مكتبة الثقافة .. و 75 عامًا على التأسيس
مكتبة الثقافة بمكة المكرمة تأسست عام 1364هـ , وهي إحدى الآثار الباقية لرائد الثقافة والإصلاح والمعرفة.. الشيخ صالح جمال رحمه الله.
موقعها :
الدكان الثالث على يمين الخارج من الحرم الشريف متجهاً إلى باب السلام الصغير ، تلي ترتيباً مكتبة الشيخ علي عبد الكريم باز
وهي مكتبة حديثة التأسيس بالنسبة إلى المكتبات الأخرى ، تم عقد تأسيس المكتبة بتاريخ 14/4/1364هـ .
مؤسس مكتبة الثقافة :
الشيخ صالح محمد جمال – يرحمه الله – هو صاحب المبادرة لتأسيس مكتبة الثقافة .
رمز كبير من رموز الوطن ، صاحب منهج إصلاحي ، ومبادئ وطنية إسلامية ، لا يتنازل عنها ، ولا يساوم عليها ، جاهد في سبيلها بقلمه ، وبكل إمكاناته المادية ، والفكرية ، والمعنوية ، صاحب قلم جريء لا يخشى في الله لومة لائمن ، تحمل الكثير من المصاعب ، والمتاعب فلم تثن عزيمته .
قدم للوطن وأبنائه العديد من المشاريع ، والإنجازات النافعة المفيدة ، وشارك في الكثير من المؤسسات الخيرية والاجتماعية ، كان يرئس جمعية البر بمكة المكرمة ، وهي الأولى من نوعها في المملكة العربية السعودية ، ورأس المجلس البلدي بمكة المكرمة ، والغرفة التجارية لفترة من الزمن ، وتقديراً لجهوده ، وتخليداً لذكراه سمي المعرض الدائم بمكة المكرمة باسمه .
أسس عام 1376هـ جريدة حراء فكانت صوت الوطن ، وساحة الكلمة الصادقة والتعبير الحر ، توجت بأقلام رفيعة نزيهة ، وأفكار نيرة يحرص الجميع على قراءتها ، واقتنائها ، فأسهمت في إشاعة الوعي بين أفراد الأمة ، في تقدم البلاد ، وتحسين مرافقها .
مكتبة الثقافة مأثرة من آثاره العديدة لا تزال مستمرة بإشعاعها العلمي ، ونشرها المعرفي .
كان هم الشيخ صالح جمال – يرحمه الله – وهاجسه رفعة الوطن ، وتقدم البلاد ، قدم الكثير الكثير لأمته ووطنه ، ليس غريباً عليه وهو يحمل هذه الروح العالية أن يوصي أبناءه بالمحافظة على إنجازاته التي كافح من أجلها ، وفي مقدمتها مكتبة الثقافة :
"أوصى أولادي الحرص على استمرار مكتبة الثقافة في أداء رسالتها الثقافية التي أسستها من أجلها ، حتى لو تخلى عنها بعض الشركاء يجرى شراء أسمهمها" .
مرت أكثر من ثلاثة عشر عاماً على وفاة الشيخ صالح جمال – يرحمه الله – والمكتبة مستمرة في أداء رسالتها على أكمل وجه ، وقد أصبح لها بمكة المكرمة فروع متعددة ، منظمة تنظيماً حديثاً ، بفضل الله ثم بجهود أبنائه البررة حفظهم الله ، على الرغم مما تواجهه المكتبة من صعوبات مادية ، براً بوصية والدهم – يرحمه الله - .
أثر مكتبة الثقافة العلمي ، والأدبي ، والفكري في المجتمع المكي بخاصة والمملكة العربية السعودية بعامة يمتد لعقود من الزمن ، وعدد من أجيال الأمة ، عبر عنه المثقفون ، والأدباء بصدق وإخلاص في الباب الثاني من كتاب "مكتبة الثقافة تاريخ ورسالة" بعنوان :
"مكتبة الثقافة بأقلام الأدباء والمثقفين" في عبارات كلها وفاء ، واعتراف بالإسهام الفكري والأدبي الذي اضطلع به مؤسس هذه المكتبة ، ورفاقه الكرام من أبناء مكة المكرمة .
رحم الله الشيخ صالح محمد جمال رحمة الأبرار وبارك في رفاقه الأحياء ، ووفق الأبناء لإكمال مسيرة والدهم ، والسير على خطاه إنه سميع مجيب .
يذكر الأستاذ صالح جمال – يرحمه الله – قصة تأسيس مكتبة الثقافة بأنه :
في جلسة عابرة في أوائل عام 1364هـ كان الصديق محمد حسين أصفهاني في زيارتي بالمنزل الذي يطل على المسعى ، ومر من أمامنا الصديق عبد الرزاق بليلة ، ثم الصديق أحمد الملائكة ، وصعد إلينا ، وجلسنا نتحدث عن حاجة مكة إلى مكتبة توزيع الكتب ، والصحف ، فقد كنا نتهافت على مجلتي الرسالة ، والثقافة التي تصل بكميات قليلة ، وأحياناً تكون قد نفدت قبل الحصول عليها ، فتطور
الحديث إلى سؤال :
لماذا لا نقوم بإنشاء مكتبة أدبية ، ثقافية ، لتحقيق طموحات الشباب بمكة المكرمة؟ ودار الحديث سجالاً ، وتعهد الصديق أحمد ملائكة بأن يمدنا من مصر – حيث كان يقيم بها يومذاك – بالكتب ، والصحف ، والمجلات .
