صالح جمال .. المكّي المولع بالثقافة والصحافة والطباعة
كان يوم التاسع من يونيو 1991 يوما حزينا لمكة المكرمة وأهلها، بل للسعودية بأسرها. ففيه انتقل إلى رحمة الله تعالى رائد من رواد الثقافة والصحافة والفكر، وعلم من أعلام البر والخير والإحسان عن عمر ناهز الثالثة والسبعين، وذلك على إثر حادث مروري على طريق مكة ــ جدة السريع.
نزل خبر وفاة الرجل كالصاعقة على الكثيرين، خصوصا أولئك الذين تعاملوا معه في نفس يوم رحيله. إذ كان ذلك اليوم، ككل أيام الراحل، حافلا بالنشاط وبدأه بالتنقل بين مؤسستيه (دار الثقافة للطباعة، ومكتبة الثقافة)، ثم ذهب إلى مكتب أمير منطقة مكة سعيا وراء قضاء حاجة شخص ما، ثم رحل إلى مدينة جدة لمقابلة وزير الحج، وفي طريق عودته من هناك إلى مكة وقع له حادث مروري، حيث شاءت إرادة الله أن يكون هو قائد المركبة في تلك الرحلة بعد أن كان قد تخلى عن قيادة السيارات لسنوات. وهكذا صُلي عليه في المسجد الحرام عقب صلاة فجر اليوم التالي، و ووري جثمانه بمقابر المعلاه بحضور أهل مكة والمدن المجاورة الذين توافدوا للدعاء له وتقديم واجب العزاء لأهله وذويه وأصدقائه، ثم ساروا معه الى مثواه الأخير في منظر مهيب برهن على أنه كان من الرجال المخلصين والعاملين الصالحين.
وقد وصف صديقه اللواء متقاعد علي زين العابدين جنازته بالأبيات التالية:
رأيت الناس تزدحم ازدحاما كموج البحر يلتطم التطاما
جموع زاحفات تلو أخــــرى تسابق بعضها بعضاً ضماما
حشود تملأ الآفاق زحــــــفاً كأن الموت ألهبها احتداما
حديثنا هنا ــ والذي سنعتمد فيه بصورة رئيسية على ما هو منشور في موقعه الإلكتروني الرسمي ــ عن رجل الفكر والثقافة والصحافة والطباعة والمشاريع الخيرية صالح بن محمد بن صالح بن عبد القادر بن صالح بن عبد الرحمن بن عثمان بن عارف بن محمد جمال.
وصفه مؤرخ الحجاز المرحوم عاتق البلادي في الجزء الأول من كتابه "نشر الرياحين في تاريخ البلد الأمين بـ"الوجه الصبوح صاحب الابتسامة المشرقة والقلب الأبيض، شيخ أهل مكة في زمنه بلا منازع، صاحب العضويات الفعلية والشرفية الكثيرة، الدائم الحركة الدائب أبداً، سيطول الزمن قبل أن يرى المكيون مثله".
وسرد المرحوم الشيخ محمد علي مغربي في الجزء الرابع من كتابه "أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجري" أوصافه الفيزيائية فقال عنه أنه : " متوسط القامة، ممتلئ الجسم في غير إسراف، أبيض البشرة، واسع العينين، أقنى الأنف يُطالعك بوجه دائم الابتسام، تتزينه لحية لطيفة مخضبة، بعد أن سرى إليها الشيب".
وقد أكد الدكتور زهير محمد جميل كتبي على ما ذهب إليه مغربي حينما ذكر في الجزء الثاني من كتابه "رجال من مكة المكرمة" أن صاحبنا "أبيض اللون، وسيم، جميل المطلع، طويل القامة، يرتدي نظارة طبية أنيق الشكل، صوته به بحة، يلبس العباءة العربية والعقال، له لحية
صغيرة خفيفة، انتشر بها الشيب وهو وقار".
أما وزير الإعلام السعودي الأسبق المرحوم الدكتور محمد عبده يماني فقال عنه في كلمة ألقاها في حفل تكريم للراحل أقامته جامعة أم القرى في يناير 2007 إنه:
"رجل من رجال هذا البلد، ورائد من رواده في الثقافة والأدب، ورمز من رموزه في العطاء وحب الخير ومساعدة الفقراء والضعفاء والمساكين .. فاذا كان الناس ينفقون من صدقات أموالهم عطاءاً متنوعاً ومختلفاً .. فان هذا الرجل لم ينفق جنيهاً ولا قرشاً أو ريال فحسب بل كان يساهم بالكلمة الطيبة. وإنني أنظر الى سيرة الأستاذ صالح جمال (رحمه الله) من زاوية أنه رجل من رواد العمل الثقافي الأدبي والصحفي بصورة خاصة فقد تحمل في سبيل هذه المسيرة الكثير من المتاعب، ولكنه استمر ولم يتردد لحظة في مواصلة العمل لدعم فكره الثقافي والأدبي حتى عندما قست عليه بعض الجهات الرقابية أو الرسمية فقد كان مؤمناً بالأهداف التي يسعي إليها".
