أهل مكة وعادتهم كما جاء في رحلة بطوطة
لأهل مكة الأفعال الجميلة والمكارم التامة ، والأخلاق الحسنة ، والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين ، وحسن الجوار للغرباء ، ومن مكارمهم انه متى صنع أحدهم وليمة يبدأ فيها بالطعام للفقراء المنقطعين المجاورين ، ويستدعيهم بتلطف ورفق وحسن خلق ، ثم يطعمهم ، وأكثر المساكين المنقطعين يكونون بالأفران ، حيث يطبخ الناس أخبازهم ، فإذا طبخ أحدهم خبزه واحتمله إلى منزله يتبعه المساكين ، فيعطي لكل واحد منهم ما قسم له ، ولا يردهم خائبين ، ولو كانت له خبزة واحدة فانه يعطي ثلثها أو نصفها ، طيب النفس بذلك من غير ضجر ، ومن أفعالهم الحسنة أن الأيتام الصغار يقعدون بالسوق ، ومع كل واحد منهما قفتان كبرى وصغرى ، وهم يسمون القفة مكتلا ، فيأتي الرجل من أهل مكة إلى السوق ، فيشتري الحبوب واللحم والخضر ، ويعطي ذلك الصبي ، فيجعل الحبوب في إحدى قفتيه ، واللحم والخضر في الأخرى ، ويوصل ذلك إلى دار الرجل ، ليهيأ له طعاما منها ، ويذهب الرجل إلي طوافه وحاجته ، فلا يذكر أن أحدا من الصبيان خان الأمانة في ذلك قط ، بل يؤدي ما حمل على أتم الوجوه ، ولهم على ذلك أجرة معلومة من فلوس ، و أهل مكة لهم ظرف ونظافة في الملابس واكثر لباسهم البياض ، فترى ثيابهم أبدا ناصعة ساطعة ، ويستعملون الطيب كثيرا ، ويكتحلون ، ويكثرون السواك بعيدان الأراك الأخضر ، ونساء مكة فائقات الحسن ، بارعات الجمال ، ذوات صلاح وعفاف ، وهن يكثرن التطيب ، حتى أن إحداهن لتبيت طاوية وتشتري بقوتها طيبا ، وهن يقصدن الطواف بالبيت في كل ليلة جمعة ، فيأتين في احسن زي ، وتغلب على الحرم رائحة طيبهن ، وتذهب المرأة فيبقى أثر الطيب بعد ذهابها عبقا ، و لأهل مكة عوائد حسنة وغيرة .
و أهل مكة لا يأكلون في اليوم إلا مرة واحدة بعد العصر ، ويقتصرون عليها إلي مثل ذلك الوقت ، ومن أراد الأكل في سائر النهار أكل التمر ، ولذلك صحت أبدانهم وقلت فيهم الأمراض والعاهات .
من عادة أهل مكة أن يصلي أول الأئمة إمام الشافعية ، وهو المقدم من قبل أولي الأمر ، وصلاته خلف المقام الكريم – مقام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام – في حطيم له هنالك بديع ، وجمهور الناس بمكة على مذهبه ، والحطيم خشبتان موصول ما بينهما بأذرع تشبه السلم ، تقابلهما خشبتان على صفتهما وقد عقدت على أرجل مجصصة ، وعرض على أعلى الخشبة خشبة أخري ، فيها خطاطيف حديد يعلق فيها قناديل زجاج ، فإذا صلى الإمام الشافعي ، صلى بعده إمام المالكية في محراب قبالة الركن اليماني ، ويصلي إمام الحنبلية معه في وقت واحد مقابلا ما بين الحجر الأسود والركن اليماني ، ثم يصلي إمام الحنفية قبال الميزاب المكرم ، تحت حطيم له هنالك ، ويوضع بين يدي الأئمة في محاريبهم الشمع ، وترتيبهم هكذا في الصلوات الأربع ، وأما صلاة المغرب فإنهم يصلونها في وقت واحد ، كل إمام يصلي بطائفته ، ويدخل على الناس من ذلك سهو وتخليط ، فربما ركع المالكي بركوع الشافعي ، وسجد الحنفي بسجود الحنبلي ، وتراهم مصيغين كل واحد إلي صوت المؤذن الذي يسمع طائفته لئلا يدخل عليه السهو .
