الورّاق المكي غسان نويلاتي

يعشق الشيخ غسان نويلاتي مطالعة الكتب وتصفحها في مكتبته العامرة التي بدأ بجمع محتوياتها من كتب ومخطوطات قبل 30 عاما، يراوده هذا الإحساس الجميل بأنه يدخل إلى حديقة فسيحة وليس إلى غرفة بأربعة جدران، ينعش فؤاده التجول بين الرفوف التي يستريح عليها أصدقاؤه المؤلفون، ويطيب له السفر معهم على بساط الريح في كل الأزمنة والأمكنة، وسماع الأحاديث والأشعار من رواة التاريخ والأخبار. وكم يسعده هذا العبق الذي يفوح من الكتب التي حصل عليها من سور الأزبكية ودرب الأتراك في الأزهر ومكتبات القاهرة ودمشق وبيروت ومكة .

يفصح الشيخ غسان عن أسرار هذا العشق بقوله: تجد في قلب كل كتاب حكاية يرويها المؤلف بكلماته، يطلعك على الوثائق والأسرار، ويهمس بصوت رقيق: لا تخبر أحدا، أبتسم وأكمل القراءة، وأغوص مع المؤلف في الأعماق بحثا عن اللؤلؤ والمرجان، أو نقطف زهر الآداب من بساتين الحكمة، ونتذوق رحيق المعرفة طيبا لذة للشاربين. ينبت للإنسان جناحا يطير به في الآفاق كلما قرأ كتابا، هذا ما أشعر به فعلا، ولا أعتبر ذلك من وحي الخيال.

روحانيات ابن القيم يشعر الشيخ غسان بالحنين عند مشاهدة الكتب القديمة التي وضعها بعناية في خزانة زجاجية، ومنها كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم الذي كان رفيقه في الغربة مطلع الثمانينيات الميلادية عندما كان موظفا شابا في أرامكو بقسم صيانة المركبات البحرية، يقضي وقت فراغه في مكتبة سكن العمال، ولم يكن هناك شواغل كثيرة تصرف عن القراءة مثل هذه الأيام، مستكشفا ومتابعا مجلة القافلة بشغف كبير قارئا مواضيعها الشيقة التي قادت خطواته إلى القراءة الجادة لاحقا.

يتذكر أنه قرأ أيضا كتاب ابن القيم الآخر "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" فأصبح مغرما حقيقيا بالكتب، أسلوب ابن القيم سهل وجذاب يصلح لسائر طبقات الناس، كما وصف ذلك في مقدمته البليغة، إذ احتوى الكتاب على لمحات تفسيرية، وأحاديث نبوية، ومسائل فقهية، وشواهد شعرية، ووقائع كونية، "ما يكون ممتعًا لقارئه مروِّحا للناظر فيه، فإن شاء أوسعه جدا، وأعطاه ترغيبا وترهيبا، وإن شاء أخذ من هزله وملحه نصيبا، فتارة يضحكه، وتارة يبكيه، وتارة يبعده من أسباب اللذة الفانية، وطورا يرغبه فيها ويدنيه، فإن شئت وجدته واعظا ناصحا، وإن شئت وجدته بنصيبك من وصل الحبيب مسامحا".

مكتبة بابل يشبه منظر الكتب المتراصة على رفوف مكتبته الكبيرة حتى السقف، برج بابل الذي سكنته شعوب من مختلف أنحاء الأرض تتكلم جميع اللغات ومن مختلف الأعراق، ويصنف الكتب المتجاورة حسب موضوعها، مع العناية بفهرسة الكتاب وتسجيل المعلومات حول طبعة الكتاب مثل تاريخ الطبع، واسم دار النشر.

"استقر حب الكتب في قلبي، ودفعني ذلك إلى مواصلة تعليمي الجامعي، فانتقلت إلى مكة للدراسة في جامعة أم القرى عام 1985، وتخصصت في الاقتصاد الإسلامي لكن بعد فصلين دراسيين تحولت إلى قسم أصول الدين رغبة في التبحر في كتب الحديث والتاريخ الإسلامي، وبدأت في تأسيس مكتبتي الخاصة منذ ذلك الوقت، وكنت أقرأ بمعدل خمسة كتب على الأقل شهريا، وبلغ عدد محتويات المكتبة 12 ألف كتابا، خصصت لها غرفتين في الدور الأرضي، وغرفة خاصة بكتب التاريخ المكي والسيرة النبوية في الدور العلوي إلى جانب مجلس الضيوف".

