عم ابراهيم الخُضَري.. ودُكانَهُ في الزمن الجميل




عودة إلى مراحل حياتنا الأولى بحارات مكة التي لا تغفلنا الذكرى الوقوف على دكان عم ابراهيم آدم لبيع الخضروات في (منشية سوق البرنو الصغير) بشارع المنصور، أمام بيت الفريق أحمد يغمور مدير الأمن العام 1380هـ.. لا زلت أتذكر ملامح هذا الرجل الكبير بكل تفاصيلها، فهو العم الأنيق الجميل بلباسه المهني المعطر بعبير مسك زمانه وجيله ومهنته.

وكأنني به الآن وهو على كرسيه بمدخل دكانه يستقبل زبائنه خاصة في يوم صائف، وكأنني لم أشبع ناظري من ملاحة صورته إلاّ في هذه اللحظة التي أصفه فيها وصورته ماثلة أمامي.. لحيته البيضاء وجبينه الوضاء وعمامته أيضًا البيضاء من نوع قماش (البالي) هكذا كنا نراه منذ صغرنا.

أصفه ودكانه المتواضعة مستجمعا كل أيقونات ذاكراتي ومسارح مشاهدي، نعم أصفه وقد ولى زمان الصبا بنضره وغضيضه، ولكن اليوم يافع بحضوره وشهوده.

عم إبراهيم ـ كما نناديه ذلك البائع المجتهد الجامع لصور العرض والبيع في دكانه الصغير مع (صبيانه ـ من يعمل معه في الدكان) أتذكر منهم اثنين فقط وحسب وقت التناوب (محمد ويلقّب ـ قسي، وسعد يقال له سعادو)، وكانوا يضجون حركةً ونشاطًا وصوتًا تلبية لزبائنهم الكرام وخدمة لهم داخل الدكان وخارجه.

بينما عم ابراهيم جالس في ركنٍ الدكان مع جيران وزملاء له في الكار وأصدقاء أخيار يتبادلون الأحاديث، أمثال: عبدالمؤمن الجزار، والمعلم صالح آدم شقيق عم إبراهيم، وعم محمد طنطا الجزار في جواره الشمالي، وعم موسى الجزار في جواره الجنوبي، وأبو الشامات، وعبدالجليل اللبان في الجهة الغربية، وعم محمد الخياط، والمعلّم بكر، عم محمد بائع الليمون والحبحب على ناصية السوق بجوار مسجد عم مصطفى، وغيرهم الكثير .. كان يأتي بعضهم منذ الصباح الباكر وإن بعدت المسافات إلى هذه الجلسة والاشراقة الأخوية الصباحية.

وحينما يتجمع الزبائن على واجهة الدكان يقف عم ابراهيم على ساقيه مشرفا على البيع والشراء، يعين (صبيانه) يأخذ ويعطي للزبائن (ويفكّ زحمتهم)، ويرسل هنا وهناك من جميل عباراته وحسن صوته وموسيقى مناداته الإعلانية التي كانت تصاحب هيئته المرحة في استجابة وارضاء زبائنه الجدد(هذا الصباح) والثابتين في كل يوم، وحين تتجدد طلباتهم يرسلها لهم في أوقاتها وبكاملها مع صبيانه تارة وأخرى مع حمّالي الزنابيل في السوق، أو مع الأولاد المُرسَلِين من قبل آباءهم .. من جوار دكانه في قلب الحارة أو من حارة فوق الذين اعتادوا الشراء منه إذ تعودوا على جمّ أخلاقه قبل حزم خضرواته.

وتارة يقف هادئا ليلبّي طلبات (الحريم العجائز) الكريمات ممن لا يجدن مراسلا ولا صبيان، وكان يرسل في تلبية طلباتهن في منتصف الطريق قبل وصولهن إلى دكانه، ووصولا إلى بيوتهن بالمقاضي، وتارة يمتنع من أخذ المال على خضرواته.. بل ويرسل لهم (المقاضي) عن طريق صبيانه إلى بيوتهم ولا يطالبهم بثمنها.. ويتأكد هذا في نهار رمضان المبارك بأكثر مما ذكرت من العطاء والخير والخلق الجميل.

وكذلك كان يفعل بذوي الحاجات الخاصة والعاهات العامة حتى(المجانين)، فهو يؤلّف بين قلوبهم بهذه الخضروات الخضراء : نعناع، ملوخية، بامية، جرجير، كراث، بقدونس سبانخ سلك ولفت وفجل وقثاء و(بدنجان ـ أسود وأحمر)... إلى آخر تلك الخضروات النضرة الطازجة الروائح..

