حسن المشّـاط.. الأستاذ المؤثر
عندما تقرأ في تاريخ حلقات العلم والتدريس في مكة، وبالأخص المسجد الحرام في القرن الهجري المنصرم (الرابع عشر الهجري)، لا بد أن تتوقف عند شخصية علمية شهيرة؛ ألا وهي شخصية العالم المحدث الفقيه المالكي مذهباً حسن بن محمد المشّاط -رحمه الله-، الذي يعد من العلماء ومن أعيان مكة، فكانت له المكانة العلمية والمكانة الاجتماعية.
ولد هذا العالم في مكة عام 1317هـ، ونشأ في بيئة تحب العلم والعلماء، لذلك كانت نشأته صالحة؛ إذ اهتم به والده الشيخ محمد المشّاط -رحمه الله- وهو من طلبة العلم الشرعي على مذهب الإمام مالك.
يقول الشيخ حسن المشّاط عن والده: نشأت أنا الفقير بين أحضان هذا الأب حتى إذا بلغت السن السابعة من العمر أدخلني إلى أحد الكتاتيب المنتشرة في بلد الله الحرام لقراءة القرآن وتجويده مع تعليم الكتابة والإملاء والحساب، ثم انتقل بي إلى المدرسة الصولتية سنة 1329هـ لمواصلة تعليمي بها، وللأخذ عن علمائها المتقنين -انتهى كلام الشيخ حسن المشّاط-، وقد تعلم في الصولتية النحو والصرف والبلاغة والتفسير والفقه وأصوله والحديث، لكن التحصيل الأكثر غزارة للشيخ حسن المشّاط كان على علماء البلد الحرام ومن الوافدين عليها من علماء العالم الإسلامي، يقول العلامة الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان -ختم الله له بالخير- عن شيخه حسن المشّاط عن شغفه بالعلم وملاحقة العلماء والركون إليهم والتزود من العلم في كل مراحل حياته، كان هذا دأبه وديدنه - رحمه الله - شاباً وكهلاً وشيخاً حتى وافاه أجله المحتوم، وهو يقضي يومه قارئاً أو كاتباً أو معلماً أو متعلماً مفيداً أو مستفيداً، فأثمر هذا تأليفات نافعة، أفاد منها الباحثون وطلاب العلم في العالم الإسلامي، ومكتبته الزاخرة بنفائس الكتب ونوادرها كهفه الذي يأوي إليه، والمعين الذي يغترف منه. -انتهى كلام أبو سليمان-.تلقي العلوم
عن المشايخ الذين أخذ عنهم وارتوى حسن المشّاط من علومهم فهم كثير، فقد دون في ثبته المسمى «الثبت الكبير» مشايخه وأساتذته الذين تلقى عنهم العلوم، والذين أجازوا بمروياتهم وعددهم -كما في الثبت- ثلاثة وخمسون شيخاً، بل أجازته الشيخة أمة الله الدهلوية العمرية والشيخة حليمة بنت الشيخ عبدالقادر المشّاط والشيخة أمونة بنت الشيخ عبدالقادر المشّاط، لكن من تأثر بهم الشيخ حسن المشاط وأعجب بعلمهما، ودائماً يذكرهما بالثناء كما يقول تلميذه الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان هما الشيخ عبدالرحمن دهان والشيخ عيسى رواس -رحمهما الله تعالى- وهما من علماء المسجد الحرام اللذين درسا فيه، يقول الشيخ حسن المشّاط: استمعت لكثير من صحيح مسلم على شيخنا عبدالرحمن دهان، وكان درسه تتمثل فيه الخشية ومظهر السلف الصالح، أمّا إعجابه بالشيخ عيسى رواس فهو حديث المعجب كما يقول تلميذه البار الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان، وحديثه عن الشيخ عيسى حديث المعجب به، والمعتز بالدراسة عليه في كل مجلس، حيث كان غاية في التواضع، مثالاً في التربية، قدوة في السلوك، يكاد يكون مدرسه الوحيد في مراحل دراسته الأولى، ولهذا كان عميق التأثير فيه، وكذلك استفاد الشيخ حسن المشّاط من العلامة محمد حبيب الله الشنقيطي، الذي اشتهر عنه أن الدواوين الشعرية القديمة الشعر الجاهلي والإسلامي تصحح من حفظه؛ لأنه مرجع فيها -رحمه الله-.