ولد صالح محمد جمال في مكة المكرمة في سنة 1338 للهجرة (1918م) أو نحو ذلك. وكانت نشأته في أسرة ميسورة جمعت ما بين العلم والتجارة. فجده الأكبر هو عارف جمال الذي كان حتى وفاته في عام 1163 للهجرة (1749 م) من علماء الحرم المكي، ووالده هو محمد بن صالح جمال الذي مارس التجارة وأثرى من ورائها قبل أن تنتكس أحواله ويضطر إبنه صالح للإنقطاع عن دراسته لمساعدة الأسرة.
كتب الباحث المكي حسام عبدالعزيز مكاوي في صحيفة مكة (27/6/2016) عن دراسة صالح جمال فقال:
"بدأ حياته بين البيت والحرم، كحال كثير من المكيين، حيث كان منزل والده يقع في المسعى، وكذلك تجارته، فنشأ في بيئة متدينة متسامحة (...)، وقضى سنوات عمره الأولى بين الكتاتيب الموجودة آنذاك، ثم التحق بمدرسة الفائزين، ثم المدرسة التحضيرية الحكومية، ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائية وأمضى بها عامين، لينتقل بعدها إلى المعهد العلمي السعودي، إلا أنه لم يمض به إلا عامين أيضا". وقد توسع الكاتب في هذا الأمر في مقال آخر نشره في الموقع الرسمي للمرحوم حيث كتب: "كانت الدولة أنشأت المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة كمرحلة ثانوية بعد المدرسة الابتدائية ــ إذ كان نظام التعليم يوم ذاك ثلاث سنوات تحضيري وأربعة ابتدائي وثلاث سنوات ثانوي ــ ونقل إليه خيرة وأكفأ أساتذة المدرسة الابتدائية ومنهم الأساتذة محمد حلمي وشيخ بابصيل ومحمود القاري وكانوا من أساتذته الذين توسموا فيه القدرة على السير في السنة الأولى من المعهد العلمي فعرضوا عليه الانتقال إليه من السنة الثانية الابتدائية، فانتقل إلى المعهد وأمضى به السنة الأولى والثانية ونجح للسنة الثالثة، ولكن الأقدار لم تشأ أن يُكمل دراسته بالمعهد حيث اضطرته ظروف الحياة أن يعمل كموظف للإنفاق على العائلة".
وهكذا بدأ جمال مسيرته العملية مبكرا عبر الإلتحاق بالعمل الحكومي. فعمل أولا بوظيفة كاتب في بيت المال بمكة، ثم التحق بالمحكمة الشرعية الكبرى فيها عام 1354 للهجرة (1935م) وتدرج فيها إلى أن عين رئيساً لكتاب المحكمة المستعجلة الثانية براتب قدره 70 ريالا، وانتقل في عام 1365 للهجرة (1945م) للعمل في الشرطة، فعمل بالقسم الإداري، ثم مديراً للمستودعات بالأمن العام عام 1368 للهجرة (1948م) براتب 140 ريالا. بعدها عمل كأمين للصندوق فمديرا للإدارة فمشرفا على التحرير بجريدة البلاد السعودية حتى نهاية 1375 للهجرة (1955م). على أن مشواره في العمل الحكومي وشبه الحكومي لم يزد في مجمله عن 15 سنة تلاها دخوله ميدان العمل الحر الذي كان يفكر به قبل تركه لوظيفته الحكومية. ويمكن القول هنا أن العمل الحكومي لئن أكسب جمال الخبرة في طرق التعامل مع الناس والاقتراب من همومهم ومشاكلهم، فإن العمل الحر منحه فرص تنمية مواهبه والإطلالة على العالم الخارجي وخدمة بلده وناسه فكريا وثقافيا وخيريا.
تزامن دخول جمال ميدان العمل الحر مع حقبة تبلور النهضة الثقافية الحديثة في مكة والحجاز في خمسينات القرن العشرين، الأمر الذي شجعه على أن يكون مساهما في ذلك الحراك عبر قلمه ثم من خلال تأسيس كيانات ثقافية تساعد في مد المجتمع بأدوات الفكر والمعرفة. وقد تجسد ذلك في مشروع "مكتبة الثقافة" الذي بدأ بدكان صغير ثم تحول مع الوقت إلى كيان له فروع وموزعين.
