بعض من الشامية القديمة (باب القطبي و باب الزيادة و ما بينهما)
قبل ما ينيف على العشر سنوات كتبت مقالا باللهجة العامية عن حارة الشامية العريقة في بداية السبعينات الميلادية كمشاركة مني في موضوع منتدى قبلةالدنيا عن خواطر و ذكرياتي في تلك الحارة . التي كانت منشأ العديد من رجالات مكه و ملعب صباهم. حيث عاتبني بعض الأحباب من "عيال الحارة العتيدة" انني تجاهلت كثير من العوائل و البيوت و البرحات . حيث إعتبروا أن المقال هو توثيق لتاريخ الشامية ، رغم أنه لم يكن هذا القصد منه عندما كُتب. فالشامية أكبر و أعرق من أن يحتويها مقال و يلم بأزقتها و برحاتها و دحاديرها موضوع. فهناك العديد ممن ألف و وثق لتاريخ حارة الشامية كتابة و تصويرا. و لعلها دعوة للباقين من شباب الأمس و كهول و شياب اليوم من "عيال الشامية" لتوثيق ما بقي في الذاكرة من صور و رؤى جميلة لازالت عالقة في المخيلة، قبل ان تزول و يزولوا.
و لعل مما غاب عن كثير ممن كتب ، أن ينوه ان الشامية مرت بفترة إنتقالية تحولت فيها من حال لحال. و لعل أشهر ما يؤرخ لتلك الفترة حدثين. الأول و هو حريق الشامية الكبير. و ثانيها هو التوسعه الأولى للمسجد الحرام. تلك الأحداث كانت الفاصل بين الشامية القديمة أيام حكم الأشراف و بداية دخول الملك عبد العزيز و بين الشامية التي يعرفها الكثيرين من الأتراب حتى زوالها تماما و دخولها في توسعة الملك عبدالله رحمه الله.
أحببت هنا ان أذكر بعض ما بقي في الذاكرة عن حارة الشامية خلال تلك الفترة. حيث لم يبق على قيد الحياة ممن عاصرها الكثير. تلك الفترة كانت بين أواخر الخمسينات و بداية الستينات الميلادية. (ّ1959- 1960 م ) و اعتذر سلفا عما لا أذكره ، فجل تلك الذكريات هي ما بقي في الذاكرة، لطفل يلعب بدراجته ذات الثلاث عجلات في المنطقة المواجهة لباب القطبي و يدرس في كتّاب الشيخ عاشور بباب الزيادة حروف الهجاء مكتوبة على لوح من خشب. و قد إستعنت في تجميع و توضيح شتات الذاكرة ، بالخارطة التي وضعتها المساحة العسكرية العثمانية عام 1297هـ مأخوذة من "ألاطلس المصور لمكة المكرمة و المشاعر المقدسة"، للدكتور معراج مرزا. موضح فيها مكان باب القطبي و المنطقة المحيطة به. حيث أضفت عليها بعض أسماء العائلات التي كانت تسكن هناك. و أدرجتها في آخر المقال.
باب القطبي ، هو أحد بابين لفسحة ملحقة بالمسجد الحرام و " زائدة عنه" حيث الباب الثاني هو باب الزيادة. بيتنا كان مواجها تماما لباب القطبي، و مطل على الزقاق الصاعد حتى يتصل بشارع الشامية العام و سوق "سويقه". بجانب بيتنا و على يمين الخارج من المسجد الحرام، من باب القطبي كان بيت الشيخ عباس عبدالجبار -رحمه الله-، الذي كان ملاصقا للمسجد الحرام. و في مواجهة الباب كان بيتنا " بيت الشيخ عبدالشكور". على اليسار كان بيت الموصلي يليه حوش تطل عليه بيوت الأشراف. و عندما يتابع الخارج من باب القطبي مسيره، يجد على اليسار، بيت العم برهان سيف الدين، والد اخونا عبدالواحد سيف الدين، الرئيس السابق لمجلس إدارة مؤسسة حجاج أفريقيا غير العربية. و اخوه المهندس محمد سيف الدين. و يتصل بالحوش الذي تطل عليه بيوت الأشراف "بازاناً" للسقيا . و له مدخلين. واحد من الحوش المذكور، و آخر يؤدي للزقاق من الناحية الأخرى. و في نفس الجانب، نجد بيت الشيخ سليمان صبان و الشيخ عبد المعطي عبدالماجد.
في الجهة المقابلة لبيت العم برهان. نجد بيت السيد محمد هادون و بيت العم حسن جندي النمري والد الممثل المالي السابق عبدالرزاق جندي و الجيولوجي السابق ، محمد جندي ، و الطيار الحربي و المدرس السابق بكلية الملك فيصل الجوية علي جندي ، رحمهم الله جميعا. و في نفس هذا الجانب نجد دكان الخياط و بيت الشافعي و بيت قطب.
