محمد حسن فقي .. الشاعر الإنسان
قليلون هم الرجال الذين يتركون بصماتهم على وجه الحياة ابداعًا وآثارًا تتذكرها الاجيال، رجال حفروا في الصخر وقاوموا المستحيل من أجل أن يكونوا ضمن هؤلاء الرجال.
ويعد محمد حسن فقي من أكبر شعراء المملكة العربية السعودية قامة وحجمًا وإنتاجًا وتأثيرًا في معاصريه من الشعراء، ومن أهم شعراء عصر النهضة في منطقة الخليج العربي، وتميز شعره بالرقة والعذوبة والسلاسة.
نشأته وحياته:
ولد الشاعر محمد حسن بن محمد حسين الفقي بمدينة مكة المكرمة في 27 ذي القعدة عام 1331 هـ، الموافق 1914م. تلقى علومه بمدرستي الفلاح بمكة المكرمة وجدة، وتخرج من مدرسة الفلاح بمكة المكرمة. وثقف نفسه بنفسه ووسع معارفه بالاطلاع على شتى كتب الأدب القديمة والحديثة، وكتب التاريخ والفلسفة، وغيرها. ودخل عالم الأدب من باب الهواية، وبدأ نظم الشعر وكتابة المقال الأدبي وهو في سن الـ 12، وكانت أول قصيدة نشرت له بعنوان: (فلسفة الطيور) في مجلة (الحرمين) القاهرية التي كان يرأس تحريرها آنذاك فؤاد شاكر الذي نشرها له ومنها بدأت الانطلاقة.
أعماله:
عمل محمد حسن فقي أستاذًا للأدب العربي والخط بضعة أشهر بمدرسة الفلاح. وساهم في تحرير جريدة صوت الحجاز، ثم جريدة البلاد، وكان أول مدير عام لمؤسسة البلاد الصحفية. ثم عين رئيسًا لتحرير جريدة (صوت الحجاز) ثم صدر أمر معالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ وزير التعليم العالي رحمه الله بتعيين الأستاذ الفقي مستشارًا للمجلة العربية، ثم انتقل للعمل بوزارة المالية والاقتصاد الوطني، ثم عين مديرًا عامًا بها، وبناء على رغبة سامية من الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله تم تعيينه سفيرًا للمملكة في إندونيسيا وحضر مع الملك فيصل بن عبدالعزيز المؤتمر الإسلامي في «باندونج». ثم عاد إلى المملكة وأمره الملك فيصل بن عبدالعزيز بتأسيس ديوان المراقبة العامة، ثم استقال من هذا المنصب لأسباب صحية. وعيّن بعد هذا المشوار الحافل بالعمل رئيسًا لمجلس إدارة البنك الزراعي.
مصادر المعرفة:
وكانت مصادر المعرفة لديه متنوعة بتنوع وتعدد من يقرأ لهم مثل طه حسين والعقاد والمازني وأحمد أمين والرافعي وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة والزهاوي والرصافي والجواهري والأخطل الصغير وبدوي الجبل، كما قرأ أمهات الكتب في التاريخ والفلسفة وما إليها من شتى المعارف والعلوم والفنون عربية ومترجمة.
كابد "فقي" العديد من الصعاب والعقبات، ولعل أول ما كابده هو وفاة والدته رحمها الله وهو في سن 7 أشهر فقط، حيث تولت المرضعات والمربيات تربيته، وفي الوقت الذي فرح فيه بتخرجه في مدرسة الفلاح انتقل والده رحمه الله الى الدار الآخرة.. ويقول شاعرنا الكبير إن الهواية وحدها هي التي قادته في عالم الأدب والفكر، وكان السبب في ذلك يعود إلى والده رحمه الله كما يقول شاعرنا حيث كان يشجعه على القراءة والاطلاع وتثقيف نفسه، وكان يبذل له المال اللازم لشراء الكتب الأدبية والدواوين الشعرية ومختلف مصادر الثقافة.
شعره:
نظم محمد حسن فقي القصائد الطوال، وبثَّ في أوصالها فلسفته وحكمته وألمه وتشاؤمه وإحباطه، كما نظمَ «الرُّباعيَّات»، وسواء قرأتَ له مطوَّلة أو قرأت له رباعيَّة، فلا بد أنك ستقف في هذه وتلك على شاعر جرب الحياة وخبرها، ولما كان له ذلك، صاغ تلك التجربة شعرًا، فهو شاعر قاده الشعر والفلسفة معًا إلى معنى «التَّسامح»، فكان، بذلك، شاعرًا «إنسانيًّا»، سخَّر «موهبته» للكتابة عن الإنسان، مهما كان دينه أو عرقه أو لونه أو ثقافته، فكان شعره مشابِهًا كبار الشُّعراء الإنسانيِّين في الأدب العربي، كأبي العلاء المعرِّي، وابن عربيّ المتصوِّف، فاتَّسع قلبه لكل الناس، وما ضاق بأحد، وكان صوته الشِّعري مختلفًا عن سواه مِنَ الشعراء السعوديين.