دعونا نقرأ ما كتبه عدنان الشبراوي في صحيفة عكاظ (28/3/2012) نقلا عن مذكرات صالح جمال حول حكاية "مكتبة الثقافة" وظروف تأسيسها وأهدافها ومراحل توسعها. قال جمال في مذكراته (بتصرف) "كنت في جلسة عابرة في أوائل 1364 للهجرة (1944م) مع الصديق محمد حسين اصفهاني أثناء زيارة له بمنزلي المطل على المسعى، ومر من أماننا الصديق عبدالرزاق بليلة، ثم الصديق أحمد الملائكة، وصعدا إلينا وجلسنا نتحدث عن حاجة مكة إلى مكتبة لتوزيع الكتب والصحف، فقد كنا نتهافت على مجلتي الرسالة والثقافة اللتين كانتا تصلان بكميات قليلة وتنفذان سريعا، فتطور الحديث إلى سؤال: لماذا لا نقوم بإنشاء مكتبة أدبية ثقافية لتحقيق طموحات شباب مكة؟ ودار الحديث سجالا، وتعهد أحمد الملائكة بأن يمدنا من مصر، حيث كان يقيم وقتذاك، بالكتب والصحف والمجلات، وقال عبدالرزاق بليلة أنه مستعد لإدارة المكتبة، حيث لم يكن آنذاك قد توظف بعد، وأبدى محمد حسين إصفهاني إستعداده لتولي إستلام الطرود في جدة وإرسالها إلينا مع تزويدنا بما عنده من صحف ومجلات، حيث كان يبيعها من خلال بسطة بشارع الندى في جدة، وتعهدت أنا بإدارة الشركة وحساباتها ومراسلاتها مع تقديم المساعد لعبدالرزاق بليلة في إدارة المكتبة".
ويمضي جمال في مذكراته ليخبرنا أن أحمد الملائكة سافر إلى مصر للتعاقد على توريد الصحف والمجلات، ومحاولة الحصول على وكالات توزيع حصرية في مكة لمكتبة الثقافة ومثلها للإصفهاني في جدة، فأرسل من هناك تقريرا تحدث فيه عن أن مجمل ما يـُرسل من مصر إلى السعودية من أقصاها إلى أقصاها وقتذاك هو 150 نسخة من مجلة "المصور"، و100 نسخة من مجلة "الأثنين والدنيا" و60 نسخة من مجلة "الهلال"، وأن "دار الهلال" المصرية مستعدة لمنح التوكيل الحصري المطلوب بشرط التعهد بتصريف كافة النسخ المرسلة. ويختتم جمال كلامه حول مشروعه بالقول أنه وشركاءه تخوفوا في بداية الأمر من الشرط المذكور، لكنهم توكلوا على الله ووقعوا العقد وحصلوا على الإمتياز ووكالات توزيع "أخبار اليوم" و"روزاليوسف" وحالفهم الحظ فكبروا وتوسعوا واستقطبوا زبائن من كافة الفئات بمن فيهم من صاروا اليوم من كبار المسؤولين.
أما عن أهداف تأسيس "مكتبة الثقافة" فقد كتب الرجل مايلي: "كان الهدف من تأسيس المكتبة تزويد الساحة العلمية والأدبية بالكتب الحديثة والصحف والمجلات، وامتد نشاطها إلى الإهتمام بالكتب التراثية خصوصا الموسمية. لم تكن سعة الدكان لتسمح للمكتبة بالتوسع أكثر من ذلك، وبعد انتقالها إلى القشاشية اتسعت نشاطاتها لتوفير الكتب في شتى العلوم والفنون، وصار لها موزعون في الطائف (...) وفي المدينة المنورة".
مــَن كتب عن جمال بيـّن أن علاقة الرجل بالثقافة والفكر بدأت من خلال حضوره للندوات التي كانت تعقد في جمعية الإسعاف الخيرية، ومن خلال الندوات التي كان يقيمها الشيخ كامل كردي في منزله بمنى أيام الحج بحضور الأدباء والعلماء القادمين من مختلف الأقطار لأداء فريضة الحج، أي قبل وقت طويل من رحلته الأولى إلى مصر في عام 1946 وإلتقائه هناك بعمالقة الأدب من أمثال علي أحمد باكثير وعبدالحميد جودة السحار ونجيب محفوظ وغيرهم ممن أثروا في وعيه الثقافي.