وقال الصديق عبد الرزاق بليلة : بأنه مستعد لإدارة المكتبة ، وكان لم يتوظف بعد ، واستعد الصديق محمد حسين أصفهاني بأن يتولى استلام الطرود من جدة وإرسالها إلينا ، وأن يمدنا هو بما عنده من صحف ، ومجلات حيث كان عمله بسوق الندى بجدة [خلف مسجد عكاش من الناحية الشرقية] .
وتعهدت أنا صالح جمال بإدارة الشركة ، وحساباتها ، ومراسلاتها ، ومساعدة الصديق عبد الرزاق بليلة في إدارة المكتبة .
سافر الأخ أحمد ملائكة للتعاقد على توريد المجلات ، والصحف ، ومحاولة الحصول لنا على وكالات ، بحيث ننفرد بتوزيعها في المملكة ،نحن في مكة المكرمة ، والأصفهاني بجدة ، وجاء بيان الأخ أحمد ملائكة عن الصحف بالمملكة من أقصاها إلى أقصاها يومئذ ، فكان مئة وخمسين نسخة من المصور ، ومئة من مجلة "الإثنين والدنيا" وستون من مجلة الهلال ، وأن دار الهلال مستعدة أن تعطينا التوكيل العام لجميع المملكة ، بحيث لا ترسل مجلاتها إلى غيرنا ، بشرط أن نقبل مبدئياً التعهد بتوزيع كامل العدد الذي أشرت إليه ، وتحيل علينا جميع عملائها ، وتهيبنا مبدئياً من هذا العدد المهول – في نظرنا – ولكننا عزمنا بعد تردد ، وتوكلنا على الله ، ووقعنا العقد ، وحصلنا على الامتياز ، وحالفنا النجاح ، وأقبل الشباب على المكتبة ، من لم يكن مشترياً فمتفرجاً على الأصناف الجديدة من الكتب ، والصحف ، والمجلات المصورة الملونة ، وأخذت كميات الصحف والمجلات تزداد ، وصار لنا حديث في مصر ، وأخذنا وكالة أخبار اليوم ، وروز اليوسف ، والرسالة ن والثقافة ن وكبر كل شيء إلا حجم الدكان ، فاستعنا بدكان قريب يسكنه أحد من آل الفدا يشغله لبيع الكتب ، ثم انتقل إلى جدة ، واستعنا بفسحة باب السلام التي كانت أمام المكتبة نفتح فيها الطرود ليلاً ، ونرتبها ، ونجهزها لتصنيفها صباحاً على برزة الخشب نرخيها ليلاً ، ونبرزها نهاراً ...
وتفرغت للمكتبة عدة سنوات بعد أن اتسعت أعمال المكتبة ، وصار لها أصدقاء من الطلاب ، والشباب ممن هم الآن يحتلون أعلى مراكز في الدولة :كالوزراء ، ووكلاء الوزراء ممن كانوا طلبة في مدرسة تحضير البعثات .
وكان من أبرز عملاء المكتبة من الأدباء والمفكرين : الشيخ أحمد إبراهيم الغزاوي ، والأستاذ أحمد السباعي ، والأستاذ محمد سعيد العامودي ، والشيخ رشدي ملحس ، والشيخ عبد الوهاب الدهلوي ، وغيرهم ممن كانوا يزوروننا للبحث عن الجديد من الصحف والكتب" .
الهدف من تأسيس هذه المكتبة تزويد الساحة العلمية والأدبية بالكتب الحديثة ، والصحف والمجلات ، أمتد نشاطها إلى الاهتمام بالكتب التراثية خصوصاً الموسمية ، لم تكن سعة الدكان لتسمح للمكتبة بالتوسع أكثر من ذلك ، وبعد انتقالها إلى القشاشية اتسعت نشاطاتها لتوفير الكتب في شتى أنواع العلوم والفنون ، وكان لها موزعون في الطائف أمثال :
الشيخ مصطفى رهبيني ، وعبد الرزاق كمال ، ومكتبة النمنكاني في المدينة المنورة ، باب الرحمة .
مكتبة الثقافة مدينة في توسعها وشهرتها وارتفاع مبيعاتها لنشاط إدارة العاملين بها ، يأتي في مقدمتهم الأستاذ عبد الرزاق بليلة الذي كان يتولى تهيئة الطرود لإرسال المجلات إلى المشتركين خارج مكة عن طريق البريد ، والأستاذ جميل أحمد قزاز في الفترة (1366 – 1368هـ) ، والعلامة الفقيه السيد محسن ابن عمر العطاس – يرحمه الله – (ت 1413هـ) .
