الهوية الثقافية والعمرانية لمكة والمدينة



ألقى عصر الطفرة النفطية، وما بعده، بظلاله على النمو العمراني لمكة المكرمة والمدينة المنورة منذ السبعينات. ومع تسارع التنمية والتحديث، برز تحد آخر، وهو اندثار الهوية الثقافية لهذه المدن المقدسة، خصوصاً أن المؤشرات المستقبلية تدل على الزيادة الحتمية لسكان وزوار هذه المدن، مع كل ما يحمله ذلك من تحديات اقتصادية، وضغط على النسيج العمراني التاريخي، الذي يمكن أن يلعب دوراً اقتصادياً مهماً في مرحلة ما بعد النفط.

أخذ التوسع العمراني السريع أثناء الطفرة النفطية في طريقه، في غضون بضع سنوات، معظم النسيج التاريخي، خصوصاً في أواسط المدن.

هذا التطور المادي تحرك بوتيرة أسرع بكثير من عمليات التطور الاجتماعي والثقافي الموازية، مما أدى إلى اندثار معظم التراث العمراني، في غفلة عن أهميته، وهذا أحد الأعراض الجانبية للتنمية، التي كان يمكن تجنبها بوضع سياسات حمائية مناسبة. لو وسعنا دائرة البحث، لوجدنا أن هذه القضية تتكرر في معظم المدن النامية، خصوصاً في منطقة الخليج العربي، حيث لم يكن هناك سياسات أو مبادرات لحفظ التراث، تتوازى مع التنمية المتسارعة، إلا في بعض الحالات الاستثنائية، وتعاملت أغلب المخططات العمرانية مع المعالم التراثية كمواقع قابلة للإزالة، وحل محلها نسيج عمراني مستحدث، وفي بعض الأحيان مستنسخ من معالم فقدت، ولم يتم التنبه لها إلا بعد فوات الأوان

المدينة المنورة

لم يتجاوز حجم المدينة المنورة القديمة، بعد إحاطتها بسور في القرون الأولى الإسلامية، محيط المنطقة المركزية الحالية. هذا النموذج العمراني التقليدي، الذي يتصف بالتماسك والنمو المتدرج، يقف على مسافة بعيدة جداً من النموذج العمراني المتسارع في الوقت الحاضر؛ لم تعد المدينة المنورة تلك الواحة الصغيرة التي تقبع داخل سور من العصور القديمة، أصبحت مدينة كبرى؛ بشبكات طرقها الحديثة، وأبراجها، وتزايد أعداد سكانها وزوارها بالملايين سنوياً.

ليس الاختلاف فقط في الهيكل العمراني الفيزيائي الذي فرضته عجلة التطور، بل تعدى الأمر ذلك إلى تبدل روح المكان الأصلية التي صمدت لقرون كثيرة، ثم أصبحت الآن تنطق بلسان مختلف، وتختزل الماضي في زوايا ذاكرتها إلى درجة النسيان.

هنا، ينفصل قلب المدينة وينزوي لوحده بين شبكات الطرق السريعة مثل الجزيرة المعزولة، وتنقطع صلته بأطرافها التي أصبحت مدناً أخرى تمتد وتذهب بعيداً ملاحقة شبكات الطرق والمخططات العقارية في كل اتجاه، وكأنها ترحل في فضاٍء لا نهاية له.

هذا «التسيب العمراني» هو الداء الذي أصاب المدن الحديثة، فأخذ يباعد أجزاء المدينة الواحدة عن بعضها، ويمزق نسيجها العمراني، ويستهلك بنيتها الأساسية في مدد قياسية، ويضعف قدرتها على مواجهة الطوارئ وحوادث المستقبل.

ودائماً ما يكون أول ضحايا هذا العراك العمراني الطرف الأضعف والأخفت صوتاً، ألا وهو الإرث العمراني، الذي يندرس مثل الرماد أمام جحافل الاستثمار والتطوير العقاري، التي لا تحفظ اسماً ولا تُبقي رسماً. وفُقدت في هذا الخضم تلك الشواهد التاريخية، بكل ثرائها البصري المتنوع، وذلك القرب المعنوي والمكاني من الإنسان والطبيعة، التي حلت محلها الكتل الصماء وقسوة الأسفلت والأرضيات الأسمنتية. ليس الإرث المادي فقط الذي فقدناه، بل تلاشى خلفه أيضاً الإرث الإنساني. فمع تهافت الجهات التجارية لاقتناص الفرص الاستثمارية في وسط المدينة، يخرج السكان منه تدريجياً، ثم تضمحل ذاكرة المكان جيلاً بعد جيل، حتى تصبح مثل الومضات الخافته في أذهان الأجيال التي عايشته والتصقت به، وتذهب شذرات الذكريات هذه أدراج الرياح، كلما ذهبت شواهدها وشهودها، ولا يبق منها إلا نزعاتٌ من حنين وحسرة على أماكن لم نرها، وأسماء لم نعد نعرفها.

عند النظر إلى عمران المدينة المنورة، ومحاولة استقراء بنيتها التاريخية الأصلية، تظهر كثير من المفارقات: أولها انفصام الرسم التاريخي للمدينة عن هيكلها العمراني الحالي، الذي مد كما يمد البساط الجديد فوق القديم. تاريخياً، كان موقع المسجد النبوي يميل إلى الجهة الشرقية، ثم تليه إلى الغرب سوق المدينة (أو ما عرف لاحقاً بسوق المناخة)، التي كانت تتوسط النسيج العمراني للمدينة، الذي يمتد غرباً بشكل محوري، كلما دعت الحاجة. ولكن النمط التخطيطي الحالي ألغى الصيغة المحورية، بوضع المسجد النبوي وساحاته في مركز شبكة الطرق الدائرية، وهو ما كثف حركة المرور والمشاة باتجاه المركز، باعتبار المسجد النبوي نقطة جاذبة، مما يسبب الازدحام المتواصل، الذي يتحول إلى أزمات خانقة في أوقات الذروة.

