ما حُفظ لنا من آثار رحلة ابن مُلَيْح
لم تخل سنةٌ من رحّالةٍ يقطع الأرض من مغاربها إلى مشارقها، يقصد بيت الله المعظّم وقبر رسوله المكرَّم ﷺ ، ومن أعجب العجب أن تُدرس أخبار هؤلاء الرحالة، وتُمحى آثارهم إلا من قطعةٍ توثِّق رحلاتهم الأثيرة، وتحفظ اختلاجاتهم في رحلة الأشواق، رحلة الحج، ورحّالتنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبدالعزيز القيسيُّ الشهير بالسرّاج، والملقب بابن مُلَيْح، أحد الذين لا نعرف عنهم شيئًا! ولم يصلنا من آثارهم سوى ما حفظته لنا أكفُّ العناية الإلهية، إذ لم يبلغنا من آثاره سوى هذه الرحلة التي استمرّت لعامين ونصف وستة أيام في من العام ١٠٤٠هـ، ولعل هذا من بركة الحج، وصدق نيّته، وعلامة قبول حجّته بإذن الله. وعن باعثه لهذه الرحلة الشاقة، والتجرِبة الحاقَّة، يقول:
”لمّا ثار في قلبي الغرام لبلد الله الحرام، وهاجَ علي الشوقُ الساكن لأفضل البقاع والأماكن، كيف لا يهيج غرامي، ويثور هيامي لبلدٍ سمّاه الله البلدَ الأمين؟! وأوجبَ حجه على جميع المسلمين؟! فلمّا زعزعتني رياح الاشتياق، وطار القلب بأجنحة الأشواق إلى مشاهدة تلك الآفاق، ومنَّ الله عليَّ بالمسير، على مراكب التيسير، إلى ذلك الجناب الخطير، وساعدت المقادير في الموارد والمصادر، محفوفًا في الذهاب والإياب بسياج الكرامة، ومكتوفًا بسرادق العافية والسلامة، صرفتُ همّتي إلى ضبط رحلتي ونقلتي، وذكر مباديها ومنتهاها..“
فانظر إلى الشوق كيف يحدو أرواح العاشقين إلى حجِّ بيته الأمين، بنفوسٍ ملأى باليقين. وعن مشهد الدخول لأرض القَبول، مكة المكرمة، يصف ابن مُليح اللحظة بقلمٍ مليح عذب :
”ثم دخلنا مكة شرّفها الله يوم الجمعة السابع من ذي الحجة في السنة المذكورة.. فكان دخولنا إليها من كداء -الثنيّة بأعلاها- والأصوات تصافح المسامع بالتلبية، والألسنة تضجُّ بالرغبات والأدعية، فلو رأيتهم -نفعنا الله بهم- حين طبقوا الآفاق بالتلبية والتكبير، وتمجيد العلي الكبير، واستعلوا تلك الربى الفاضلة، ربوةً ربوةً، وسعوا بأفضل مسعًى بين الصفا والمروة، طافوا للقدوم بالبيت الكريم، ووقفوا بالمحصَّب العظيم، دخلوا الحِجْرَ ابتغاء الفضل الأعود، واستلموا الحجر الأبيض المسمَّى بالأسود، فياله يومًا طرز به العمر، وانشرح به الصدر، وُضِع فيه الوزر، وأُجزل الثواب والأجر.. فأعظِم بحرمٍ حرَمُه! وأعظِم بكافورٍ صباحُه! وبخلوقٍ رواحه، وعنبرٍ ليله، ومِسكٍ سحره.. وحين حمدنا السرى، ووصلنا أم القرى، وعلمنا أننا أضياف الله فظفرنا منه بحسن القرى“
ويصف الكعبة إذ بدت لهم: ”وتبدّت لنا الكعبة الغرّاء في أستارها، وتجلّت لنا المليحة بأنوارها.. فسبحان من شرّف الكعبة البيت الحرام، بالإجلال والإعظام، واصطفاها وجعل حماها مباحًا رحبًا لمن حام حول حماها“
وعن الحالة التي تعتريه إذا نظر إلى الكعبة يقول:“ فحيثُ وقع نظري عليها، أدركتني العَبْرَة، وسرتُ أقطع الزَّفْرَة“ وهذه حالُ كل مشتاقٍ لأرض الجلال والمهابة.. جعلنا الله من المعظّمين لبيته، ورزقنا القدرة على النظر بعيون جديدة لأرض القداسة مكة.
المصدر : موقع الحج
0 تعليقات