وتكاد خضرواته تلك تغطي طلبات سكان الحارة في اليوم الواحد، وكأنه يعلم ويقدر لكل بيت حجم ومقدار مقاضيه وحاجة أهله اليومية، لهذا هو يساعد ويعين بخضرواته وأخلاقه من ليس في قدرته الذهاب إلى حلقة الخضار الكبيرة أو إلى المنشيات في سوق الصغير أو في القشاشية لشراء الخضروات يوميا.

لم نكن نعرف لعم ابراهيم ساعات طويلة يقضيها في الدكان وإنما هي الأوقات الصباحية والضحوية البيضاء، وحينما ترتفع الشمس يبدأ في إنزال أشرعته على واجهة الدكان .. وحينها تنذر البضاعة كافة الزبائن بقرب نفادها، فتخلو واجهة الدكان شيئا فشيئا من زحمة الزبائن عليه، وحينما تنفد الخضروات من دكانه لا يأتي من يطلبه شيئا، وكأنها هي أيضا تبلّغ الناس عامة بزمان نفادها أو قربه.. إنه توافق القيم والقناعة مع صنائع المعروف مع الناس والباعة.

وفي آناء النفاد هذه ترى صبيان عم إبراهيم يجهزون (تختات) وأخشاب و(خيشات) وأوعية المياه يبلّلون بها الخضروات.. يهيئونها للغد الآتي والتي سيفرش ويعرض عليها حزم الخضروات الجديدة، في صباح يوم جديد.. بعد تنقيتها وغسلها وترتيب حزمها ورشها بالماء.. كما كانوا يبللون واجهة الدكان الترابية للتبريد ولتخفيف الغبار على الدكان الذي كان في جهة الشرق أي لا تدركه ساطعة الشمس.

وتراهم أيضًا بعض صلاة الظهر يتأهبون للذهاب بمقاضيهم وحاجاتهم اليومية التي أعدوها لبيوتهم في زنابيل خاصة بهم، بينما عم إبراهيم لا يزال في الدكان يطايب حصته ونقوده بالحمد والشكر وتطويها راحتاه ويضمها الى جيبه المليء بعواطف ومشاعر العطاء والاسعاد، سعادة الأخذ والتخزين، وإسعاد المشترين والآخذين وقبل ذلك إسعاد أبناءه سليمان ورجب وإخوتهم وبقية أفراد الاسرة.

أما إسعاد (صبيانه) في الدكان، فقد رأيت أحد الاثنين المذكورين وقد تزوج من (حصالة) عم ابراهيم بصفته الأب الروحي له والمهني، وهو لا يزال يذكره بخير، ويرى خيرات حياته الزوجية وغيرها من صنائع عمه الخضري، كما يراه عامة الناس نواة للعمل الذي يكبر وينمو ثم تكون السعادة بالرضا والحمد بحسن السيرة والسلوك والتربية المهنية والأخلاقية والنقاء التجاري.
ومن نتاج تلك التربية التجارية أن تولى صبيه (سعادو) إدارة الدكان عندما تمكنت الشيخوخة من عم إبراهيم وثقل عن الحركة وظل يشرف بوجوده وإرشاده من على كرسيه على مدخل الدكان.

قد يكون وجود عم ابراهيم وأمثاله من ذوي النفس الطيبة والأخلاق الفاضلة في تلك الأسواق في ذلك المجتمع بتلك الصور الاجتماعية والتجارية والإنسانية الجميلة يمثل حاجة الإنسان في الحياة إلى غذاء الروح والجسد معًا. وليس من أغراض السوق الكسب وجمع المال فقط مجردًا من عرض القيم والآداب والأخلاق الفاضلة، والتي منها تلك الصور والعروض الإنسانية والروح التعاونية التي تدني البعيد إلى أُنسها، وتدمج القريب في ميدانها توقفهم جميعًا على بساطها وتمكنهم من تكوين علاقة (العيش والملح) زمانا ومكانا، استعدادا لصروف الليالي وتلوّن الأيام.

ولعل عدم وجود عم إبراهيم ـ رحمه الله ـ وأمثاله من الطيبين المتواضعين في هذه السوق وأمثالها هنا في مكة المكرمة وفي أي مجتمع قد ينذر بعقم اجتماعي ويتركه دون تفعيل تلك القيم النبيلة والأخلاق والآداب الجميلة التي تؤسس وترفع بنية المجتمع في عاداته وتقاليده، في تماسكه وتآخي أبناءه بشتى صوره الأصيلة، تلك الأصالة التي تتفتح زهور أفقها لهم بل حتى للغرباء الظامئين إلى روح التآلف والتعاون لاختراق صعوبات العيش فرادى وجماعات.

إن الأخلاق الفاضلة والمعاملة الحسنة من التاجر في متجره أو البائع في دكانه لهي رأس ماله الحقيقي، كما أنها نتاجه الرابح في سوق العمل الحقيقي (الدنيا)، فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره.

بقلم | عبدالله محمد أبكر | تم النشر في 1439/12/2هـ .