قصة بناء الكعبة عام 1039هـ ( 1 )

في يوم الأربعاء 19 شعبان 1039هـ تشكلت سحابة على مكة و ضواحيها ، و ظلت تتكاثر و تتكاثف حتى الزوال ، فأرعدت السماء ، و أبرق السحاب ، و انـهمر المطر بغزارة لا يعرف مثلها في كل تاريخ مكة ، و كان ابتداء المطر في الساعه الثانيه من اليوم المذكور ، و كانت ساعه عطارد و النهار يومها اثنا عشره ساعة و درجتين ، و الشمس في (برج الحمل) و (منزلة الرشا) في الدرجة الأولى منها ، و القمر في (برج الميزان) في (منزلة العوا) ، و مازال المطر يقل و يكثر إلى قبيل العصر فاشتد ، و كانت قوة السيل بين صلاتي الظهر و العصر في (ساعتي المشتري و المريخ) ، و نزل مع المطر برد كثير لدرجة أنه كسا الأرض بالبياض

و ملأها كما قال الشاعر :
كأنَّ صُغرى و كُبرى من سواقطها     حصباء در على أرضٍ من الشِّيح

و كان البرد مختلف الحجم و الكثافة ، وجده البعض مالحاً ، و وجده غيرهم عذباً بارداً ، و قيل أن كل شخصٍ يجد طعمه مختلفاً باختلاف الأشخاص ، و ذكر البعض تَحَوُّلَ لونه إلى اللون الأحمر كالدم ، و سالت الأودية و الشعاب ، و ارتفع مستوى السيل حتى تجاوز ارتفاع سد الأبطح ، و أحدث فيه فتحةً   وجاء السيل جارفاً كل ما قدر على جرفه من بشر و دواب و أمتعة و تراب و حجارة ، و دخل البيوت ، و أخرج منها الأمتعة و تـهدَّمت بيوتٌ كثيرة ، و دخل السيل إلى المسجد الحرام ، و ارتفع حتى بلغ طوق القناديل ، و دخل الكعبة المعظمة من بابـها ، و ارتفع إلى طرازها ، و بلغ نصف جدارها من الداخل ، و ارتفعت المياه قدر ذراعين من فتحة مفتاح (باب المعلا) ، و مات كثير من أبناء الكُتَّاب الذين يحفظون القرآن بالمسجد الحرام ، و حاول البعض أن يصعد ويتمسك بالسلاسل لينجو من الماء فما عصمه ذلك من الماء ، و امتلأ المسجد الحرام بالطين و الحجارة و النفايات و بلغ ارتفاعه قدر قامة الإنسان ، و تعطلت صلاة الجماعة بالمسجد الحرام مغرب و عشاء ذلك اليوم و فجر و ظهر اليوم التالي  ، و أصبحت مياه بئر زمزم شديدة الملوحة متغيرة الطعم

و كان يوماً عصيباً لم ير أهل  البلد الحرام مثله قط ، و مات خلقٌ كثير ، و اختلفوا في العدد فقيل 500 شخص ، و قيل بل 1000 شخص ، و باتت مكة المكرمة ليلتها و الماء قد أغرق المسجد الحرام ، و ظل إلى اليوم الثاني ، الذي كان هو أيضاً يوماً عصيباً ، ليس فقط على أهل مكة المكرمة و حسب ، بل على العالمين أجمع ، حدثٌ تزلزلت منه النفوس ،  و طاشت منه العقول .

