الصهبة.. وآخر عقدها.. قلب الأسد.
قلب الأسد بدأ حياته من حارة المسفلة مسقط رأسه وريعان شبابه وعنفوانه، درج على مواقف الرجولة، درس قليلاً في المدارس، لكنه تعلم كثيراً في بيوت ومجالس الحارة ومقاهيها.
خرج إلى ميادين ومعارك الحياة فكان السابق الأول بالنسبة لأهله من بين إخوانه الأشقاء برغم أنه كان الأصغر إلا أن نجمه كان أغرّ البزوغ.
حينذاك أخذ ينحت في صعود الجبال، ويسري في حنادس الليل ليختبره صاحب (صندقة الجمل) الذي أطلق عليه (قلب الأسد) حينما رأى وثباته ورجولته وتغلبه في عراك ومضاربات مع أقران له في أزقة وساحات الحارة وأمام صندقته في حارة المسفلة.. بقوله: هذا ولد .. هذا قلب الأسد.
وفي غضون إطلال صحبته مع (العم حسن سرديدي) أخذَا معاً يُجلجلان أجراس الشهامة، ويُكّونان صور (اليَعْسَبة) في حارة المسفلة بل حتى زقاق عانقني في حارة الشبيكة يشهد لهما حسن المعانقة الأخوية.
وها هو اليوم يطوي ساحات تلك المعارك وأمسيات تلك المجالس في البيوت والقاهي والميادين كلها في مكة وجدة والطائف، ها هو وقد دبّ إليه الرسول وشدّ على إثره الرحيل.
من مكة.. مقاهي (صالح عبدالحي ومقهى السمبو ومقهى السقيفة) و(بركة ماجل) وشارع البركة وصندقة الجمل وزقاق القبة ومراكيز المسفلة.
ومن جدة.. مقاهي وأزقة المظلوم وبرحات الشام ومراكيز اليمن ونزهات السبيل، من حارة البحر إلى شواطئ البحر.. من سريات الليل مع صحبته وبشكته أمثال: سليمان البرج، أحمدوه الجزار، محمد الأمّني، إبراهيم عسيري، محمد شعيب، محمد سقا، حسن غانم، عبدالهادي صعيدي، أحمد برما، طلعت غيث،صالح عسيري. وغيرهم الكثير..
كثيرة هي صور تلك الأماكن والمواقف والأحداث، مما كان يُدار ويُؤلف خلال تلك الصحبة والتجمعات في المقاهي والمجالس الأدبية والاجتماعية التي برحت وانفرطت عقودها..
لقد طاف به طيف الخيال في النوم واليقظة ثم طائف به الغروب، وخيم الليل على منافذ الدروب. بعد تلاقٍ وتعارف وائتلاف، بعد معارف كان منطلقها مكة التي غدت تنشئ الود والحب بين الإخوان والخلاّن، وبين الأسرة الواحدة في الحارة والواحدة، حتى حصل بسببها تعارف ومصاهرات فتكونت بذلك أسر كريمة.
محمد حبيب بكر ـ اللقب (قلب الأسد) لفتوته وشجاعته، ولد بمكة حارة المسفلة عام 1349هـ وتلقى بداية تعليمه بكتاتيب الحارة ثم عمل في الحجر والطين مع المعلمين الكبار آنذاك، ثم انتقل إلى جدة وعمل بالميناء البحري، إلى أن تقاعد عام 1412هـ وهو من (المغنوجية) الكبار في فن (الصهبة ـ المصري) وأراني أشبهه بـ(بكر جوجي) حادي الغناء في حارة المسفلة في وقته في مقهى السقيفة، انتقل إلى جدة منذ ستين سنة وصحب الكثير من أهالي جدة، مثل عيد مدني، وعبدالهادي صعيدي، وسلميان البرج، وأحمدوه الجزار، محمد الأمّني، ومحمد شعيب وإبراهيم وصالح عسيري، محمد سقا، وغيرهم الكثير رحمهم الله.. وأحسن الختام للبقية.
لقد مات آخر العقد من منظومة الصهبة في مكة وجدة والمدينة، وبهذا أضحى موته ذهاب سفنها الجارية والراسية والحافظة، وأضحى بذلك رثاءً لها ولأهلها الأوفياء في غضون حياتهم المقتضبة من زمن الكرام الأنقياء الأصفياء.
رحم الله عمنا الحبيب الذي علمنا الصهبة وتعلمنا منه الأدب والأصول والخلق الكثير، كيف لا وهو صاحب الخلق الطيب والقلب الحنون والأيدي الكريمة، والرجولة الرجولية التي تتصدى لمواقف كبيرة منها ساحات العصا والمزمار وميادين الفزع التي لا يجابهها إلا قلب الأسد .. وتبقى (الفرجة) والمشاهدة حكاية الجبناء.
رحمه الله تعالى وجعل الجنة مستقره، وبارك في أولاده وذويه.. كانت وفاته صبيحة يوم الخميس 1440/2/16هـ.
بقلم | عبدالله محمد أبكر | تم التشر في 1440/2/18هـ .
0 تعليقات