وعادتهم في يوم الجمعة أن يلصق المنبر المبارك إلى صفح الكعبة الشريفة ، فيما بين الحجر الأسود ، والركن العراقي ، ويكون الخطيب مستقبلا المقام الكريم ، فإذا خرج الخطيب اقبل لابسا ثياب سواد ، معتما بعمامة سوداء ، وعليه طيلسان اسود ، كل ذلك من كسوة الملك الناصر ، وعليه الوقار والسكينة ، وهو يتهادى بين رايتين سوداوين ، يمسكهما رجلان من المؤذنين ، وبين يديه أحد القومة وفي يده الفرقعة ، وهي عود في طرفه جلد رقيق مفتول ، ينفضه في الهواء فيسمع له صوت عال ، يسمعه من بداخل الحرم وخارجه ، فيكون إعلاما بخروج الخطيب ، ولا يزال كذلك إلى أن يقرب من المنبر ، فيقبل الحجر الأسود ، ويدعو عنده ، ثم يقصد المنبر ، والمؤذن الزمزمي – وهو رئيس المؤذنين – بين يديه لابسا السواد ، وعلى عاتقه السيف ، ممسكا بيده ، وتركز الرايتان على جانبي المنبر ،فإذا صعد أول درج من درج المنبر ، قلده المؤذن السيف ، فيضرب بنصل السيف ضربة في الدرج يسمع بها الحاضرين ، ثم يضرب في الدرج الثاني ضربة ، ثم في الثالث أخرى ، فإذا استوى في عليا الدرجات ضرب ضربة رابعة ، وهتف داعيا بدعاء خفي مستقبل القبلة ، ثم يقبل على الناس فيسلم عن يمينه وعن شماله ، ويرد عليه الناس ، ثم يقعد ، ويؤذن المؤذنون في أعلى قبة زمزم في حين واحد ، فإذا فرغ الأذان خطب الخطيب خطبة يكثر فيها من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقول في أثنائها ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما طاف بهذا البيت طائف – ويشير بإصبعه إلى البيت الكريم – اللهم صل على محمد و على آل محمد ما وقف بعرفة واقف ) ويترضى عن الخلفاء الأربعة ، وعن سائر الصحابة ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم وسبطيه وأمهما ، وخديجة جدتهم على جميعهم السلام ، ثم يدعو للملك الناصر، ثم للملك المجاهد نور الدين علي بن الملك المؤيد داود بن الملك المظفر يوسف بن
علي بن رسول ، ثم للن الشريفين الحسنيين أميري مكة سيف الدين عطيفة – وهو اصغر الأخوين – ويقدم اسمه لعدله ، وأسد الدين رميثة ، ابني أبى نمي بن أبى سعيد بن علي بن قتادة ، وقد دعا لسلطان العراق مرة ثم قطع ذلك ، فلما فرغ من خطبته انصرف والرايتان عن يمينه وشماله ، والفرقعة أمامه إشعارا بانقضاء الصلاة ، ثم يعاد المنبر إلى مكانه الكريم .
وعادتهم في استهلال الشهور أن يأتي أمير مكة في أول يوم من الشهر ، و****ه يحفون به ، وهو لا بس البياض معتما متقلدا سيفا ، وعليه السكينة والوقار ، فيصلي عند المقام الكبير ركعتين ، ثم يقبل الحجر ، ويشرع في طواف أسبوع ، ورئيس المؤذنين على أعلى قبة زمزم ، فعندما يكمل الأمير شوطا واحدا ويقصد الحجر لتقبيله ، يندفع رئيس المؤذنين بالدعاء له ، والتهنئة بدخول الشهر رافعا بذلك صوته، ثم يذكر شعرا في مدحه ومدح سلفه الكريم ، ويفعل به هكذا في السبعة أشواط ، فإذا فرغ منها ركع عند الملتزم ركعتين ، ثم ركع خلف المقام أيضا ركعتين ، ثم أنصرف، ومثل هذا سواء يفعل إذا أراد سفرا ، وإذا قدم من سفر أيضا .
وإذا أهل هلال رجب أمر أمير مكة بضرب الطبول والبوقات إشعارا بدخول الشهر ، ثم يخرج في أول يوم منه راكبا ، ومعه أهل مكة فرسانا ورجالة على ترتيب عجيب، وكلهم بالأسلحة ، يلعبون بين يديه ، والفرسان يجولون ويجرون ، والرجال يتواثبون ويرمون بحرابهم إلى الهواء ويلقفونها ، والأمير رميثة والأمير عطيفة معهما أولادهما و****هما مثل محمد بن إبراهيم ، وعلي وأحمد ابني صبيح ، وعلي بن يوسف ، وشداد بن عمر ، وعامر الشرق ، ومنصور بن عمر ، وموسى المزرق ، وغيرهم من كبار أولاد الحسن ، ووجوه ال**** ، وبين أيديهم الرايات والطبول والدبادب ، وعليهم السكينة والوقار ، ويصيرون حتى ينتهوا إلى الميقات ، ثم يأخذون في الرجوع على معهود ترتيبهم إلي المسجد الحرام ، فيطوف الأمير بالبيت والمؤذن الزمزمي بأعلى قبة زمزم يدعو له عند كل شوط على ما ذكرناه من عادته، فإذا طاف صلى ركعتين عند الملتزم ، وصلى عند المقام وتمسح به ، وخرج إلى المسعى راكبا ، وال**** يحفون به ، والحرابة بين يديه ، ثم يسير إلي منزله ، وهذا اليوم عندهم عيد من الأعياد ، يلبسوا فيه احسن الثياب ، ويتنافسون في ذلك .
