلى الحجّ» معنًى مِنْ معاني التَّصوُّف، فتلك الأمكنة هي مِمَّا يلوذ به أهل الطَّريق، قصدوها، مِنْ بعيد، واصطنعوا أسماءها رُمُوزًا لهم، وضَمَّنوها أشعارهم ومواجدهم، وعلى أنَّنا نظهر في تلك الكُتُب على أطراف مِنَ التَّاريخ، والفقه، والبلدانيَّات، فإنَّنا نقف على طُرَفٍ مِنْ كُتُب الرَّقائق والزُّهد، كما أنقل عنْ محمَّد الحبيب الهيلة، ونزلتْ كُتُب «التَّشويق» على شرط كُتُب «الرَّقائق والزُّهد»، وكان ترخُّصها في رواية الحديث الضَّعيفة مِنْ تلك المشتركات. يقول الهيلة في كِتاب ابن علَّان الصِّدِّيقيّ المكِّيّ ومؤلِّفو هذا الضَّرب مِنَ الكُتُب يغلب عليهم أنَّهم مِنْ فقهاء مكَّة المكرَّمة، دون غيرها مِنَ المُدُن والأمصار، ولا مراء في أنَّ «أهل مكَّة أدرى بشِعابها»، وهُمْ إنَّما يكتبون عنْ أمكنة يعرفونها، وليس ببعيدٍ أنَّ مِنْ تلك الأمكنة ما كان يرونه حين يصبحون، وحين يمسون، وليس راءٍ كمنْ سَمِع! لكنَّنا نلتمس في هذا اللَّون مِنَ التَّأليف غير ما انطوى عليه مِنْ مسائل في الدِّين، والتَّاريخ، والوجد والذَّوق، فالحجاز، حيث مكَّة المكرَّمة، والبيت العتيق، والحجّ، والمدينة المنوَّرة، والمسجد النَّبويّ الشَّريف = بلاد فقيرة، يعيش يرتزق سُكَّانها بالحجّ والعُمرة والزِّيارة وغِشيان آثارها ومزاراتها، فإذا أقبل الحجيج عليهم انتعشتْ أحوالهم، ورتعوا في خفض مِنَ العيش، وإذا اشتعلت الحروب والفتن، وتفشَّتِ الأوبئة، وانتشرت المجاعات، عَرَفَ الحجازيُّون أثر ذلك في أرزاقهم، حين يتقلَّص الموسم، ويضمر عدد الحجيج، وليس لسُكَّان المدينتين المقدَّستين، والنَّواحي المطيفة بهما، مِنْ أسباب الرِّزق إلَّا ما كان مِنْ أمر الحجّ والزِّيارة، فساغ أن يَجِدَّ هذا اللَّون مِنَ التَّأليف يريد به أصحابه «ترغيب» المسلمين»، و»إثارتهم»، و»تشويقهم» إلى حجّ البيت العتيق وزيارة مسجد النَّبيّ الكريم – صلَّى الله عليه وسلَّم – وكأنَّما استكنَّ في تلك الكُتُب فَزَعُ الحجازيِّين مِنْ قُعُود المسلمين عن الحجّ متى نزلتْ بهم كائنة، فشمَّروا عنْ سواعدهم، فأنشأوا الكُتُب والرَّسائل، يُعَدِّون فيها فضائل المسجدين الشَّريفين، ويشيرون عليهم بزيارة المعاهد والآثار الَّتي تُذْكرهم بسيرة النَّبيّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وصحابته الكرام – رضوان الله عليهم -، في ضرْب مِنَ الكتابة يُذْكرنا بما يأخذ به، اليومَ، القائمون على أمر «السِّياحة»، مِنْ تأليف الأدلَّة والكُتَيِّبات عنْ هذه النَّاحية أوْ تلك مِنَ العالَم، يريدون بها «تشويق» السُّيَّاح والمسافرين إلى غِشْيان تلك الأمكنة، حتَّى إذا نزلوا بها، انتعشتْ أحوال تلك البلدان، وقَوِيَ اقتصادها، ورتع أهلوها في خفض مِنَ العيش!
«لقدْ كان محمَّد بن علَّان الصِّدِّيقيّ جامعًا لنصوص كِتابه مِنَ الأحاديث والأخبار والمرويَّات، ولمْ يكنْ في نُقوله تلك إلَّا سائرًا على منهج المؤلِّفين الَّذين يتناولون مسائل موضوعات الآداب والفضائل والأذواق، الَّتي ظلَّتْ دائمًا تروي ما كان صحيحًا حسنًا ثابت الرِّواية، وما كان دون ذلك في ضعف درجة الرِّواية الحديثيَّة؛ ذلك لأنَّ كِتابه هذا ليس مِنْ كُتُب العقيدة أو الفقه والأحكام الَّتي يشترط أنْ تكون الأحاديث والمرويَّات فيها ثابتة تخضع لشروط الصِّحَّة الَّتي يفرضها المحدِّثون، بلْ إنَّ كلَّ مؤلَّفات العلماء المسلمين المتعلِّقة بالرَّقائق والفضائل وكُتُب الزُّهد والتَّرغيب والتَّرهيب وكُتُب فضائل البلدان والأزمان وكُتُب الأخبار وقصص الأنبياء = جميعها لا تخضع لتلك الشُّرُوط، بلْ نجدهم يتساهلون في إيراد المرويَّات دون تخريج ولا تحقيق، ولا يتعاملون معها بمثل ما يتعاملون به في مؤلَّفات الأحكام العقديَّة والفقهيَّة».
المصدر : صحيفة مكة 1438/11/30هـ | حسين بافقيه .
0 تعليقات