استمر السيد محسن بن عمر العطاس – يرحمه الله – يدير المكتبة أربعين عاماً ، منذ كانت بباب السلام ، وبعد انتقالها إلى سوق الليل ، فالقشاشية ، كان يجذب الزبائن بعلمه ، وهدوئه ، وتعامله الحسن ، وهو أنموذج للعلماء العاملين الذين يترفعون عن التكسب بالعلم ، ويفضلون أن يكدحوا لبلوغ عيشهم ، يقبل عليه العالم ، وطلاب العلم ، يجدون لديه بغيتهم لما يحتاجون إليه من المصادر العلمية ، والدلالة عليها ، كان – يرحمه الله – يدير المكتبة بكفاءة العالم ، والإداري الناجح ، وهو موضع المشورة الصادقة ، والإجلال الكبير من مؤسسي المكتبة ن وبخاصة الشيخ صالح جمال ، وأخوه الشيخ أحمد جمال – يرحمهما الله - ، يساعده في ذلك الأخوان الكريمان :
السيد محسن بن سالم بن هود العطاس – يرحمه الله – فقد ظل يعمل بها زهاء اثني عشر عاماً ، والأخ الكريم عمر بن عبود بن رضوان الذي استمر يعمل بها لمدة ثماني وثلاثين سنة ، عملا في المكتبة بكل إخلاص وتفان ، فكانا محل الحب والتقدير من مؤسسي المكتبة وعملائها ، يعملان لمصلحة المكتبة وروادها من القراء ، يجدون عندهما الترحيب ، ورحابة الصدر ، والتقدير المتبادل .
أبرز رواد مكتبة الثقافة :
ما من عالم ، أو أديب كبير ، أو ناشئ ، أو طالب علم إلا يحرص على الإطلاع على وارداتها من الكتب ، والمجلات ، والصحف الخارجية ، ليس من المبالغة في شيء إذا قيل : إن معظم جيل الأدباء ، والعلماء والمفكرين في الوقت الحاضر وما قبله في الربع الأخير من القرن الرابع عشر مدينون لهذه المكتبة في ثقافتهم .
من أبرز العلماء والأدباء الذين يترددون على هذه المكتبة ، ويتابعون نشاطها المكتبي :
العلامة الفقيه الأديب السيد علوي بن عباس المالكي – يرحمه الله 0 ، الشيخ أحمد إبراهيم الغزاوي ، الأستاذ أحمد السباعي ، الأستاذ محمد سعيد العامودي ، الشيخ رشدي ملحس ، الشيخ عبد الوهاب الدهلوي ن الشيخ حسن عبد الحي قزاز ، الأستاذ حسن جوهرجي ، الشيخ عبد السلام كامل الصديق الحميم للشيخ صالح جمال ، الأديب الشاعر حسين سرحان ، الشيخ عبد القدوس الأنصاري ي، الشيخ أحمد عبد الغفور عطار ، الشيخ حمد الجاسر ، الأديب الشاعر الشيخ سراج خراز ، وكثير غيرهم من الأدباء الذين لهم الاثر الكبير في نهضة هذه البلاد ، حفظ الله الأحياء ، ورحم الله من انتقل منهم إلى دار البقاء ، وغيرهم من العلماء والمفكرين الذين كانت تمتلئ بهم الساحة العلمية ، والأدبية ، والفكرية في مكة المكرمة ، والوافـدين إليها من داخل المملكة وخارجها ممن كانوا يحرصون بحثاً عن الجديد في عالم الكتب .
جهود مكتبة الثقافة في الطباعة والنشر :
قامت مكتبة الثقافة بمحاولات جادة في مجال الطبع والنشر ، فقد طبعت ديوان "المهرجان" للأديب الشاعر الأستاذ طاهر زمخشري – يرحمه الله – فكان باكورة نشاطها في هذا المجال ، ثم ثنت بكتاب "تاريخ مكة" للأستاذ الأديب أحمد السباعي ، ثم توقفت عن النشر .
ثم عاودت النشر مرة أخرى ، فألف الشيخ صالح – يرحمه الله – كتاباً سماه : "دليل الحاج المصور" جمع فيه أحكام الحج ، والأدعية المأثورة ، موجزاً لتاريخ مكة المكرمة ، والمدينة المنورة ، والكعبة المشرفة ، والمسجد الحرام ، والمسجد النبوي الشريف ، وبعض الآثار الإسلامية في المدينتين المقدستين ، قامت المكتبة بطبعه ، ونشره ،وتوزيعه كذلك طبع كتاب : "من أجل بلدي" مجموعة مقالات الشيخ صالح بجريدة الندوة .
تنتهي المكتبات المطلة على الرحبة الرخامية بباب السلام من الناحية اليمنى للخارج من باب السلام للحرم المكب الشريف ، عند هذه المكتبة (مكتبة الثقافة) .
المرجع :
معالي الأستاذ الدكتور / عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان
باب السلام في المسجد الحرام ودور مكتباته في النهضة العلمية والأدبية الحديثة – بتصرف
أعدّه وكتبه : ثروت كتبي .
0 تعليقات