تاريخ البلد الأمين في هذا القسم من المكتبة تحتل المساحة الكبرى المصادر التي تغطي تاريخ مدينته المحبوبة مكة المكرمة ورواية أخبار رجالاتها تنال الأولوية في العناية والاهتمام مقارنة بالموضوعات الأخرى، وهذا الركن المفضل لديه للجلوس والقراءة ساعات طويلة، مشيرا إلى أهمية كتاب "العِقْد الثمين في تاريخ البلد الأمين" لمؤلفه الشيخ تقي الدين الفاسي، الذي سار المؤلف فيه على نهج الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" وابن عساكر في "تاريخ دمشق" وأبي نَعيم في "أخبار أصبهان"، في تدوين أحداث وسير أعلام ذلك الزمان، وفي هذا الكتاب اعتنى الفاسي بتوثيق تاريخ مكة، وكتابة تراجم العلماء والفقهاء والولاة والأعيان وغيرهم على مدى ثمانية قرون. وإلى جانب كتاب العقد الثمين نسخة حديثة الطبع من دار جدوال لكتاب عُمدة مُؤرخي البلد الحرام أبو الوليد الأزْرَقِيّ صاحب كتاب "أخبار مكة" الذي حققه وعلق عليه رشدي ملحس- رحمه الله، ولديه مجموعة نادرة من المصنفات حول تاريخ مكة وهي: "شِفَاء الغَرَام بأخبار البلد الحَرَام"، و"تُحفة الكِرَام بأخبَار البَلَد الحَرَام" (وهو مختصر شفاء الغَرَام)، و"الزهور المقتطفة من تاريخ مكة المشرفة"، و"عُجالة القِرَى للراغب في تاريخ أم القُرَى" (وهو مختصر من العِقد الثمين)، وحرص كثيرا على اقتناء كتاب "التاريخ القويم" لخطاط مكة ومؤرخها محمد طاهر كردي رحمه الله. وتحوي هذه المراجع معلومات توثيقية وفوائد نفيسة عن تاريخ مكة المكرمة وكسوة الكعبة المشرفة وعمارتها والأماكن الأثرية وجغرافيتها.

استفدت من حضوري مادة البحث والمخطوطات في الجامعة مع الدكتور عبدالرحمن العثيمين- رحمه الله، وتعرفت على أهمية صناعة الكتاب في مكة التي كان يسعى إليها العلماء، يطلبون من الله العون والتوفيق، ويتباركون في تأليف مصنفاتهم في صحن الكعبة، وتجد التلميحات إلى ذلك في ديباجة الكتب المؤلفة لعلماء من المغرب ومصر والشام والعراق على مختلف العصور.

كانت مكتبة الحرم تصنع أدباء وعلماء ومؤرخين ومفهرسين، وأشرف عليها علماء أفاضل مثل المشايخ عبدالرحمن المعلمي والصنيع، واحتضنت مكة أول مطبعة أهلية أشرف عليها الشيخ ماجد كردي، هذه الشخصية الفريدة الذي طبع لعلماء عصره، وعن تاريخ بلده ولمؤلفين آخرين، وسخر معارفه وصلاته لنشر الكتاب في الجزيرة العربية".

كتب الرحالة يحتفظ في مكتبته بمجموعة كبيرة من كتب السيرة الذاتية والرحلات التي لا تكتفي بتدوين الحكايات الشخصية بل تتجاوز ذلك إلى تسجيل المظاهر والأحداث، وتأريخ الحياة الاجتماعية، وعلى سبيل المثال كتاب "رحلة عمر" للأديب المكيّ الرحّالة الشيخ محمد عبدالحميد مرداد (1332هـ - 1415هـ)- يرحمه الله- الذي سرد فيه رحلاته ويومياته منذ منتصف القرن الـ14 من الهجرة، وحتى العقد الأول من القرن الـ15 من الهجرة. ومن طريف ما رواه استمرار عادة أهالي مكة في إرسال أولادهم إلى البادية من أجل أن تصح أجسادهم حتى عام 1320، ولمرداد كتاب نفيس عن مدائن صالح قام بنشره المرحوم الأديب عبدالعزيز الرفاعي، "من أجمل ما قرأت سيرة الأديب أحمد عبدالغفور عطار "بين السجن والمنفى"، وإلى جانبه كتاب الشيخ إبراهيم الحسون في أربعة مجلدات تشرفت بالمساهمة في طبعها في المكتبة المكية، والحسون أول نجدي يدرس في مدارس الفلاح، وكان من رجال الدولة الكبار، وسمعت أن الملك سلمان قرأ هذا الكتاب مرتين لأهمية الكتاب التاريخية والأدبية".

ومن الكتب المفضلة لديه كتاب "الإعلام" في ثمانية أجزاء لمؤلفه خير الدين الزركلي السفير السعودي السابق، الذي وصفه شيخنا حمد الجاسر "بعصارة فكر بحَّاثةٍ جليل، قلَّ أن يضاهيه أحدٌ في سعة اطِّلاعه على المؤلَّفات قديمها وحديثها، وهو خلاصة مئات من الكتب والمطبوعات أُلِّفت في التَّراجم، بحيث يصحُّ القول بأن (الأعلام) من مفاخر عصرنا الثقافي".