ولئن ساهمت تلك العلاقة في ولادة مشروع "مكتبة الثقافة" لاحقا، فإنها لم تقف عند هذا الحد. إذ سرعان ما انطلقت رحلة جمال مع عالم النشر والتأليف، حيث أسس "دار الثقافة للطباعة" التي حملت على عاتقها نشر إبداعات الكتاب والمؤلفين السعوديين محليا، فقامت على سبيل المثال بنشر ديوان "المهرجان" للشاعر طاهر زمخشري، وكتاب "تاريخ مكة" لأحمد السباعي، علاوة على كتاب من تأليفه بعنوان "دليل الحاج المصور" جمع فيه مناسك الحج وأحكامه وأدعيته، علما بأن هذا المؤلف مجرد كتاب واحد ضمن عدة مؤلفات كتبها من أهمها: "من أجل بلدي"، "أخبار مدينة الرسول"، "المرأة بين نظرتين".
ومن بعد رحلة المكتبات وتوزيع الصحف، ورحلة الطباعة والنشر جاءت رحلته مع عالم الصحافة التي بدأت بكتابة المقالات الصحفية، وتطورت إلى حصوله على إمتياز صحيفة "حراء" في عام 1376 للهجرة (1956 م)، علما بأن "حراء" بدأت إسبوعية تطبع في مطابع الإصفهاني بجدة وانتهت يومية تطبع في مطابع دار الثقافة بمكة، وأختفت بعد مدة من دمجها مع صحيفة "الندوة". وحول تجربته مع صحيفة "حراء"، كتب في مذكراته قائلا: "إذا كان الكاتب الكبير مصطفى أمين يقول إنه أصدر عدة صحف بقروش كان يوفرها، فإنني أصدرت جريدة حراء بدون رأسمال، فقد كانت مطابع الأصفهاني تطبعها على الحساب، والإدارة في البيت، والتوزيع في مكتبة الثقافة". ويمكن أن نضيف: كان كتابها من كبار أدباء السعودية من أمثال محمد عمر توفيق، والأمير عبدالله الفيصل، والشيخ محمد سرور الصبان، وأحمد الغزاوي، وأحمد محمد جمال، وعبدالله عريف وغيرهم.
" لكن جمال، قبل دخوله عوالم المكتبات والتوزيع والنشر والطباعة والصحافة، كان رجل بر وإحسان، وقد تجلى ذلك في تأسيسه لأول جمعية بر في السعودية في مطلع الخمسينات الميلادية تحت مسمى "صندوق البر". وقد تحدث عن هذا الدكتور محمد عبده يماني (مصدر سابق) فقال (بتصرف): "إن من ينظر في عمل استاذنا صالح جمال يلاحظ انه قد اعطى الكثير من وقته للضعفاء والمساكين، وكرس جهده للعمل الخيري بأنواعه، من خلال جمعية البر التي حرص على تأسيسها، واهتم في مرحلة من المراحل ببناء العمائر السكنية للأرامل والأطفال حتى بلغ عددها عشر عمائر موزعة على أحياء مكة، كما أنه حرص على تبني وتأسيس مشروع إنساني لمساعدة الشباب على الزواج عبر دعمهم في المهور، ومساعدتهم في ايجاد السكن المناسب وتأثيثه، ناهيك عن أنه قاد عملية توزيع الأرزاق من الجمعية على الأسر الفقيرة، وقدم لبعضها مساعدات نقدية لتعينها على ظروف المعيشة، فاستفادت حوالي 8500 عائلة، وعلاوة على ماسبق قاد مشروع إنشاء مركز لغسيل الكلى، واختار له ساحة مستشفى النور وجعله تحت إشراف المستشفى".
ويمكن أن ندخل ضمن أعمال البر التي قام بها جمال، مقالاته التي كان ينشرها دفاعا عن المظلومين أو قضاء لحوائجهم أو شكوى بإسمهم للمسؤولين حول خلل ما أو قرار إداري متسرع يثقل كاهل المواطن، أو نقص في الخدمات. حيث كثيرا ما وصل صوته إلى أسماع ولاة الأمر والوزراء المعنيين فسارعوا إلى إنصاف المتظلمين أو تشكيل لجان لوضع حلول مناسبة لقضية ما أو الإستجابة الفورية لتوفير الخدمات الحكومية لحي ما.
وفي سيرة الرجل، عدا ما ذكرناه، أنشطة أخرى متنوعة. إذ تدرج في مناصب غرفة تجارة مكة المكرمة إلى أن أنتخب كأمين عام لها لأربع دورات متتالية بدءا من عام 1977، وأشرف وترأس تحرير مجلة الغرفة منذ إصدارها في عام 1965 وحتى وفاته. هذا ناهيك عن عضويته في العديد من الجمعيات والمؤسسات. فقد كان عضواً في الهيئة التأسيسية لجامعة الملك عبدالعزيز، وعضوا في المجلس الأعلى لجامعة أم القرى، وعضوا بمجلس إدارة مصلحة المياه بالمنطقة الغربية، ورئيساً للمجلس البلدي، ورئيساً لجمعية البر بمكة، ورئيساً لمؤسسة مطوفي حجاج الدول العربية.
