من باب الوادع انطلقت أول جمعية خيرية
لا تذكر أوليات العمل المؤسسي في السعودية إلا وكانت مكة المكرمة، المكان والمكين، صاحبة السبق والطليعة، ولا عجب إذ كانت العاصمة الإدارية للبلاد وبها بذل أبناء هذا الوطن جهودا رائدة في البناء والتنمية.
نبعت فكرة تكوين جمعية أهلية في سنة 1353هـ تؤدي وظيفة الإسعاف والخدمات الصحية الأولية، كما هو الحال في الدول المتقدمة، فتبلور الاقتراح الذي كان وراءه لفيف من الأعيان والمثقفين من أمثال محمد سرور الصبان وعرابي سجيني ومحمَّد شطا وأحمد إبراهيم غزاوي والطيب السَّاسي وعبدالوهاب آشـي وعبدالحميد الخطيب، وغيرهم.
فمن جوار باب الوداع، بجنوب غرب المسجد الحرام، تأسست أول جمعية خيرية أهلية تؤدي وظائف الإسعاف الحديثة وفق مناهج العمل
المؤسسي المتخصص. في 3 ربيع الأول 1354هـ صدر الأمر السامي رقم 3306 بتأسيس جمعية الإسعاف الخيري برئاسة نائب الملك على الحجاز الأمير فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، يرحمه الله، وليكون مقرها الرئيس بجوار باب الوداع وعلى بعد خطوات معدودات من دارالحكومة «الحميدية» المقر العام للعمل الحكومي الرسمي.
قامت الجمعية على أساس خيري تعاوني، وكان عمادها التبرعات التي ترد إليها من المواطنين والأعيان، من داخل البلاد وخارجها، فهذه تبرعات سخية قدمت من الشقيقة الكبرى، مصر، ومن بينها تبرع الاقتصادي الكبير طلعت باشا حرب بسيارة إسعاف مجهزة، وتلك تبرعات من أعيان جاوة في رمضان سنة 1356هـ، وذلك إحسان سخي من الدكتور غلام حسين في محرم 1356هـ. غير أن موافقة الملك عبدالعزيز، يرحمه الله على إضافة ربع قرش إلى المتحصل من خطابات الدولة ورسائل البريد على هيئة طوابع خاصة أصدرت لهذا الغرض تحديدا وسميت «طابع الإسعاف» كان له أثر كبير في دعم ميزانية الجمعية على المدى البعيد.
وتحدثنا الأخبار الواردة في صحيفة أم القرى بأن الجمعية كانت تنظم احتفالات شعبية بأوتيل مكة، الذي كان يديره الشيخ الأزهري المصري عبدالسلام غالي، واستحالت الساحة الواقعة أمامه بأجياد ميدانا لمناورات الإسعاف وتدريب كوادره في سنوات تأسيسه الأولى.
اضطلعت هذه الجمعية بوظائف حضارية أخرى، بالإضافة إلى دورها الريادي في إسعاف المحتاجين ونجدة المصابين من مواطنين وزوار، وأنه لمن الملفت أن بادرت جمعية الإسعاف بتنظيم محاضرات علمية ثقافية تعمل نحو نهضة فكرية للمجتمع المكي في يومي الاثنين والخميس بعد صلاة العشاء. كانت تنصب الإعلانات على واجهة بناية الإسعاف وتنشر بصحيفتي صوت الحجاز وأم القرى. وفي طليعة أولئك المحاضرين ممن استقطبتهم الجمعية، بمقرها بباب الوداع، ثم في مركزها بحي القشاشية، كان الشاعر الفيلسوف المكي حمزة شحاتة.
ألقى شحاتة بعد صلاة العشاء في بناية الجمعية بإزاء باب الوداع محاضرته الشهيرة «الرجولة عماد الخلق الفاضل» والتي اهتزت جنبات الجمعية من وقع التصفيق والحماس الذي غشي حضور تلك المحاضرة. وابتدر شحاتة تلك المحاضرة بهذا النص:
«عندما يكون الإقدام على المخاطر ضرورة، لا يعد شجاعة، ومعنى هذا أن النسبية تدخل في حساب الحقائق الفكرية».
ويشير محمد علي مغربي في كتابه «أعلام الحجاز» إلى أن السيد محمد شطا كان في طليعة المحاضرين الذين كانت محاضراتهم بالجمعية محل احتفاء الأهالي والمثقفين، وتميزت محاضراته بتركيزها على قصص القرآن. وبحسب صحيفة أم القرى فإن الجمعية حرصت كذلك على تنوع مواضيع محاضراتها، فاستقطبت الدكتور حسني الطاهر لإلقاء محاضرات طبية لتثقيف العامة صحيا، وكذا محاضرات للدكتور بشير الرومي، ومحمد مغيربي في محاضرات عن فيسولوجية جسم الإنسان ووظائف الأعضاء، ومواضيع أخرى ذات علاقة.
ثم مضى العمل على تطوير جمعية الإسعاف الخيري فكانت نواة جمعية (هيئة) الهلال الأحمر السعودي التي تأسست في 1383هـ ودخولها تحت مظلة الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر.
مقال للدكتور : سلطان الطس
نُشر في صحيفة مكة بتاريخ : الأربعاء 22 شوال 1437 - 27 يوليو 2016
0 تعليقات