أما في الجهة المقابلة فنجد القهوة (مقهى) و سقيفة تصل بين جانبي الزقاق. ثم في آخر الزقاق يساراً، نجد بيت العلوي. و فيه اخونا الشيخ فريد علوي و الذي كان من أنداد الصبا و عائلته الكريمة التي كنا كأطفال نلعب عندهم و يلعبون عندنا في ذلك الزمان البعيد.
و عندما نخرج من الزقاق. تكون بداية "سويقة" على اليمين، و مخفر الشرطة " الكركون" على اليسار، و بيت العم جميل عبد الجليل هاشم رحمه الله أمامنا. و العم جميل هو والد سعادة السفير السابق محمد جميل هاشم و الدكتور طلال هاشم أمد الله في أعمارهم و متعهم بالصحة و العافية.
عندما نخرج من الزقاق المؤدي لباب القطبي و ننعطف يمينا، ندخل في سويقة و هي زقاق طويل يمتد حتى حارة القرارة تقريبا، بدكاكينه المتلاصقة و أرضيته الترابيه التي تتحول وقت الأمطار إلى طريق موحلة. نستمر في سويقه حتى نصل إلى أول تقاطع أزقة. فيكون الزقاق المؤدي لباب الزيادة على اليمين. و الزقاق الطالع للبازان و شارع الشامية يسارا. و في الواجهة، يكون الزقاق الصاعد لبقية سويقه، كما يؤدي لطلعة القرارة.
و ندخل في الزقاق المؤدي لباب الزيادة. فنجد بعض الدكاكين التي أذكر منها، دكان المجددي والد أخونا المهندس محمد فريد مجددي و زميل الدراسة في العزيزية الإبتدائية الكابتن نديم مجددي أمد الله في أعمارهم و متعهم بالصحة و العافية. و مما لا ينسى في ذلك الزقاق، كتّاب الشيخ عاشور. الذي كان الروضة التمهيدية قبل دخول المدرسة الإبتدائية. ففي ذلك الزمان الغابر ، لم تكن هناك أوراق أو أقلام للطلاب في الكتّاب ، و لكن كان لكل طالب لوح من الخشب يطلى بمادة بيضاء بسمونها "المضر" و يكتب عليها "الشيخ" درس ذلك اليوم ،ليتم حفظه و تسميعه. حتى إذا حفظ الدرس، تم غسل اللوح و مسح ما فيه، و طلائة بمادة "المضر" مرة أخرى، و تجهيزه للدرس الجديد. و أذكر أنه كانت جائزة من يحفظ قطعة حلوى من قارورة كبيرة أمام الشيخ. أما من لم يحفظ أو "يتشاقى" فجائزته خيزرانه طويله تلحقة حتى لو كان في آخر الصفوف.
و نعود لتقاطع الأزقة مرة أخرى. و هذه المرة نتجه ناحية "البازان" و نترك بداية سويقة على يسارنا. حيث نجد على يسارنا مدخل "لبرحة" أو ساحة، أذكر فيها بيت كان يسكن فيه بعض من آل الدحلان و السيد على شعيب و أخوه السيد عبدالله شعيب رحمهما الله، و بيت (أو بيوت) لأل قطب حيث منهم أخونا و زميل الإبتدائية فريد قطب و فارس قطب.
و إذا تابعنا المسير في ذلك الزقاق صعوداً، نحو شارع الشامية العام. نجد على يميننا زقاق صغير غير نافذ فيه بيت لنا، و ذهب في التوسعة الأخيرة للملك عبدالله ، كان يسكن في هذا البيت عمي أحد عبدالشكور رحمه الله. بعد ذلك ، نجد على اليمين مبنى كانت فيه مطبعة الحكومة. و يلي ذلك بازانا آخر للسقيا بعد البازان يلتقى الزقاق بالشارع العام للشامية، على اليسار. أما على اليمين فكانت مجموعة من الدكاكين، أذكر منها دكان العم حسن حلواني لبيع الحلاوة الطحينية و خلافها. و دكان أبوالنجا لبيع مشتقات الحليب الطازجة. و يليه مبنى كانت فيه المدرسة العزيزية الإبتدائية، قبل إنتقالها لبيت القامة ، في القراره .
تلك كانت مرابع الطفولة الأولى قبل إنتقالنا لحارة جرول مع إستمرار إتصالنا بالشامية خلال ايام الجمع و خلال مواسم الحج. و كما أسلفت، فهذه لا تعدو جولة في ذاكرة طفل، و لا زال هناك الكثير. و لعلها "نكشة" لذاكرة أترابنا و من يكبرنا سنا، أن يدون مافي ذاكرته عن ذلك الزمن القديم و مرابعه بكل جمالياتها التي كانت جميلة لدرجة يصعب على شباب اليوم تصديقها و تصورها .
موضوع خاص بـ قبلة الدنيا | بقلم : حسن محمد عبدالشكور
0 تعليقات