قراءة الدكتور : عبدالله المدني | أستاذ العلاقات الدولية بممكلة البحرين
نُشر في صحيفة عكاظ بتاريخ : السبت / 21 / رجب / 1439 هـ - 7 أبريل 2018
نزل خبر وفاة الرجل كالصاعقة على الكثيرين، خصوصا أولئك الذين تعاملوا معه في نفس يوم رحيله. إذ كان ذلك اليوم، ككل أيام الراحل، حافلا بالنشاط وبدأه بالتنقل بين مؤسستيه (دار الثقافة للطباعة، ومكتبة الثقافة)، ثم ذهب إلى مكتب أمير منطقة مكة سعيا وراء قضاء حاجة شخص ما، ثم رحل إلى مدينة جدة لمقابلة وزير الحج، وفي طريق عودته من هناك إلى مكة وقع له حادث مروري، حيث شاءت إرادة الله أن يكون هو قائد المركبة في تلك الرحلة بعد أن كان قد تخلى عن قيادة السيارات لسنوات. وهكذا صُلي عليه في المسجد الحرام عقب صلاة فجر اليوم التالي، و ووري جثمانه بمقابر المعلاه بحضور أهل مكة والمدن المجاورة الذين توافدوا للدعاء له وتقديم واجب العزاء لأهله وذويه وأصدقائه، ثم ساروا معه الى مثواه الأخير في منظر مهيب برهن على أنه كان من الرجال المخلصين والعاملين الصالحين.
وقد وصف صديقه اللواء متقاعد علي زين العابدين جنازته بالأبيات التالية:
رأيت الناس تزدحم ازدحاما كموج البحر يلتطم التطاما
جموع زاحفات تلو أخــــرى تسابق بعضها بعضاً ضماما
حشود تملأ الآفاق زحــــــفاً كأن الموت ألهبها احتداما
حديثنا هنا ــ والذي سنعتمد فيه بصورة رئيسية على ما هو منشور في موقعه الإلكتروني الرسمي ــ عن رجل الفكر والثقافة والصحافة والطباعة والمشاريع الخيرية صالح بن محمد بن صالح بن عبد القادر بن صالح بن عبد الرحمن بن عثمان بن عارف بن محمد جمال.
وصفه مؤرخ الحجاز المرحوم عاتق البلادي في الجزء الأول من كتابه "نشر الرياحين في تاريخ البلد الأمين بـ"الوجه الصبوح صاحب الابتسامة المشرقة والقلب الأبيض، شيخ أهل مكة في زمنه بلا منازع، صاحب العضويات الفعلية والشرفية الكثيرة، الدائم الحركة الدائب أبداً، سيطول الزمن قبل أن يرى المكيون مثله".
وسرد المرحوم الشيخ محمد علي مغربي في الجزء الرابع من كتابه "أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجري" أوصافه الفيزيائية فقال عنه أنه : " متوسط القامة، ممتلئ الجسم في غير إسراف، أبيض البشرة، واسع العينين، أقنى الأنف يُطالعك بوجه دائم الابتسام، تتزينه لحية لطيفة مخضبة، بعد أن سرى إليها الشيب".
وقد أكد الدكتور زهير محمد جميل كتبي على ما ذهب إليه مغربي حينما ذكر في الجزء الثاني من كتابه "رجال من مكة المكرمة" أن صاحبنا "أبيض اللون، وسيم، جميل المطلع، طويل القامة، يرتدي نظارة طبية أنيق الشكل، صوته به بحة، يلبس العباءة العربية والعقال، له لحية
صغيرة خفيفة، انتشر بها الشيب وهو وقار".
أما وزير الإعلام السعودي الأسبق المرحوم الدكتور محمد عبده يماني فقال عنه في كلمة ألقاها في حفل تكريم للراحل أقامته جامعة أم القرى في يناير 2007 إنه:
"رجل من رجال هذا البلد، ورائد من رواده في الثقافة والأدب، ورمز من رموزه في العطاء وحب الخير ومساعدة الفقراء والضعفاء والمساكين .. فاذا كان الناس ينفقون من صدقات أموالهم عطاءاً متنوعاً ومختلفاً .. فان هذا الرجل لم ينفق جنيهاً ولا قرشاً أو ريال فحسب بل كان يساهم بالكلمة الطيبة. وإنني أنظر الى سيرة الأستاذ صالح جمال (رحمه الله) من زاوية أنه رجل من رواد العمل الثقافي الأدبي والصحفي بصورة خاصة فقد تحمل في سبيل هذه المسيرة الكثير من المتاعب، ولكنه استمر ولم يتردد لحظة في مواصلة العمل لدعم فكره الثقافي والأدبي حتى عندما قست عليه بعض الجهات الرقابية أو الرسمية فقد كان مؤمناً بالأهداف التي يسعي إليها".