ولعشقه للعلم والالتقاء بالعلماء سافر الشيخ حسن المشّاط إلى السودان، واجتمع بعلماء السودان، ودارت مذكرات ومناقشات بينه وبينه، ثم زار مصر، وكان همه الأول والأخير اللقاء بالعلماء، وقد قابل بعضهم، ومن أشهرهم الشيخ العلامة محمد الخضر حسين والشيخ مصطفى الحمامي والشيخ أحمد عبدالرحمن الساعاتي صاحب الموسوعة في شرح مسند الإمام أحمد بن حنبل الفتح الرباني، والشيخ محمد بن إبراهيم العربي المصري، الذي «يقال» إنه بلغ من العمر مائة وأربعين عاماً، وألقى عدة محاضرات ودروساً في الجمعيات والجوامع في القاهرة، وزار بيروت، وحصل له لقاء مع الشيخ محمد العربي العزوزي أمين الفتوى بالجمهورية اللبنانية، وزار حلب، وحصل له لقاء مع العالم الشيخ عبدالفتاح أبو غده، والشيخ صالح فرفور، وغيرهما من علماء الشام.
مهمة التدريس
وقام العالم الشيخ حسن المشّاط بالتدريس منذ سن مبكرة في المدرسة الصولتية، وحينما رأى أساتذته نبوغه وقوة حفظه، يقول غفر الله له: في المرحلة الدراسية بالصولتية حتى إذا رأت المدرسة هيأتها أن نلت نصيباً من العلم بما يؤهلني للقيام بمهمة التدريس، أنالتني شهادة بما يشهد لي بالعلم وتدريسه بتاريخ غرة محرم سنة 1336هـ، فلذا أثرت الهيئة الإدارية للمدرسة أن ينضم إلى هيئة التدريس فلبيت رغبتهم -انتهى كلامه-.
وقد درّس كثيرا من التلاميذ من مختلف الجنسيات في هذه المدرسة المباركة الصولتية، وقد تخرج على يديه تلاميذ من شرق آسيا وماليزيا وإندونيسيا، ونشروا تلك العلوم في بلادهم التي أخذوها عنه سواء في الصولتية أو حلقات المسجد الحرام، ومن أشهر هؤلاء التلاميذ العالم الإندونيسي الداعية الشهير الشيخ محمد زين الدين الأمفناني مؤسس نهضة الوطن في إندونيسيا، والشيخ الأمفناني وهو من علماء الفرائض، وله فيها مؤلفات، وقد كان الشيخ المحدث يخصه بمزيد من الاحتفاء والتبجيل والتقدير، وكان الأمفناني باراً بشيخه حسن المشّاط كما يذكر هذا تلميذ المشّاط د.عبدالوهاب أبو سليمان في ترجمته النفيسة لشيخه، ومن تلاميذ الشيخ حسن المشّاط مسند العصر المشهور الشيخ ياسين الفاداني، ولو لم يكن للشيخ -رحمه الله- إلاّ هذا التلميذ المسند الفاداني العالم بالأسانيد لكفاه، ومن تلاميذ الشيخ حسن المشّاط العالم المؤرخ د.عبدالوهاب أبو سليمان الذي حرر ترجمته لشيخه المشّاط في هذا الثبت الكبير، ومنها استفدت كثيراً في كتابة هذا التقرير، ومن تلاميذه كذلك الشيخ الفقيه عبدالفتاح رواه المكي المدرس بالحرم المكي، ومن تلامذته الشيخ د.عبدالملك بن دهيش -رحمه الله- الذي يقول في مقدمة هذا الثبت الكبير: فقد كنت أحضر حلقة الدروس العلمية التي كان يعقدها والدي العلامة الشيخ عبدالله بن دهيش -رحمه لله- بالمسجد الحرام، وعقب الانتهاء من درسه كان يحثني على حضور حلقة الشيخ حسن المشّاط لما عرف من علمه وفضله وورعه وزهده، وكانت حلقته خلف حجر إسماعيل في الحرم القديم مما يلي باب الزيادة، وكان الوالد يسألني عقب انتهاء الدرس ويناقشني في المسائل والأحكام التي تناولها ذاك المجلس وللشيخ المشّاط تلاميذ كثر قد يبلغون المئات.
