" خديجــة شـربة " ... مطوّفــة حجاج الجاوة
غلبت الأخبار المؤرخة عن العالمات من نساء مكة قديما على غيرهن، فنقلوا إلينا بعض قصص نبوغهن العلمي، أو أسانيدهن أو فقههن وروايتهن، مما أدى إلى التقصير في إيضاح دورها الاجتماعي، فعلى الرغم من التواتر لبعض قصص ذوات الثراء، الطبيبات، الدايات والمطوفات أو الفقيهات الذي ذكرته صاحبات الكتاتيب كتاريخ شفهي، نجد التاريخ المدون يغفل ذكرهن، ومن يأتي ذكرها منهن يأتي عرضا، كأن يرتبط اسمها برباط أو وقف أو سبيل ماء أو غير ذلك من الأعمال الخيرية، أو بذكريات طالب درس في أحد الكتاتيب. ومن النساء التي لعبت الصدفة دورا مهما في نقل أخبارهن خديجة شربة، والتي يقول الشيخ محمد ميرداد خلال حديثه عنها في كتابه رحلة العمر «إن هذه سيدة واحدة من سيدات كثيرات في ذلك العصر وقبله، ولولا أن هذه السيدة الكريمة مجاورة لنا ومختلطة بنا، ولولا الظروف الماسة التي أحوجتنا إلى النزول عندها طيلة ثلاثة أشهر، لما علمت عنها شيئا ولما ذكرتها في مذكراتي هذه».
وقد دون الرحالة المكي محمد عبدالحميد ميرداد خلال مذكراته في كتاب رحلة العمر كثيرا عنها، وعن دورها الاجتماعي في مكة، والحقيقة أن ما نقله إلينا لم يقتصر على بيان ذلك الدور، بل أشار إلى مقدار ما تتمتع به في بيتها من أناقة وتنظيم، إضافة إلى ذلك مساهمتها في الاقتصاد، حيث كانت خديجة من أصحاب العقارات ومن المطوفات.
خديجة شربة هي امرأة من أسرة مكية كان يقال لها أسرة الفنتيانة، إلا أن لقب شربة غلب عليها وذلك لبرها وإحسانها، وكثرة ضيوفها حتى أصبحت تلقب بشربة أي الحساء، وكثيرا ما ارتبط في التاريخ المكي بموائد البر والإحسان. وقد وصفها الميرداد بقوله : «كانت صالحة ومن فضليات النساء، تصلح بينهم، وتؤوي الأيتام والأرامل في بيتها، وتواسي الفقراء، وأعرف حق اليقين أنها كانت تعطف على العديد من النساء المنقطعات، وقد خصصت لهن طابقين من بيتها الكبير، حيث آوتهن مجانا مع أطفالهن وعلاوة على ذلك تقدم لهم الطعام والكساء، واعتقت في حياتها عبيدها وإماءها، وأسكنتهم معها، وزوجتهم وتولت تربية أطفالهم، ودارها المشار إليه كان يطلق عليه الملجأ ودار الإحسان».
ويبدو أن خديجة قد ولدت بعد منتصف القرن الثالث عشر، وتوفيت بعد أن تجاوزت السبعين من عمرها في 1341هـ، ومن الواضح أن هذه المرأة نشأت في أسرة من أسر الأثرياء، فكما ذكر الميرداد أنها مطوفة لحجاج الفنتيانة وسراوك والفلبين ، أو حجاج الجاوة كما كان يطلق عليهم ، وكانوا من أغنى الحجاج الذين يصلون إلى مكة المكرمة ، فمقدار ما يصلها من إيرادات الطوافة في كل موسم ما بين ستمئة إلى ألف جنيها ذهبيا، وهذا المبلغ يعتبر ثروة ضخمة جدا، كل ذلك يضاف إلى عقارات كثيرة كانت تخصها، مما جعلها تمتلك العبيد والجواري، وتعتقهن، وتقوم بأمرهم بعد العتق، والملفت في سيرتها أن أموالها كانت مسخرة لفعل الخيرات والقربات وإقراض المحتاجين، وتزويج المطلقات والأرامل ومن لا عائل لهن، كما سنلاحظ ذلك من خلال بعض ما دونه عنها الرحالة الميرداد في مذكراته، حتى إنه يسميها أم المكارم وأم الفضل وأم المحسنين.
0 تعليقات