كان من الممكن المحافظة على المحور الذي ربط المسجد النبوي من الشرق مع سوق المناخة في الوسط، ومن ثم محطة سكة حديد الحجاز، التي وُ ضعت في أقصى نقطة غربية من هذا من حصر الحركة البشرية والمرورية في دائرة تضيق كلما اقتربنا من المركز، يخفف الشكل المحوري من اكتظاظ الحركة، بحيث تتوزع على طول المحور، كلما دعت المحور. فبدلاً الحاجة، ليستوعبها النسيج العمراني، وتخف وطأة التزاحم.

مكة المكرمة
شهدت أعداد الحجاج السنوية قفزة لافتة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى وصلت إلى 3 ملايين حاج، كما حصل في عام 2012 ،بعد أن كانت تقارب المائة ألف فقط في بداية خمسينات القرن الماضي، ثم تصاعدت إلى أن وصل العدد إلى ما يقارب مليون حاج بحلول منتصف السبعينات الميلادية.

حالياً، تقف مكة المكرمة أمام تحديات تؤثر في نسيجها العمراني تأثيراً مباشراً، وأهمها الزيادة السكانية، ومحدودية المكان، حيث تستقبل موجة سنوية من ملايين الحجاج والمعتمرين في فترات محدودة، بالإضافة إلى السكان المحليين الذين تزايدت أعدادهم خلال العقدين الماضيين، لتصل إلى أكثر من مليون ونصف المليون نسمة، حسب إحصاء عام 2010 .كما أن ، حسب خطة التحول الوطني هناك شريحة سكانية يصعب حصرها، وهم المقيمون بصورة غير نظامية، خصوصاً ممن أتى للعمرة أو الحج ولم يغادر بعدها. ومن المقرر مستقبلاً 2020 ،زيادة أعداد المعتمرين إلى 15 مليون معتمر سنوياً، مقارنة بالرقم الحالي الذي يتراوح بين 6 و8 ملايين معتمر سنوياً.

وفي مقابل هذه الأعداد المتزايدة من الحجاج والسكان والمقيمين، يبرز تحٍد آخر، هو صعوبة التضاريس الجغرافية.

في الوقت الحاضر، اختلفت صورة مكة المكرمة تماماً، بعد تضائل معظم المعالم العمرانية والطبيعية ذات القيمة التاريخية في مواجهة غير متكافئة مع طوفان التطوير العقاري الذي تناثرت مشاريعه هنا وهناك عبر الأودية والتضاريس الجبلية، فيما يشبه «الأرخبيل العمراني».

هذا التباين الواسع بين هوية المكان التاريخية والنمط العمراني المنتشر حالياً يلقي بمسؤولية عظيمة على كاهل كل الأطراف المعنية، من مستخدمين ومخططين وملاك وجهات تنظيمية، فيما تتخذه من خطوات مستقبلية. وهنا أيضاً تقع مسؤولية مشتركة على دول المصدر، في مراعاة الطاقة الاستيعابية للمشاعر المقدسة في موسم الحج والعمرة، إن أردنا السير بخطى ذات جدوى في حفظ ما بقي من التراث الإنساني والطبيعي لمكة المكرمة للأجيال المقبلة، ومنعه من الاندثار الكامل تحت وطأة الاستخدام المفرط.

وتدل كل المؤشرات على أن تدفق الحجاج والمعتمرين والزوار سيزيد في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهو ما سيؤدي إلى المزيد من تآكل النسيج العمراني التراثي، في ظل الاستخدام المفرط، إن لم تتخذ التدابير والسياسات اللازمة لتنظيمه.

أصبحت المناطق المركزية في مكة المكرمة والمدينة المنورة من أغلى الأسواق العقارية في المنطقة، مما يستوجب كبح جماح هذا الاتجاه مستقبليا.

هذا التزاحم التجاري على أعتاب البقاع المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة يثير كثيراً من التساؤلات، فهي مناطق في غاية الحساسية الروحية والاجتماعية، وكل حرم، سواء في مكة أو المدينة، له مركز وحدود معروفة. وعند تحليل الكثافة العمرانية في الحرمين، نجد أنها أكثر ما تكون في المناطق الملاصقة مباشرة لمركز الحرم، سواء في مكة أو المدينة، مما زاد من الاستقطاب الشديد بين مركز المدينة وأطرافها. وكان من الأنجع - ربما مستقبلاً - تخفيف الكثافة العمرانية حول مركز الحرم، وتوزيع الاستخدامات بشكل متوازن على الأطراف، ومن ثم الاستعانه بأنظمة النقل العام والمكوكي لوصل حدود الحرم بمركزه.

ومع تسارع عملية التنمية في المدينتين المقدستين، تبرز أهمية وضع سياسات للمحافظة على الهوية العمرانية والثقافية فيهما، خصوصاً أن خطط التحول الوطني 2020، والرؤية الوطنية 2030، تحمل في طياتها تصورات طموحة لزيادة الطاقة الاستيعابية في مكة والمدينة، وفتح المجال لاستضافة أعداد أكبر من الحجاج والمعتمرين. وفي الوقت الحاضر، أصبحت قيمة المكان الثقافية من محركات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لذلك فإن دفع هذه العملية التنموية للأمام لا يتأتى إلا بالمحافظة على الشواهد المادية والمعنوية، من أجل تنمية متوازنة ومستدامة في الحاضر والمستقبل.



المصدر : الشرق الاوسط 1438/12/7هـ  | عاطف الشهري