حب الإفادة
وقال يوسف المرعشلي في ترجمته للشيخ حسن المشّاط، وبعد أن أذن له مشايخه في التدريس، شرع بالحرم المكي وفي الصولتية، ولما كان يتمتع بالحذاقة والعرفان وحب الإفادة لجميع طلابه، هرع إلى الأخذ عنه والتلمذة بين يديه كثير من الطلبة صغارهم وكبارهم، كان حسن التقرير، يسهل على الطلبة ويشرح لهم ما أشكل عليهم بعبارة سلسلة، وأحياناً يذهب بعضهم إلى منزله للقراءة عليه، وقد استفاد منه المئات، والكلام لا يزال للأستاذ المرعشلي، ولا يمكن حصر طلابه؛ حيث استمر في التدريس أكثر من نصف قرن، فرأى تلاميذه يدرسون في الحرم وكذا تلاميذهم، وهو يدرس في الوقت نفسه لآخرين، فعليه تخرج ثلاث طبقات من العلماء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء -انتهى من كتاب «نثر الجواهر والدرر» من علماء القرن الرابع عشر للمرعشلي-، ويقول المؤرخ علي جواد الطاهر في كتابه «معجم المطبوعات العربية الجزء الأول» عن الشيخ حسن المشّاط: من كبار علماء ومدرسي المسجد الحرام وأجل شخصيات مكة وأحد قدماء خريجي المدرسة الصولتية.
وظائف المشّاط
وتولى الشيخ حسن المشّاط -رحمه الله- التدريس في المدرسة الصولتية؛ حيث عُيِّن فيها مدرساً عام 1345هـ حتى سنة 1375هـ وفي عام 1361هـ صدر الأمر الملكي بتعيينه عضواً في هيئة التمييز حتى عام 1364هـ، وفي عام 1365هـ عُيِّن وكيلاً عن رئيس المحكمة الشرعية الكبرى، وكان -رحمه الله- لا يحب أن يرتبط بالوظائف؛ لأن معشوقه الأول هو التدريس وإفادة الطلبة والتلاميذ والناس، والوظيفة تشغله عن هذا الشيء الرئيس في حياته، فكان من الزهاد الذين جعلوا الدنيا خلفهم، ومع أنه عُيِّن في هذه الوظائف إلاّ أنه لم ينقطع عن التدريس في الصولتية.
وفي عام 1372هـ عُيِّن عضواً في مجلس الشورى، وقد فرح بهذه الوظيفة؛ لأنها كانت خلاصاً ونجاة من القضاء، لكنه بعد مدة وجيزة أعيد إلى القضاء وعين معاوناً لرئيسي المحكمة الشرعية الكبرى، وفي عام 1375هـ، قدم استقالته من القضاء فقُبلت ومن ذلك التاريخ حتى وفاته وهو يشغل نفسه بالتدريس في الصولتية وفي المسجد الحرام.
