الحاجّ يحيى حقِّي
عَمِلَ يحيى حقِّي في القنصليَّة المصريَّة بجدَّة عام 1347هـ = 1929م، يومَ كان اسْم البلاد، آنئذٍ، «المملكة الحجازيَّة النَّجديَّة»، وقَصَّ علينا في حديثٍ ماتع طَرَفًا مِنْ حياته هناك في كِتابه كناسة الدُّكَّان، وانطوى كِتابه مذكِّرات عابر سبيل على مقالين روى فيهما بعض ما وقع له في الحجّ.
والحقُّ أنَّ التَّاريخ كان حفيًّا إذْ تَجَرَّدَ يحيى حقِّي لرواية ذكرياته عنْ جدَّة لَمَّا أقام بها، وأُتِيحَ لنا أنْ نُلِمَّ بشيء مِنْ أحوال هذه المدينة في تلك المُدَّة المبكِّرة مِنْ عمر المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، وعلى أنَّ التَّاريخ كان سخيًّا معه، فإنَّ خيرًا كبيرًا فاتنا إذْ لمْ يقيِّدْ العلَّامة محمود محمَّد شاكر نبأ إقامته في الحجاز، وفي جدَّة خاصَّةً، فأَحْوَجَنا ذلك إلى الظَّنّ والتَّخمين والافتراض، وحين نشر نادي المدينة المنوَّرة ديوانه الحجازيَّات الَّذي جمع أشتات قصائده الَّتي نظمها في الحقبة الحجازيَّة مِنْ عُمره، لمْ يكنِ الحجاز إلَّا مكانًا لتلك القصائد، ولا نكاد نظفر بشيء ذي بال عنْ حياته في العروس.
وفي الفُصُول الحجازيَّة الَّتي أنشأها يحيى حقِّي لا ينفكُّ صاحب قنديل أُمّ هاشم عنْ روح النُّكتة والظَّرْف، سواء أكان موضوع كِتابته ذا صِلَة بعمله في القنصليَّة المصريَّة، أوْ سماعه الموسيقا سِرًّا، أوْ حديثه عن المستشرق الإنـﮕليزيّ عبد الله فلبي، ولمْ يفارقْه ظَرْفه وفكاهته وقدْ قصد البيت العتيق حاجًّا مُلَبِّيًا.
والحقُّ أنَّنا لا نظفر بحُرْقة الرُّوح وأشواقها في مقالَيْ يحيى حقِّي عن الحجّ، كما اعتدْنا ذلك في كُتُب الرِّحلة، قديمها وحديثها، وهُيِّئَ لي أنَّ ما أقرأه لا يُداخله ذلك الرُّوح، بلْ كأنَّما غلبَ الرَّجُلَ طبعُه ونزل عليه، فكان أَمْيَل إلى التَّنكيت والتَّبكيت والضَّحِك والسَّخْر، فإذا كان غرضك ما انطوى عليه هذان المقالان مِنْ ذلك الطَّبع، فلا شكَّ أنَّك واجدٌ فيه بُغيتك وطَلِبتك، أمَّا إذا أردْتَه شاهدًا على أدب الحجّ، فلا أظنُّك ستخرج مِنْه بشيء ذي بال.
