التاريخ المكي المصور يبعث من جديد

لطالما استحقت مكة المكرمة تاج العراقة والأصالة العربية والإسلامية، وتربعت على عرش المدائن بتشريف إلهي «ولتنذر أم القرى وما حولها»، فهي محبوبة كل مؤمن، وتاج فخار كل محب وعاشق، موئل الرحمات ومستقر البركات، ولذا هي دائما موضع احتفاء محبيها، ولا سيما أهلها، متمثلين بقول الشاعر المكي عثمان الراضي:

فأنا ابنها من أهلها ورضيعها
من ثديها وربيبها في حجرها

إن أهل مكة شديدو الحنين إلى مرابع طفولتهم في حاراتها، يوغلون في استحضار معالمها العتيقة التي ألفوها، أزقة حميمة كانت لهم وجاء من شمسها القاسية، وجبال عتيقة كانت، ولا تزال القليلة الباقية منها، تمثل مكونا أصيلا لهوية البقعة المقدسة، وتلك الشعاب القديمة التي احتضنت أحداثا غيرت وجه التاريخ، والبطاح التي وطأتها بتواضع وخشوع خيول المؤمنين يوم الفتح الأكبر.

وها قد درست تلك الأماكن بفعل التوسعات ومشاريع التطوير المتعاقبة حتى تجدد في وعي المكيين قول مضاض بن عمرو:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر

ثم إن الأجيال القادمة بحاجة إلى ما يشفي صدورها من سيرة مكة الأولى، وعبق تاريخها المضيء، وتراث أهلها الأكرمين. فها هو الدكتور معراج مرزا، ابن أجياد (السد) «عاصمة مكة منذ عهد تبع» كما يحلو له أن يصفها، ابنها البار، والعاشق المتيم بأماكنها، العارف المتمكن بجغرافيتها، الجامع الشغوف لموادها التاريخية المصورة يعود بإصدار آخر يثري فيه المكتبة التاريخية المكية.

«الأطلس المصور لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة الرقمي»، وهو كما أشار مرزا «عمل توثيقي لا استعراضي» شاركه في إعداده الدكتور عبدالله شاووش وابنه محمد معراج مرزا. ويضيف «لقد ظهر في الفترة الأخيرة عدد من الأطالس والألبومات الخاصة بمكة المكرمة أو الحرمين الشريفين أو التي تغطي جميع أنحاء المملكة، لكنها لا تهتم بتفاصيل الصور القديمة وربطها بالموقع الجغرافي وبالتاريخ، فلم تشرح المواقع ولا تشير إلى المعالم إلا بشكل مجمل.

وبفضل الله تيسر لنا سد هذه الثغرة على قدر كبير من الدقة وتم شرح الصور والرسومات وربطها بوقائع التاريخ المكتوب».

يتناول هذا الإصدار المهم مجموعة هائلة من الصور والرسوم لمكة المكرمة منذ القرن السادس وحتى القرن الخامس عشر الهجري، والتي تمثلت في رسوم وضعها الرحالة المسلمون وغيرهم من الغرب المستشرقين قديما، واشتمل على طائفة من الصور الفوتوجرافية النادرة منذ مبتدأها في عام 1297هـ (1880م) حتى اليوم.

تجدر الإشارة إلى أنه ليس الأطلس الأول للمؤلفين، غير أن السمات البارزة في هذا الإصدار كونه ينطوي على ما يربو عن مئة صورة نادرة إضافية. والسمة الجديدة الجوهرية فيه كانت في تبني تقنية رمز الاستجابة السريع أو «الرمز الرقمي المربع» والذي يعرف بـ (Quick Response Code – QR) والجميل في هذه التقنية أنها لا ترشدنا إلى مواقع الأماكن التاريخية في مكة فحسب، بل تأخذنا أيضا إلى مواقع حفظ الرسومات والخرائط والمجموعات المصورة في متاحف وأرشيفات ومكتبات العالم على الخريطة الجوية باستخدام برامج متخصصة ومتوفرة على App Store ومتجر Android تعمل على مسح الكود الخاص بالمادة المصورة فيحدد موقعها على الخريطة.

تناول المؤلف ورفاقه تلك المواد النادرة بمنهجية علمية دقيقة تعمل على تحليل الصورة على أساس كونها وثيقة تاريخية متفردة، والعمل على استنطاقها واستقراء تفاصيلها، ثم ربطها بأدبيات التاريخ المصور بحس الباحث النابه وبنفس ابن مكة العارف والمحب. فتلك الأماكن والمعالم التاريخية لم ينج اليوم إلا ذكراها وما ارتسم في خيالات المكيين وعلق في قلوب المحبين.

يقول مرزا في معرض حديثه عن منهجية استنطاق الصور التاريخية «كنا وخلال سنوات مضت أنا وزميلي د.عبدالله شاووش نعقد جلسات عمل في محاولة لاستقراء الصور التاريخية وتعيين الأماكن عليها، فكنا نمضي نهارا كاملا في تحليل صورة واحدة واستنطاق التفاصيل من خلالها، إذ إن تاريخ الأماكن على الصور لا يستند غالبا على مصادر ثابتة».
أخرج الكتاب على ورق صقيل عالي الجودة يقع في 350 صفحة من القطع الكبير، ويضم بين دفتيه مئات الرسوم والصور التاريخية عملا بطريقة «Chronological Order» أو التصنيف الزمني للمحتوى العلمي. ومن أبرز تلك المواد التاريخية أقدم رسم معروف للمسجد الحرام يعود للقرن السادس الهجري على لوح من المرمر يظهر المسجد الحرام والكعبة المشرفة وبعض المعالم الأخرى.

وفي قسم الصور الفوتوجرافية هنالك مجموعة من أوائل الصور الفوتوجرافية لمكة أمثال مجموعة العقيد محمد صادق والبعثة العثمانية، ثم مجموعة المصور المكي الأول السيد عبدالغفار بغدادي، ومنها أيضا صورة نادرة لافتتاح الملك عبدالعزيز لدار الأيتام بأجياد، وأخرى تؤرخ لركب الحج النجدي بجوار المسجد الحرام وقد حققها الملك سلمان بن عبدالعزيز بنفسه حينما اطلع عليها بصحبة معراج وأشار حينها أنها تظهر عمه الأمير محمد بن عبدالرحمن في حجته التي توفي بعدها وعرفت بسنة الرحمة.

وضم الكتاب أيضا صورا نادرة لاحتفالات أهالي حارات مكة عام 1916.

لم يتوقف الدكتور معراج منتشيا بهذا الإصدار المهم، لكنه، كما هو دأبه دائما، سرعان ما انغمس في بحثه الكبير، الذي أعلنت عنه «مكة» سابقا، وهو التحقيق الأهم لعمدة كتب التاريخ المكي «أخبار مكة للأزرقي»، إذ عكف على تحقيقه على 21 مخطوطة، مطبقا أكثر من ألف موقع مكي ورد في الأزرقي على الخرائط الحديثة، استعان فيها بتقنيات متطورة لتحديد المواقع وبخبرته في تعيينها، هذا وسينشر هذا السفر النفيس لاحقا خلال هذا العام بإذن الله.


المصدر : صحيفة مكة | الأربعاء 12 ربيع الثاني 1438 هـ | سلطان الطس .