الهند.. مواسم الريح ومسرى الأحلام


استقر تقويم بلادنا طيلة القرون الوسطى على تعاقب موسمين للربح والتجارة: الحج وموسم المركب الهندي.


تعدى الناخوذة إبراهيم بمركبه القادم من كاليكوط، مضيق باب المندب إلى جدة أول مرة في عام ٨٢٥ هجرية أي ١٤٢٢م.. ومن حينه صارت السفائن الكبرى التي تحمل متاجر الهند من أرزاق وحرائر وبهار، تتعدى ميناء عدن، وتجوّر (ترسو) في ساحل جدة مباشرة.

جاءت المراكب أول مرة، إلى جانب كالكيوط، من كنباية ودابول؛ ميناءيّ الهند آنذاك وأكبر بنادر السلطنة الكوجراتية.

ثم صعد بندر سورات مطلع القرن السابع عشر، بعد اكتشاف حفرة سوالي.. ثم ورثه بومباي دهراً إلى أن أبطل اكتشاف الآلة البخارية مراكب الشراع وطوى مواسمها.

على مشارف البحر الأحمر، كانت المراكب الشراعية تترقب رياح «الأزيب» وهي رياح محلية تتعرض لها سواحل الحجاز في فترتي الانقلابين الربيعي والخريفي، تصعد معها إلى جدة في طلائع مارس أو مايو كحد أقصى، وتهبط بها إلى جزر كمران في أواخر أغسطس أو أكتوبر كحد أقصى.

فيما تفرد المراكب أشرعتها في «بحر الهند» أو المحيط الهندي على هبوب رياح «المونسون».

كانت طلائع المراكب الواصلة من الهند، مركب «الشاهي» السلطانية التي تُنقل عليها صدقة «اللاك» هدية ملك الكوجرات مظفّر خان إلى أهل الحرمين، ومركب «التركي» ومركب «الحلبي»، ومركب «فتحي» ومركب «الحوراني»، وغيرها..

ويصف مؤرّخ مكة جارالله الفهد في (نيل المنى) من حوادث عام ١٥١٩م، مراسم افتتاح الموسم الهندي، والاستقبال الكرنفالي لسفينة الشاهي والصدقة المظفّرية من نظّار الثغر والتجّار والأهالي على رصيف فرضة جدة.

هكذا انكبّ علينا «وارد الريح»؛ من أجناس الأقمشة والشاشات والموسلين، والأرز والبهار والفلفل والنيلة.. إلى أبواب الحرم المصنوعة في كنباية، وقناديلة المجلوبة سنة ١٦٨٢م على زمن سعيد بن بركات.. وإلى براميل البراندي وصفائح التنباك والحمّي.

من الهند هبّت أفكار العصور؛ منها تسرّب إلينا التصوّف النقشبندي، ومنها اتصلنا بالأفكار السلفية بنسختها الطائفية،إذ الهند المتنازعة الأعراق، مع أحمد السرهندي المجددي الذي جاء إلى مكة في ديسمبر ١٦٩٦م.. بعد أن استعلن دعوته ضد جهانقير لمحاربة البدع والعودة بالإسلام إلى أصوله الأولى.

قفزاً إلى أفكار الحداثة وآثار طاغور الذي خلّب ألباب الشبيبة التي أطلقت النهضة الأدبية من وهاد مكة مطلع القرن العشرين؛ محمد حسن عوّاد وحمزة شحاتة ورفاقهما.

وانسيال موارد القارّة الهندية انعكس على مرافق بلادنا الحيوية منذ بواكير القرن الخامس عشر. وبعد رباط محدود أوقفه ملك الجبال والغور والهند محمد بن أبي علي في سنة ١٢٠٣م كما أخبرنا الفاسي في (شفاء الغرام)، عرفت مكة والمدينة الإنشاءات المركزية العملاقة من المدرسة الخلجية البنقالية، والمدرسة الكنبايتية والمدارس الكلبرجية، والدشيشة المظفّرية وغيرها..

وسرعان ما تنقبض ريح البسط إلى سموم.. من الهند التقطنا الكوليرا أول مرة في ١٨٣١م، ومنها ضربتنا موجات الطاعون.

وبحار الهند تقذف إلينا كل عجيبة؛ مثل خبر الثلاث فيّلة التي وصلت إلى بندر جدة في ١٨١٧م.. وحكى عنها الجبرتي في تاريخه.

وصدّرنا نحن بدورنا مع السفائن العائدة، الخيل الأصائل التي أولع بها سلاطين الدولة المغولية، وأثقال البن العربي، وأطنان جلود وزعانف أسماك القرش والرخويات.

وانسحب ذلك على حركة البشر. حتى قيل في الأمثال القديمة: «إذا قلّ ما عندك فالهند هندك».

كانت الهند كناية الانطلاق إلى أفق جديد؛ هي مسرى الأحلام، ومقصد الطموح، وقبلة المغامرة، ومنفى المشاغبين.

يلقي المرتحلون بعصاهم في البحر، ويركبون من أعالي البحار أهوالاً يريدون بها استئناس الوحشة، وتقليب معادلات أقدارهم المشؤومة.