ومع ذلك فلمْ يَخْلُ المقالان مِنْ فوائد هي أدنَى للتَّاريخ مِنْ سواها، وربَّما أفاد وصْف الطَّريق ما بين جدَّة ومكَّة المكرَّمة المؤرِّخ والقارئ، فلمْ يكن الطَّريق سوى فلاة مقفرة لا تستطيع الجِمَال مغالبتها، ومهما سَوَّتِ الحكومة مَتْنها، لا تلبث الرِّمال أن تَعْلُو الطَّريق فلا تكاد تعثر على أثرٍ لذلك التَّعبيد وتلك التَّسوية، حتَّى إنَّ السَّيَّارات الَّتي بُدِئ في استعمالها، على استحياءٍ، آنئذٍ، لمْ يكنْ حظُّها بأفضلَ مِنْ الجِمَال الَّتي أُوتِيَتِ القُدرة على الجوع والعطش وشِدَّة التَّحمُّل، وأحسب أنَّ مِنْ أجمل التَّشبيهات الَّتي قُرِنَتْ فيها السَّيَّارة بالجَمَل، هذه الفقرة السَّاحرة مِمَّا صاغه يحيى حقِّي في كلمات ساخرة رائعة:
« فكما أنَّ ابن الصَّحراء لا يزال يحتفظ بتُرسه ورمحه، ولا ينقص مِنْ قيمتها تسرُّب المدنيَّة حواليه ووضعها أسلحة جديدة في يديه كذلك البئر:
طالما كانتْ نهاية أمل القافلة، ومطمع البعير في الرَّاحة، إذا جاءها ضَمَّ قوائمه كومًا واحدًا وجلس خاشعًا أمامها، فلمْ تَدُمِ الأيَّام، وجاء « فورد » وانسحب البعير، ولكنْ لا تزال البئر هي هي في سلطانها،ولا تزال ابتسامة الاستهزاء الوديعة على شفتيها عندما ترى « فورد » يقف أمامها مضطرٍّا تزخر أمعاؤه بلهيب الحُمَّى، قدْ أيَبس العطش جوفه، وعلا دخانه، فتفتح له صاحبته فمها، وتصبّ الماء في حلقه، فتتلقَّفها أمعاؤه وتبتلعها بصوت مسموع
لا يختلف كثيرًا عن بعير يعبّ فمه الماء»
على أنَّ مقالَيْ يحيى حقِّي، وإنْ عَرِيَا مِنْ إشراق الحجّ وروحانيَّته، يسوقان إلينا إحساس الدُّبلوماسيّ الشَّابّ لَمَّا شاهد جموع المسلمين، على اختلاف ألوانهم وألسنتهم، في مِنًى وعرفات والمزدلفة، وكأنَّهم «مَعْرِضٌ إسلاميٌّ»، فيه الشَّاميُّ، والمغربيُّ، والتُّونسي ُّ، والإفريقيُّ، والهنديُّ والجاويُّ، وَحَّدَهم الدِّين وفَرَّقتهم اللُّغات، وصار سبيل نفرٍ مِنْهم إلى التَّفاهُم اصطناع اللُّغة الإنـﮕليزيَّة لسانًا لهم، وما دُمْنا أتيْنا على شأن مِنْ شؤون اللُّغة، فمِنَ الطَّريف أنَّ نقرأ في هذين المقالين ما يفيد الباحث في اللُّغة واللَّهجات، ولا سيَّما ما اتَّصل بالمنافسة بين اللَّهجة السُّوريَّة والمصريَّة، ذلك أنَّ يحيى حقِّي يجلو لنا مقدار ما حقَّقه السُّوريُّون في جعْل لهجتهم سائغة دارجة في غير ناحية مِنْ ديار العرب، وإنَّه ليذكر أنَّ هذه اللَّهجة قدْ أثَّرتْ تأثيرًا بالغًا في كلام الحجازيِّين الَّذين يتكلَّمون على النَّمط الشَّاميّ، وعزا ذلك إلى نشاط السُّوريِّين وقعود المصريِّين عنْ أن يعملوا مِنْ أجل لهجتهم، مهما كانتْ لهجتهم أرقَّ وأصفى!
وما ذكره يحيى حقِّي مِنْ تغلُّب اللَّهجة السُّوريَّة على مدن الحجاز، كنتُ قدْ قرأْتُ، مِنْ قَبْلُ، ما يقوِّيه، فللأديب الحجازيّ إبراهيم فلاليّ مقالٌ أورد فيه بعض ما طرأ على كلام المكِّيِّين لَمَّا تأثَّر لسانهم بلسان الشَّوام، وخالفوا عنْ أسلوبهم القديم في نطق العبارات والكلمات في مكَّة المكرَّمة وما حولها مِنْ حواضر.
المصدر : صحيفة مكة 1438/12/2هـ
0 تعليقات