مؤلفات وكتب
وسرد المؤرخ والأديب العراقي علي جواد الطاهر -رحمه الله- في موسوعته معجم المطبوعات العربية مؤلفات الشيخ المحدث حسن المشّاط، وتتميز كتابة الطاهر هذه بأنه كتبها ولا يزال الشيخ المشّاط على قيد الحياة، وهذا ظاهر من كلام الطاهر، وكذلك سرد مؤلفاته العالم الأصولي تلميذ المشاط عبدالوهاب أبو سليمان وهي كما يلي: «الجواهر الثمينة في أدلة عالم المدينة»، «في علم أصول الفقه»، و»إنارة الدُجى في مغازي خير الورى»، و»التقريرات السنية في حل ألفاظ المنظومة البيقونية» طبعت عشرات المرات في مكة وبلاد الملايو وهو شرح موجز ولطيف، ويذكر د.أبو سليمان أنها طبعت (11) مرة، وكذلك «التحفة السنية في أحوال الورثة الأربعينية» طبعت عام 1344هـ، وانتشرت هذه الرسالة وهي مقدمة في علم الفرائض للمبتدئ، وشرحها تلامذته فيما بعد، وكتاب «رفع الأستار عن محيا مخدرات طلعة الأنوار في علم آثار النبي المختار»، ألَّفه عام 1349هـ، وطبع الكتاب ست مرات وهو شرح لمنظومة طلعة الأنوار، إضافةً إلى «أربعون حديثاً من أبواب شتى في الترغيب والترهيب» ألَّفه عام 1397هـ، وهذا الكتاب كما يقول تلميذه د.أبو سليمان آخر كتاب ألَّفه، و»بغية المسترشدين بترجمة الأئمة المجتهدين رضي الله عنهم»، ألَّفه عام 1383هـ وطبع في إندونيسيا، وكتب مقدمة نافعة أصولية في الاجتهاد في هذا الكتاب، ومن الذي يسوغ له الاجتهاد، ومن الذي يجوز له التقليد، وله فتاوى وتعليقات كثيرة على الكتب التي يدرسها ودراسات متنوعة من فقه الواقع.
دراسات دقيقة
والشيخ حسن المشّاط كان من العلماء المحققين الذين لهم ميدان واسع في الفقه المقرون بالأدلة النقلية والعقلية، وهو من علماء الأصول، لذلك كانت بحوثه ودراساته دقيقة ومفيدة ومثمرة، وكان لها القبول في مكة وشرق آسيا، خاصةً الذين يدرسون المذهب المالكي، فهو من علماء المذهب المالكي، وقد حقق كتابه الثمين القيِّم والنافع «الثبت الكبير في مشيخة وأسانيد وإجازات العلامة الشيخ حسن المشّاط المكي» الشيخ محمد بن عبدالكريم بن عبيد المكي، وهو من تلاميذ الشيخ المشّاط، فكان من وفائه لشيخه أن نشر هذا الكتاب، وأعدّ دراسة مفيدة عن هذا الثبت مع ترجمة الشيخ د.عبدالوهاب أبو سليمان للشيخ المشّاط، وتعليقات وهوامش الشيخ المحقق تلميذ المشّاط وهو زكريا بيلا، وأعد ابن عبيد ملاحق تتضمن نماذج مما أثبته الشيخ حسن المشّاط على بعض كتب الحديث النبوي إبان الشروع في قراءتها وتواريخ الانتهاء منها وأسماء القراء وأماكن القراءة، وقد كتب المقدمة لهذا التثبت في طبعته الأولى الشيخ عبدالملك بن دهيش، وفي الطبعة الثانية كتب مقدمة أخرى الأستاذ محمد بن عبدالملك بن دهيش، فجزى الله هذا التلميذ البار على هذا النشر والاعتناء بهذا الأثر النفيس للشيخ المشّاط، ومنه استفدت عن حياته.
يُذكر أن المحدث الأصولي الشيخ حسن المشّاط -رحمه الله- قد درس الكتب الستة دراسة تحقيق وتدقيق سنداً ومتناً، ودرس أصول الفقه، فالتدريس في حياة الشيخ حسن المشّاط هو جنته وعالمه الذي لا يمل منه، بل إن إفادة الطلبة والعامة هي سعادته ولذته حتى في مرضه الأخير، وهو مرض الموت، كان حديث عن العلم والكتب فرحمة الله عليه، وقد توفي عام 1399هـ يوم الأربعاء في السابع من شوال.
المصدر : جريدة الرياض 1440/5/12هـ | اعداد : صلاح الزامل
0 تعليقات