ولد صالح محمد جمال في مكة المكرمة في سنة 1338 للهجرة (1918م) أو نحو ذلك. وكانت نشأته في أسرة ميسورة جمعت ما بين العلم والتجارة. فجده الأكبر هو عارف جمال الذي كان حتى وفاته في عام 1163 للهجرة (1749 م) من علماء الحرم المكي، ووالده هو محمد بن صالح جمال الذي مارس التجارة وأثرى من ورائها قبل أن تنتكس أحواله ويضطر إبنه صالح للإنقطاع عن دراسته لمساعدة الأسرة.
كتب الباحث المكي حسام عبدالعزيز مكاوي في صحيفة مكة (27/6/2016) عن دراسة صالح جمال فقال:
"بدأ حياته بين البيت والحرم، كحال كثير من المكيين، حيث كان منزل والده يقع في المسعى، وكذلك تجارته، فنشأ في بيئة متدينة متسامحة (...)، وقضى سنوات عمره الأولى بين الكتاتيب الموجودة آنذاك، ثم التحق بمدرسة الفائزين، ثم المدرسة التحضيرية الحكومية، ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائية وأمضى بها عامين، لينتقل بعدها إلى المعهد العلمي السعودي، إلا أنه لم يمض به إلا عامين أيضا". وقد توسع الكاتب في هذا الأمر في مقال آخر نشره في الموقع الرسمي للمرحوم حيث كتب: "كانت الدولة أنشأت المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة كمرحلة ثانوية بعد المدرسة الابتدائية ــ إذ كان نظام التعليم يوم ذاك ثلاث سنوات تحضيري وأربعة ابتدائي وثلاث سنوات ثانوي ــ ونقل إليه خيرة وأكفأ أساتذة المدرسة الابتدائية ومنهم الأساتذة محمد حلمي وشيخ بابصيل ومحمود القاري وكانوا من أساتذته الذين توسموا فيه القدرة على السير في السنة الأولى من المعهد العلمي فعرضوا عليه الانتقال إليه من السنة الثانية الابتدائية، فانتقل إلى المعهد وأمضى به السنة الأولى والثانية ونجح للسنة الثالثة، ولكن الأقدار لم تشأ أن يُكمل دراسته بالمعهد حيث اضطرته ظروف الحياة أن يعمل كموظف للإنفاق على العائلة".
وهكذا بدأ جمال مسيرته العملية مبكرا عبر الإلتحاق بالعمل الحكومي. فعمل أولا بوظيفة كاتب في بيت المال بمكة، ثم التحق بالمحكمة الشرعية الكبرى فيها عام 1354 للهجرة (1935م) وتدرج فيها إلى أن عين رئيساً لكتاب المحكمة المستعجلة الثانية براتب قدره 70 ريالا، وانتقل في عام 1365 للهجرة (1945م) للعمل في الشرطة، فعمل بالقسم الإداري، ثم مديراً للمستودعات بالأمن العام عام 1368 للهجرة (1948م) براتب 140 ريالا. بعدها عمل كأمين للصندوق فمديرا للإدارة فمشرفا على التحرير بجريدة البلاد السعودية حتى نهاية 1375 للهجرة (1955م). على أن مشواره في العمل الحكومي وشبه الحكومي لم يزد في مجمله عن 15 سنة تلاها دخوله ميدان العمل الحر الذي كان يفكر به قبل تركه لوظيفته الحكومية. ويمكن القول هنا أن العمل الحكومي لئن أكسب جمال الخبرة في طرق التعامل مع الناس والاقتراب من همومهم ومشاكلهم، فإن العمل الحر منحه فرص تنمية مواهبه والإطلالة على العالم الخارجي وخدمة بلده وناسه فكريا وثقافيا وخيريا.
تزامن دخول جمال ميدان العمل الحر مع حقبة تبلور النهضة الثقافية الحديثة في مكة والحجاز في خمسينات القرن العشرين، الأمر الذي شجعه على أن يكون مساهما في ذلك الحراك عبر قلمه ثم من خلال تأسيس كيانات ثقافية تساعد في مد المجتمع بأدوات الفكر والمعرفة. وقد تجسد ذلك في مشروع "مكتبة الثقافة" الذي بدأ بدكان صغير ثم تحول مع الوقت إلى كيان له فروع وموزعين.