في صباح يوم الخميس 20 شعبان 1039هـ ،  و بعد يومٍ صعب و ليله عصيبه ،  نزل شريف مكة و أميرها الشريف مسعود  إلى الحرم المكي الشريف ،  و أمر بفتح سراديب مجاري تصريف المسجد الحرام الموجود عند باب ابراهيم ،  و فتحت بحضوره ،  فخرج ماء كثير إلى جهه المسفله ،  و خلفت الحجاره و الاوحال ، وكان بعضها مرتفعا قدر قامه الرجل ، و عاد الشريف إلى بيته بأجياد ، و مضى ذلك اليوم حتى جاء وقت العصر ، و الناس منشغلون بمعالجه آثار السيل ، و قبل المغرب اذا بالبيت الحرام ينهار جداره الشمالي الذي في ناحيه حجر اسماعيل بوجهيه اخذاً معه الجدار الشرقي الذي فيه الباب انهار حتى وصل الانهيار الى الباب ، كما انهار حوالي سدس الجدار الغربي الذي فيه المستجار ، وقال (الشلي) أن ثلاثة أرباعه سقط و ليس سدسه فقط ، كما انهار الدرج الداخلي الموصل لسقف الكعبة ، وكان الحدث زلزلاً انصدع له قلوب الكثيرين ، فبيت الله ينهار و يتهدم ، فاستولى على اهل مكه فزع شديد ، هم لم يفيقوا من اهوال ما صنعه السيل حتى انصدعت قلوبهم بانهدام بيت الله الحرام ، و مات بعضهم من شده الفزع ، و ظن بعضهم أن ذلك من علامات يوم القيامه ، و هاموا على وجوههم ، حتى ان ايوب صبري باشا يقول : (و لم يعرفوا ماذا حدث لهم ، حتى تاه الابناء عن الآباء و الأمهات ، و شغل الآباء و الأمهات عن أولادهم ، و لم يسأل أحدهم عن الآخر) ، خصوصاً أن هنالك حديثٌ قدسي يرويه سيدنا علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه حيث يروي أن الله تبارك و تعالى قال : (إذا أردت أن أخرب الدنيا بدأت ببيتي فخربته ثم أخرب الدنيا على أثره) . وحديث آخر مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : (استمتعوا من هذا البيت فإنه يُـهدم مرتين ويرفع في الثالثة) .

و ذكر البعض أن بقاء البيت العتيق قرابة الألف عام آية من آيات الله لأن البناء المربع مع كل الظروف الجوية يكون عمره الإفتراضي ثمانون عاماً فحسب ، فسبحان من له الدوام .
و أرَّخ لهذا السيل فضل بن عبد الله الطبري قائلا :
سُئِلتُ عن سيلٍ أتى متى أتى ؟ قُلت لهم :        و البيت منه قد سقط مجيئه كان (غلــــــــــــــــــــــــــط)

و له أيضاً تأريخ آخر يقول فيه :
رقى إلى مصراع بيت الله        و تتمة المصراع حين هجم

و قال الأديب محمد بن الخليل الأحسائي :
مِن بَعدِ إخراج تركٍ للبيت هَدَّت سيــــــــــــولٌ        و قتــــل مــــــــن ملكتـــــــــه تاريـــــــــــــــــــخ ذا دخلتـــــــــــــــــه

و وصل الخبر الى الشريف مسعود فنزل بنفسه و معه مجموعه من الاشراف و امر بالتنظيف و فرز الحجارة و رفع الميزاب و رفع ما وجد من القناديل الخاصه بالكعبه وكانت عشرين قنديلاً ذهبياً احدها مرصع باللؤلؤ وغيره من المعادن النفيسة ، و ثلاثين قنديلاً فضياً ، و بقية معاليق الكعبة النحاسية أو الحديدية أو المركب منهما و من غيرهما ، و تم تعليق باقي أخشاب سقف الكعبة حفاظاً عليه من السقوط . و كان سادن الكعبه المشرفة يومئذ مولانا الشيخ / جمال الدين محمد بن ابي القاسم بن ابي السعود بن فخر الدين ابي بكر بن جمال الدين محمد بن ابي حفص سراج الدين عمر بن ابي راجح جمال الدين محمد بن ابي الحسن نور الدين علي بن ابي راجح جمال الدين محمد بن ابي غانم ادريس بن غانم بن مفرج بن محمد بن يحيى بن عبيده بن حمزه بن بركات بن شيبه بن عبد الله بن عبد بن شعيب بن جبير بن شيبه بن عثمان بن عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي الشيبي القرشي العبدري الحجبي المكي من آل ابي راجح من آل غانم من آل مفرج  ، و كان يومها مريضاً مرضاً يقيد حركته فأمر وكيله و لعله كان ولده عبدالواحد وقيل كَلَّف أحد خدام الكعبة ، و قيل بل كَلَّفَ أحد خدامه بالقيام بالعمل ، فدخل و معه مجموعة ليقوموا بالعمل ، و تم ضبط الموجودات بمحضر الشريف مسعود ، و وضعت في صندوق وحمل الى منزل السادن بالصفا ، و وضع في مخزن ، و ختم عليه بختم الشريف و كان كل ذلك قبل غروب الشمس . و انتهت أحداث هذا اليوم العصيب و غداً يوم آخر ننظر بإذن الله ماذا حصل فيه من أحداث .