تتفجّر مواهبهم ويمتد باعهم في بلاط سلاطينها ودواوين أماراتها وأساكل بنادرها وتنظيمات جيوشها، أو تتحطّم صور مخيالهم على صخور الواقع الصارم.

كان من ينكسر ماله في الهند، أكثر ممن يثرى.. كما في تعبير الشاعر عبدالله بن جعفر باعلوي مدهر:

أيا ساعياً للهند يبغي به الثرى.. يجوب الفيافي نحوها الصبح والليلا

عدمت صواب الرأي فيما ترومه.. أتصبو الى هندو تجفو حمى ليلى

عُمدتهم في الآفاق البعيدة.. أحمد بن معصوم المكّي، الذي ارتحل إلى الدكن سنة ١٦٤٤م باستدعاء من سلطانها قطب شاه صاحب حيدر آباد.. الذي أملكه في بنته واستوزره وحكّمه في جميع مملكته.. إلى أن أفلت شمس السلطنة الدكنية، ووفاته بحيدر آباد سنة ١٦٧٤م.

وكان ابن معصوم قاعدة لهجرات المكيّين إلى بلاد الكوجرات - وزيره الأول أحمد الجوهري، وجليسه عماد بن بركات أبونمي، كلاهما مكيّان هاجرا للهند.

ومنهم صادق بن عبدالمطلب الحسيني المكّي.. الذي أصبح من جملة الأمراء الأجواد في شاه جان آباد.. ثم رفعه الأمير سعادت خان رتبة عالية وقلده منصب البخشيّة.. وتعني أمير الجيوش.

وزعيم الرحّالة.. الأديب المكّي عباس نور الدين صاحب الرحلة الشهيرة التي أسماها (نزهة الجليس) ودامت اثني عشر عاماً من عام ١٧١٩م إلى ١٧٣١م، يسيح فيها ببلاد الهند بحثاً عن المغامرة وطلباً للقوت ونيل النوال. دخل الهند من بندر سورت، واجتمع بأميرها فارس خان، وتولى الحسبة في بلاد ديوهي.

وترجم عباس المكّي شعر «سورداس» الشاعر الأعمى الهندي الشهير.. وعلى خطاه بعد قرنين ترجم عزيز ضياء قصص «طاغور»، كما ترجم أحمد عبدالغفور عطّار مسرحياته من البنقالية.

ثم رحلة عبدالله الهندي المكّي، وهو مثقف وأديب درّس بالحرم المكي وخمّس البردة.. الذي رحل إلى بندر كلكتّة سنة ١٨٤٠م يقصد فيها رجلاً من المشهورين بالعلم يقال له «سالار».. كان قد دوّن رحلته وأسماها (الصارم البتار في رحلة سالار)، لكنه تغالى في التعصب والتشنيع في ذمّ الهنود، حتى جعل أن أصلهم مولّدون من الدود!

ومن مشاهير قاصدي الهند أحمد بن علان، من أهل مكة.. المتولي منصب الألجية ثلاث مرات دخل فيها الهند بسفارة أصحاب مكة- الأولى من طرف علي بن سعيد.. والثانية من يحيى بن بركات.. والثالثة من مبارك بن أحمد. وله قول شهير، إذ ذاك بالهند:

لطائف الهند ثلاث أتت.. الأنب والنرجس والبان

وقال لي الخان نسيت النِسا.. والحق ما قد قاله الخان

والبان هو التانبول وهو ضرب من اليقطين الهندي طعم ورقه كالقرنفل يُمضغ وهو مشهي ومطرب.. وهو خمر الهند يمازج العقل قليلاً.

ونُفي محمد حكيم الملك المكّي، ركن دولة الشريف محسن مع انحلال عقدها إلى الديار الهندية في ١٦٢٩م، وله رسالة كتبها إلى رفيقه في مكة القاضي تاج الدين المالكي يشكو فيها آلام الغربة، هي قطعة رقيقة من أدب الاغتراب والتذكار:

كيف يلتذ بالحياة معنى.. بين أحشائه كورى الزناد

في قرى الهند جسمه والأصيحاب.. حجازاً والقلب في أجياد

والهند مقصد الاستشفاء من قديم كما هو خبر أحمد بن عبدالله بافقيه، أحد أئمة المقام الشافعي بالمسجد الحرام.. لمّا كف بصره ذهب إلى الهند فتعالج وأبصر.

وإلى الهند خرجت أول بعثة دراسية علمية حديثة وهي البعثة الفلاحية مطلع القرن العشرين على نفقة تاجر اللؤلؤ الحاج محمد علي زينل.

كتب الأديب عبدالوهاب آشي في زميله عبدالله عثمان الذي كان من أعضاء البعثة:

لئن صدعني فلا عجب.. فبومباي للعقل تختلب

إنه يلخص لسان حال الشبيبة المتأدبة التي تطلّعت إلى «بومباي» كمركز متقدم للحضارة والمدنية.

المصدر : عكاظ 1439/5/27هـ | بقلم : محمود صباغ mahsabbagh@