دعونا نقرأ ما كتبه عدنان الشبراوي في صحيفة عكاظ (28/3/2012) نقلا عن مذكرات صالح جمال حول حكاية "مكتبة الثقافة" وظروف تأسيسها وأهدافها ومراحل توسعها. قال جمال في مذكراته (بتصرف) "كنت في جلسة عابرة في أوائل 1364 للهجرة (1944م) مع الصديق محمد حسين اصفهاني أثناء زيارة له بمنزلي المطل على المسعى، ومر من أماننا الصديق عبدالرزاق بليلة، ثم الصديق أحمد الملائكة، وصعدا إلينا وجلسنا نتحدث عن حاجة مكة إلى مكتبة لتوزيع الكتب والصحف، فقد كنا نتهافت على مجلتي الرسالة والثقافة اللتين كانتا تصلان بكميات قليلة وتنفذان سريعا، فتطور الحديث إلى سؤال: لماذا لا نقوم بإنشاء مكتبة أدبية ثقافية لتحقيق طموحات شباب مكة؟ ودار الحديث سجالا، وتعهد أحمد الملائكة بأن يمدنا من مصر، حيث كان يقيم وقتذاك، بالكتب والصحف والمجلات، وقال عبدالرزاق بليلة أنه مستعد لإدارة المكتبة، حيث لم يكن آنذاك قد توظف بعد، وأبدى محمد حسين إصفهاني إستعداده لتولي إستلام الطرود في جدة وإرسالها إلينا مع تزويدنا بما عنده من صحف ومجلات، حيث كان يبيعها من خلال بسطة بشارع الندى في جدة، وتعهدت أنا بإدارة الشركة وحساباتها ومراسلاتها مع تقديم المساعد لعبدالرزاق بليلة في إدارة المكتبة".
ويمضي جمال في مذكراته ليخبرنا أن أحمد الملائكة سافر إلى مصر للتعاقد على توريد الصحف والمجلات، ومحاولة الحصول على وكالات توزيع حصرية في مكة لمكتبة الثقافة ومثلها للإصفهاني في جدة، فأرسل من هناك تقريرا تحدث فيه عن أن مجمل ما يـُرسل من مصر إلى السعودية من أقصاها إلى أقصاها وقتذاك هو 150 نسخة من مجلة "المصور"، و100 نسخة من مجلة "الأثنين والدنيا" و60 نسخة من مجلة "الهلال"، وأن "دار الهلال" المصرية مستعدة لمنح التوكيل الحصري المطلوب بشرط التعهد بتصريف كافة النسخ المرسلة. ويختتم جمال كلامه حول مشروعه بالقول أنه وشركاءه تخوفوا في بداية الأمر من الشرط المذكور، لكنهم توكلوا على الله ووقعوا العقد وحصلوا على الإمتياز ووكالات توزيع "أخبار اليوم" و"روزاليوسف" وحالفهم الحظ فكبروا وتوسعوا واستقطبوا زبائن من كافة الفئات بمن فيهم من صاروا اليوم من كبار المسؤولين.
أما عن أهداف تأسيس "مكتبة الثقافة" فقد كتب الرجل مايلي: "كان الهدف من تأسيس المكتبة تزويد الساحة العلمية والأدبية بالكتب الحديثة والصحف والمجلات، وامتد نشاطها إلى الإهتمام بالكتب التراثية خصوصا الموسمية. لم تكن سعة الدكان لتسمح للمكتبة بالتوسع أكثر من ذلك، وبعد انتقالها إلى القشاشية اتسعت نشاطاتها لتوفير الكتب في شتى العلوم والفنون، وصار لها موزعون في الطائف (...) وفي المدينة المنورة".
مــَن كتب عن جمال بيـّن أن علاقة الرجل بالثقافة والفكر بدأت من خلال حضوره للندوات التي كانت تعقد في جمعية الإسعاف الخيرية، ومن خلال الندوات التي كان يقيمها الشيخ كامل كردي في منزله بمنى أيام الحج بحضور الأدباء والعلماء القادمين من مختلف الأقطار لأداء فريضة الحج، أي قبل وقت طويل من رحلته الأولى إلى مصر في عام 1946 وإلتقائه هناك بعمالقة الأدب من أمثال علي أحمد باكثير وعبدالحميد جودة السحار ونجيب محفوظ وغيرهم ممن أثروا في وعيه الثقافي.
ولئن ساهمت تلك العلاقة في ولادة مشروع "مكتبة الثقافة" لاحقا، فإنها لم تقف عند هذا الحد. إذ سرعان ما انطلقت رحلة جمال مع عالم النشر والتأليف، حيث أسس "دار الثقافة للطباعة" التي حملت على عاتقها نشر إبداعات الكتاب والمؤلفين السعوديين محليا، فقامت على سبيل المثال بنشر ديوان "المهرجان" للشاعر طاهر زمخشري، وكتاب "تاريخ مكة" لأحمد السباعي، علاوة على كتاب من تأليفه بعنوان "دليل الحاج المصور" جمع فيه مناسك الحج وأحكامه وأدعيته، علما بأن هذا المؤلف مجرد كتاب واحد ضمن عدة مؤلفات كتبها من أهمها: "من أجل بلدي"، "أخبار مدينة الرسول"، "المرأة بين نظرتين".