وأهل مكة يحتفلون لعمرة رجب الاحتفال الذي لا يعهد مثله ، وهي متصلة ليل نهار، وأوقات الشهر كله معمورة بالعبادة ، وخصوصا أول يوم منه ، ويوم خمسة عشر والسابع والعشرين ، فإنهم يستعدون لها قبل ذلك بأيام ، وشاهدتهم في ليلة السابع والعشرين منه ، وشوارع مكة قد غصت بالهوادج ، عليها كساء الحرير ، والكتان الرفيع ، كل واحد يفعل بقدر استطاعته ، والجمال مزينة مقلدة بقلائد الحرير ، و أستار الهوادج ضافية تكاد تمس الأرض ، فهي كالقباب المضروبة ، ويخرجون إلى ميقات التنعيم ، فتسيل اباطح مكة بتلك الهوادج ، والنيران مشعلة بجنبتي الطريق ،والشمع والمشاعل أمام الهوادج ، والجبال تجيب بصداها إهلال المهللين ، فترق النفوس ، وتنهمل الدموع ، فإذا قضوا العمرة وطافوا بالبيت ، خرجوا إلى السعي بين الصفا والمروة بعد مضي شئ من الليل ، والمسعى متقد السرج غاص بالناس ، والساعيات على هوادجهن ، والمسجد الحرام يتلألأ نورا ، وهم يسمون هذه العمرة بالعمرة الأكمية ، لأنهم يحرمون بها من أكمة مسجد عائشة رضى الله عنها ، بمقدار غلوة من المسجد المنسوب إلى علي رضى الله عنه ، والأصل في هذه العمرة أن عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما لما فرغ من بناء الكعبة المقدسة خرج ماشيا حافيا معتمرا ومعه أهل مكة ، وذلك في اليوم السابع والعشرين من رجب ، وانتهى إلى الأكمة فأحرم منها ، وجعل طريقه على ثنية الحجون ، إلى المعلى من حيث دخل المسلمون يوم الفتح ، فبقيت تلك العمرة سنة عند أهل مكة إلى هذا العهد ، وكان عهد عبد الله بن الزبير مذكورا أهدى فيه بدنا كثيرة ، و أهدى أشراف أهل مكة و أهل الاستطاعة منهم ، و أقاموا أياما يطعمون شكرا لله على ما وهبهم من التيسير والمعونة في بناء بيته الكريم على الصفة التي كانت عليها في أيام الخليل صلوات الله عليه ، ثم لما قتل ابن الزبير نقض الحجاج الكعبة وردها إلى بنائها في عهد قريش ، وكانوا قد اقتصروا في بنائها وأبقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك لحدثان عهدهم بالكفر ، ثم أراد الخليفة أبو جعفر المنصور أن يعيدها إلى بناء ابن الزبير ، فنهاه مالك رحمه الله تعالى عن ذلك وقال : (يا أمير المؤمنين لا تجعل البيت ملعبة للملوك ، متى أراد أحدهم أن يغير فعل ) فتركه على حاله سدا للذريعة .
و أهل البلاد الموالية لمكة مثل بجيلة وزهران وغامد ، يبادرون لحضور عمرة رجب ، ويجلبون إلى مكة الحبوب والسمن والعسل والزبيب والزيت واللوز ، فترخص الأسعار بمكة ، ويرغد عيش أهلها ، وتعم المرافق ولولا أهل هذه البلاد لكان أهل مكة في شظف من العيش ، ويذكر انهم متى أقاموا ببلادهم ولم يأتوا بهذه الميرة أجدبت بلادهم ، ووقع الموت في مواشيهم ، ومتى أوصلوا الميرة أخصبت بلادهم ، وظهرت فيها البركة ، ونمت أموالهم ، فهم إذا حان وقت ميرتهم ، و ادركهم كسل عنها ، اجتمعت نساؤهم فأخرجنهم ، هذا من لطائف صنع الله تعالى ببلده الأمين.
وليلة النصف من شعبان من الليالي المعظمة عند أهل مكة ، يبادرون فيها إلى أعمال البر ، من الطواف والصلاة جماعات وأفرادا ، والاعتمار ، ويجتمعون في المسجد الحرام جماعات ، لكل جماعة إمام ، ويوقدون السرج والمصابيح ، والمشاعل ، ويقابل ذلك ضوء القمر ، فتتلألأ الأرض والسماء نورا ، ويصلون مائة ركعة ، يقرؤون في كل ركعة بأم القران ، وسورة الإخلاص ، يكررونها عشرا ، وبعض الناس يصلون في الحجر منفردين ، وبعضهم يطوفون بالبيت الشريف ، وبعضهم قد خرجوا للاعتمار .
الموضوع من اعداد / حسام عبدالعزيز مكاوي
0 تعليقات