وكما كان شعره يشع فلسفة وتنطق كلماته حكمة، كانت لا تخلو أشعاره من رومانسية طاغية، ذكرها د. عبدالعزيز الربيع في تقديمه لديوان الشاعر: (قدر ورجل): «تألق الفقي الرومانتيكي كمذهب أدبي شعري في الديوان، وهو مذهب يمثل تيارًا شعريًا عالميًا في أدب الحياة الحديثة في الفكر والأدب والثقافة الشعرية – إن صح التعبير – التزم به شاعرنا في نظم الشعر وقوله. ولا يستغرب فهو من المتمسكين جيدًا في هذا الأدب والشعر منه بالذات، إذ أنه الذي يربط المتلقي بالشاعر لا لشعره فحسب وإنما للروح التي فيه».
شَجانا مِنْكِ يا مَكَّةُ ما يُشْجى المُحِبِّينا!
فقد كُنْتِ لنا الدُّنيا كما كنْتِ لنا الدِّينا!
وكنْتِ المَرْبَعَ الشَّامخَ يُرْشِدُنَا ويَهْدِينا!
وكنْتِ الدَّارةَ الشَّـمَّاءَ تُكْرِمُنا وتُؤْوِينا!
وكنْتِ الرَّوضَةَ الـغَـنَّاء تُلْهِمُنا وتُعْلِينَا!
فما أَغْــلاكِ يا مـكَّــةُ أَنْجـَبْتِ المَيامِينا!
وما أَحْلاكِ يا مكَّـةُ ما أحـلا القرابينا!
نُقَـدِّمُها لِمجْـدِ الله يُـسْعِدُنا ويُدْنـيـنـا!
***
الرباعيات في أدب الفقي:
ويعد الشاعر محمد حسن فقي - رحمه االله - من الشعراء الذين ذاعت شهرتهم في كتابة الرباعيات بين المعاصرين من الشعراء العرب على وجه العموم، والشعراء الـسعوديين على وجه الخصوص؛ نظرًا لغزارة ما كتبه وتنوع موضوعاته في ذلك الفن، وكذلك لما تتمتع به موهبته الفنية من قدرة خاصة على الج مع بين ثقافة العصر الذي يعيش فيه بكل مستجداته مع إلمامه الواسع بالموروث، فكان أسلوبه أسلوبًا ثريا قادرًا على مخاطبة إنسان هذا العـصر بلغته التي يفهمها، وفي قالب فني يميل إليه بسليقته المفطورة على النـزوع إلى الشعر لما فيه من جمال الكلمات، وثراء المعاني، وموسيقا الأوزان والقوافي. وقد ضاعفت الصحافة مـن هذه الشهرة الواسعة التي حققها الفقي، حيث كان رحمه االله ينشر رباعياته ببعض صـحف المملكة لفترة زمنية طويلة، بلغت أربعة عقود، فأضحى الخاصة والعامة من القراء السعوديين يتابعون رباعيته المنشورة بالجرائد اليومية.
ومع قدرة الفقي على استمرارية النشر بالصحف، وعدم التوقف كبعض الـشعراء الذين كانوا ينشرون أحيانا ويتوقفون أحيانا أخرى، أو يكتبون رباعيـاتهم في مناسـبات خاصة، أضحت رباعياته تحمل طابعًا إنسانيًا متميزًا، وذلك من حيث تنوعها الموضـوعي الذي شمل كثيرًا من أمور الحياة الدي نية والاجتماعية والسياسية، التي كان الفقي يخاطـب في كل واحدة منها الإنسان من حيث هو إنسان يساير الحياة بأفراحها وأتراحها، وينـشد الخير ويسعى إلى الترفع، ويأبى الظلم وسوداوية الأهواء، فيجد في كلمات الفقي زادًا ومعينًا وطريقًا رسمته تلك الكلمات الشاعرة الصادقة. فالرباعيات بالنسبة للفقي لم تكن مجرد هواية محببة من نفسه ظهرت بوادرهـا في المراحل المبكرة من حياته، أو مجالاً حقق من خلاله شهرة إعلامية فحسب، وإنما كانت قبل ذلك كله ثمرة مران وجهد متواصل حصله صاحبه من دراسته الذاتية لدواوين الشعر العربي، وثقافته ا لواسعة لكل ما يدور حوله، وعمله الذي استثمره في صقل موهبته الفنية؛ ولذلك لم ينشر الفقي رباعياته في الصحف إلا بعد ثقته من القدرة على التواصل وعدم التوقف، راسمًا هدفًا، ومحددًا طريقًا، وهادفًا إلى رسالة إنسانية. فترك بين أيدينا هذه الثروة الشعرية الـتي تشهد بالنبوغ لأديب قدم الكثير من أجل أمته ووطنه وأدبه، ومن رباعيته نختار هذه الأبيات:
اذْكُريني..