ومن بعد رحلة المكتبات وتوزيع الصحف، ورحلة الطباعة والنشر جاءت رحلته مع عالم الصحافة التي بدأت بكتابة المقالات الصحفية، وتطورت إلى حصوله على إمتياز صحيفة "حراء" في عام 1376 للهجرة (1956 م)، علما بأن "حراء" بدأت إسبوعية تطبع في مطابع الإصفهاني بجدة وانتهت يومية تطبع في مطابع دار الثقافة بمكة، وأختفت بعد مدة من دمجها مع صحيفة "الندوة". وحول تجربته مع صحيفة "حراء"، كتب في مذكراته قائلا: "إذا كان الكاتب الكبير مصطفى أمين يقول إنه أصدر عدة صحف بقروش كان يوفرها، فإنني أصدرت جريدة حراء بدون رأسمال، فقد كانت مطابع الأصفهاني تطبعها على الحساب، والإدارة في البيت، والتوزيع في مكتبة الثقافة". ويمكن أن نضيف: كان كتابها من كبار أدباء السعودية من أمثال محمد عمر توفيق، والأمير عبدالله الفيصل، والشيخ محمد سرور الصبان، وأحمد الغزاوي، وأحمد محمد جمال، وعبدالله عريف وغيرهم.
" لكن جمال، قبل دخوله عوالم المكتبات والتوزيع والنشر والطباعة والصحافة، كان رجل بر وإحسان، وقد تجلى ذلك في تأسيسه لأول جمعية بر في السعودية في مطلع الخمسينات الميلادية تحت مسمى "صندوق البر". وقد تحدث عن هذا الدكتور محمد عبده يماني (مصدر سابق) فقال (بتصرف): "إن من ينظر في عمل استاذنا صالح جمال يلاحظ انه قد اعطى الكثير من وقته للضعفاء والمساكين، وكرس جهده للعمل الخيري بأنواعه، من خلال جمعية البر التي حرص على تأسيسها، واهتم في مرحلة من المراحل ببناء العمائر السكنية للأرامل والأطفال حتى بلغ عددها عشر عمائر موزعة على أحياء مكة، كما أنه حرص على تبني وتأسيس مشروع إنساني لمساعدة الشباب على الزواج عبر دعمهم في المهور، ومساعدتهم في ايجاد السكن المناسب وتأثيثه، ناهيك عن أنه قاد عملية توزيع الأرزاق من الجمعية على الأسر الفقيرة، وقدم لبعضها مساعدات نقدية لتعينها على ظروف المعيشة، فاستفادت حوالي 8500 عائلة، وعلاوة على ماسبق قاد مشروع إنشاء مركز لغسيل الكلى، واختار له ساحة مستشفى النور وجعله تحت إشراف المستشفى".
ويمكن أن ندخل ضمن أعمال البر التي قام بها جمال، مقالاته التي كان ينشرها دفاعا عن المظلومين أو قضاء لحوائجهم أو شكوى بإسمهم للمسؤولين حول خلل ما أو قرار إداري متسرع يثقل كاهل المواطن، أو نقص في الخدمات. حيث كثيرا ما وصل صوته إلى أسماع ولاة الأمر والوزراء المعنيين فسارعوا إلى إنصاف المتظلمين أو تشكيل لجان لوضع حلول مناسبة لقضية ما أو الإستجابة الفورية لتوفير الخدمات الحكومية لحي ما.
وفي سيرة الرجل، عدا ما ذكرناه، أنشطة أخرى متنوعة. إذ تدرج في مناصب غرفة تجارة مكة المكرمة إلى أن أنتخب كأمين عام لها لأربع دورات متتالية بدءا من عام 1977، وأشرف وترأس تحرير مجلة الغرفة منذ إصدارها في عام 1965 وحتى وفاته. هذا ناهيك عن عضويته في العديد من الجمعيات والمؤسسات. فقد كان عضواً في الهيئة التأسيسية لجامعة الملك عبدالعزيز، وعضوا في المجلس الأعلى لجامعة أم القرى، وعضوا بمجلس إدارة مصلحة المياه بالمنطقة الغربية، ورئيساً للمجلس البلدي، ورئيساً لجمعية البر بمكة، ورئيساً لمؤسسة مطوفي حجاج الدول العربية.
قراءة الدكتور : عبدالله المدني | أستاذ العلاقات الدولية بممكلة البحرين
نُشر في صحيفة عكاظ بتاريخ : السبت / 21 / رجب / 1439 هـ - 7 أبريل 2018
0 تعليقات