ذكريات وزيارات ومكتبات ومحاورات مكة
إن أمتع لحظة عند طالب العلم والباحث عن المعرفة والثقافة والأدب والتاريخ هي حينما يزور عالما أو أديبا أو مفكرا، والأجمل منها هي لحظة السماح له بدخول مكتبة أحدهم!
ومن شغفي بالبحث عن ذكريات العلماء المكيين، عن مجالسهم العلمية وزياراتهم للمكتبات المحيطة بالمسجد الحرام، وكذلك عن محاوراتهم العلمية والشعرية وقعت بيدي دراسة ومحاضرة قيمة ألقاها فضيلة العلامة د. السيد محمد علوي مالكي الحسني، رحمه الله، في منتدى الأديب علي أبوالعلا في منتصف شهر ذي القعدة لعام 1419، ويومها كان الحديث عن الذكريات المكية التي كانت سائدة خلال الستين سنة الماضية من خلال مجالسهم وزياراتهم العلمية والفكرية ورحلاتهم وتنزهاتهم العلمية لزيارة الأماكن والآثار المكية، حيث كانت تعقد المساجلات الشعرية وتباين الآراء الفقهية والزيارات العلمية والثقافية.
فعلى جبل أبي قبيس كانت تعقد الكثير من المجالس العلمية بمشاركة كوكبة من العلماء والأدباء وطلبة العلم وقد أشار إلى ذلك العلامة السيد علوي مالكي بقوله:
علم أطل على قصور الوادي
وعلى الصفا والشعب من أجياد
وعلى ضواحي مكة وبطاحها
وعلى الحطيم وزمزم والنادي
أما غار حراء فقد كان يخرج إليه العلماء ومعهم طلبة العلم لتحديد المواقع ومعرفة الآثار بهدف نية التعلم واستشعار الأحداث التاريخية، وتفسير سورة اقرأ، بجانب استفتاح كتب الحديث بباب الوحي وبدء نزوله على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وللعلامة الشيخ محمد الشنقيطي قصيدة قيلت في غار حراء.
أما «جعرانة» فقد كان يخرج إليها كثير من العلماء مع طلبتهم بهدف نية العمرة والإحرام، وكانت تحدث محاورات علمية وفقهية مثل أيهما أفضل للمعتمر جعرانة أم التنعيم والحديبية، مع مناقشة عن فضل مائها، والغزوة النبوية التي انطلقت منها، وبقاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها مدة، وتوزيع الغنائم بما يتناسب مع شرف المكان والزمان، وكانوا يتساجلون شعرا وفي ذلك يقول السيد محمد أمين كتبي:
ولقد ذكرت الحسنى في جعرانة
فأثرت من ذكراك عرفا فاتقا
يا ليت قومي يعلمون بأنك
أحلى القرى ماء وأكرم طارقا
أما المجالس العلمية في المكتبات المكية فقد ذكر يومها في المحاضرة السيد محمد علوي مالكي ذكرياته فقال: إن المكتبات المكية كانت تحيط بالمسجد الحرام ولا سيما من جهة باب السلام مثل: مكتبة صالح جمال وكانت أقرب ما تكون إلى المكتبة الثقافية التي تهتم بكتب الثقافة والأدب، وكانت مكانا لتلاقي العلماء وتقابل الأدباء.
مكتبة عبدالفتاح فدا وكانت أقرب ما تكون إلى المكتبة العلمية المتخصصة، ففيها يتقابل العلماء وطلبة العلم، وهي مركاز للعلم ونبراس للهدى واقتناء للكتب، وكانت تمتاز بإعارة الكتب لطلبة العلم، ومن ثم شرائها، وكذلك تأمين الكتب لحلقات الدرس في المسجد الحرام.
مكتبة آل الباز وهي متخصصة في كتب العلم، وكانت ملتقى العلماء والأدباء وطلبة العلم.
وهناك الكثير من المكتبات العلمية، ولكن اشتهرت هذه لأن أصحابها من البيوتات العلمية والأدبية والثقافية، وكانت معقلا للعلم ومكانا لتلاقي العلماء، لاسيما في أوقات المواسم والمناسبات، بجانب أن أصحاب هذه المكتبات مرتبطة أعمالهم بمجالس العلماء فكان العالم لا يبدأ فتح مجلسه لقراءة كتاب معين إلا بعد التأكد من توفره في المكتبات المذكورة.
المحاورات العلمية في المدارس المكية وتطرق يومها في المحاضرة إلى الصولتية والفلاح ومما قاله: المدرسة الصولتية كانت تعقد في رحابها مجالس وندوات بمناسبة ختم أمهات الكتب من تفسير وحديث وفقه.. وفي محفل كبير يحضره جلة من العلماء من جميع البلدان الإسلامية، ومنها تخرج العلماء والقضاة أمثال الفقيه الشيخ حسن مشاط.
أما مدرسة الفلاح فمنها تخرج العلماء والوزراء والأدباء والمثقفون، وكانت في رحابها تعقد الندوات العلمية والثقافية، وكانت معقلا وحصنا للعلم إبان مشرفها العلامة السيد إسحاق عزوز، والمربي السيد محمد رضوان وكان من كبار مدرسيها علماء المسجد الحرام أمثال الشيخ محمد العربي التباني، والمحدث السيد علوي مالكي، والشيخ السناري وغيرهم كثير.
ومما أتذكره أن فضيلته عرج على حلقات العلماء، فعدد بعضها، مثل حلقة الشيخ الأصولي عيسى رواس، وحلقة الفقيه الشيخ حسن مشاط، وحلقة شيخ العلماء الشيخ محمد العربي التباني، وحلقة النحوي الفقيه السيد محمد أمين كتبي وحلقة المفسر المحدث السيد علوي مالكي، وحلقة الفقيه الشيخ سعيد يماني، والطيب المراكشي، والسيد إسحاق عزوز والشيخ حبيب الله الشنقيطي، وغيرهم كثير وكثير. وقد كان لبعضهم حلقات تعقد في منازلهم، وكانت حارات مكة المحيطة بالمسجد الحرام تزخر بمجالس العلم والعلماء، لا سيما أوقات المواسم والمناسبات، فتعج بالوافدين من حجاج ومعتمرين بجانب مجالس القراء مثل الشيخ محمد الكحيل، والشيخ محمد عبيد، والشيخ زكي داغستاني، والشيخ عباس مقادمي وغيرهم كثير.
ويا سعد من عاش ذاك العصر الزاهي فكرا وعلما وأدبا وتربية وسلوكا، إنه الزمن الجميل الذي نعيش على عبقه بذكرياته النابضة بالحياة والحيوية.
ويا ليت السيد أحمد محمد علوي مالكي وإخوانه يسارعون في تجميع وإخراج محاضرات وندوات ومقالات والدهم في كتاب يستفيد منه طلبة العلم والثقافة والباحثون عن المعرفة والفكر والأدب والتاريخ.
بقلم السيد : سمير أحمد برقة
نشر في صحيفة مكة بتاريخ السبت 8 صفر 1439 هـــ
0 تعليقات