واذْكري تلك اللَّــيــالــي الخــالــيــاتْ
واذْكري تلك الأمـــــاني الــغــالـيــات
والــهِــبــاتِ الـغُــرِّ.. مــا أَحْـلى الهِـباتْ
والـهــوى يُـنْــبـِتُ زَهْــــراً وثِــمــارْ!
***
واذْكُريني
أنــتِ يـــا ذات الــسَّــنــا والـــشّـَجَــن
أنـــتِ يـــا ذاتَ الـجَــنــــى والمـِنـَــن
أنـــتِ يا مَـن كــــنْـتِ فَــــــوْق الـــقِـنَـنِ
تَـــتَـجــلّــِينَ فَــيَـعْــــرونـــي الــــدُّوارْ!
***
واذْكريني
واذْكُري المسْـجِـدَ الوَضَيءَ الحُـسَـيْـني
كانَ مـــا بَـيْنَـــكِ الـصَّـفـِيَّ.. وبَـيْـني
فَـتَـخيَّرتني هَــوىً.. وأَقْــرَرْتِ عَيْني
ورَمَــــــيْــــتِ الـــصَّـفــيَّ بـــالأكْــدارِ
***
واذْكُريني
فلقد أمْسَيْتُ شَجْواً مُسْتَبِدّاً في دَمي
ضـارِيـاً يَـنْـهَــلُ كالــذِّئْــبِ الــظَّــمِـي
لا يـُــبـالـي بِــــصـــِــلاتِ الــرَّحـــِمِ
وهــو لا يَــرْوى بـِلَـيْـلٍ أو نــَهــارْ!
الجوائز:
كرمته المملكة في مهرجان الجنادرية ومنحته جائزة الدولة التقديرية. كما أن هناك جائزة أدبية عربية منذ عام 1994م باسم جائزة محمد حسن فقي للشعر والنقد الأدبي مقرها مصر، أسستها مؤسسة أحمد زكي يماني الثقافية الخيرية، وحملت اسم «الشَّاعر المكِّيّ»، لتُلْبِسَ الشَّاعر الحكيم أنواط المجد، وتذكِر القراء والنقاد العرب بشاعر راض مِنَ الشعر أصعبه. اختصَّ شعره وحياته بـ 4 رسائل جامعيَّة لنيل درجة الدكتوراه، وربما كان ذلك تعويضًا عنْ سكوت النقد الأدبي عن شِعره، ومجافاته له.
خلعت عليه ألقاب مثل: لُقب بشاعر مكة، وفيلسوف الحجاز، وشاعر القافية، ويعد امتدادًا للشاعر حمزة شحاتة، كما يشبّه بالشاعر العربي أبو العلاء المعرّي. بينما يلقبه البعض بشاعر الأجيال، والكبرياء، والوطن، ويراه البعض الآخر خليفة لابن الرومي، لغزارة إنتاجه الشعري، إذ بلغت أعماله الكاملة عشرة مجلدات، وهذا ما لم يسبقه إليه شاعر آخر فضلاً عن تنويع مجالات الإبداع واختلاف الرؤى والتجارب الشعرية.
مؤلفاته:
(نظرات وأفكار في المجتمع والحياة) في جزئين، (وهذه هي مصر)، (فيلسوف)، (مذكرات وأفكار حول الحياة)، (الأجيال).
وله: (مجموعة قصصية)، (بحوث إسلامية)، (ملحمة شعرية في رحاب الأولمب)، (ترجمة حياة)، (مذكرات رمضانية).
دواوينه الشعرية:
(قدر ورجل)، (رباعيات). وصدرت أعماله الكاملة في 8 مجلدات عام 1985.
وفاته:
توفي محمد حسن فقي رحمه الله في مدينة جدة في 2 تشرين الأول/أكتوبر عام 2004 الموافق عام 1425 للهجرة عن عمري يناهز 93 عامًا قضاها في نشر العلم والأدب بين الناس. رحم الله الأديب والشاعر محمد حسن فقي وغفر له.
المصدر : مجلة فكر الثقافية
0 تعليقات