وإلى جانب كتب التراجم قسم كتب الرحالة الغربيين التي تختلف عن مثيلاتها العربية بالتركيز على التفسير والتحليل الاجتماعي أكثر من السرد الوصفي للظواهر واليوميات مثل ما كتبه عبدالله فيلبي في سلسلة مؤلفاته عن الجزيرة العربية التي طبعتها مكتبة العبيكان، أما كتب سير الغربيين يميزها أدب الاعترافات الشخصية كما رسخ هذا المفهوم لديهم الاعتراف في الكنيسة، فتجد المؤلف لا يجد حرجا في الحديث عن أخطائه التي تعلم منها دروسا مفيدة في حياته، واختار أن يشارك ذلك مع القارئ، عكس السير العربية إجمالا التي يغلب عليها التحفظ والموعظة.

الشعر والرواية اعتاد الشيخ نويلاتي على القراءة الحرة عندما كان في أرامكو للتعرف على ثقافات وآداب حضارات مختلفة، ولم يحصر نفسه بقراءة كتب التراث فقط، يجد نفسه منحازا إلى الإبداع والمعرفة، ولا يهتم كثيرا بالأحكام المسبقة التي يطلقها الكسالى على الأعمال الأدبية، مشيرا إلى معاصرته أزمة الحداثة نهاية الثمانينيات لكن لم تغريه تلك السجالات في أروقة المكتبة الجامعية على الإطلاق. بالنسبة لكتب الشعر توجد مجموعة كبيرة من داووين الشعر الجاهلي والإسلامي، لاعتقاده أن الشعر من المصادر الأساسية في اللغة العربية، إضافة إلى ذلك اهتم كثيرا بكتب المختارات الشعرية، ومن أهمها المفضليات وحماسة أبو تمام، ومختارات الباردوي، واختيارات أحمد قدامة ومصطفى طلاس، معتبرا أمير الشعراء أحمد شوقي شاعره المفضل، مستشهدا دائما بقوله: والمرء يذكر بالمحاسن بعده فاصنع لنفسك بالجميل ثناء واعلم بأنك سوف تذكر مرة فيقال أحسن أو يقال أساء وعندما يأتي الحديث عن الأدب والرواية، جذبته إليها أسماء كبيرة في بداية الأمر، مثل كتابات الساخر إبراهيم المازني، وصاحب وحي القلم محمود صادق الرافعي، وروايات محمود تيمور ونجيب محفوظ، ونجيب الكيلاني. "ولا بد من وقفة بسيطة أمام إنتاج الشاعر والروائي غازي القصيبي الذي سحرتني روايته "شقة الحرية" بأسلوبها الشيق وتفاصيلها وأحداثها المثيرة، نجح غازي في غرس الجمال والبهجة في قلوبنا معشر القراء، في قصائده ورواياته ومجمل كتاباته النثرية. قرأت هذه الرواية مرتين لأنها تصف ببراعة حقبة مهمة في تاريخ الأمة العربية، ولأنني أحببت شخصيات الرواية التي كتبها الراحل بقلم رشيق وبلاغة رصينة عكس الروايات الخفيفة التي تصدر هذه الأيام".

مضيفا "لم تعجبني رواية عبده خال الأخيرة "ترمي بشرر"، ولم أفهم سبب الضجة حولها، ولا بد من لفت نظر القارئ الكريم إلى تجربة روائية مدهشة للروائي الأمير سيف الإسلام بن سعود الذي أبدع في رواياته الثلاث قلب بن بنقلان، والكنز التركي، وابن طنين. ولا يفوتني الإشادة بروايات المبدع يوسف زيدان صاحب النبطي وعزازيل ومحال واللاهوت العربي الذي استهواه سجال المفكرين الأحرار في العصور الغابرة ضد التطرف والاضطهاد، وأتذكر ما قال الراهب هيبا في رواية عزازيل: «أن ميراث الاضطهاد يندفع دوماً باضطهاد مضاد"، وفي الحقيقة أن شمس العرب سطعت على الغرب عندما كان التسامح رائدا، وحرية الفكر مثل الأوكسجين.

الكتاب الأخير أول كتاب نشره الشيخ نويلاتي لصاحب مجلة الرسالة أحمد حسين الزيات وعنوانه "أول درس ألقيته"، ومجموعة رسائل لمصطفى الشهابي. "وأدين بالفضل بعد الله لزوجتى أم هاشم التي دعمتني كثيرا، وقبلت بي زوجا بعد رؤيتها في منامها أنها تتزوج شابا يحمل في يده مجموعة من الكتب، ولا أنسى أستاذي سعيد الطنطاوي أخو الشيخ علي الطنطاوي، الذي شجعني على القراءة والمطالعة، وكان له تأثير كبير في شخصيتي ومنهجيتي في التفكير، والشيخ سعيد كان رياضيا وفلكيا وشاعرا اختاره وزير المالية الأسبق الأمير مساعد بن عبدالرحمن- رحمه الله- لتأسيس تقويم أم القرى".

منقول بتصرف من جريدة الاقتصادية 2016 | حمود أبو ماجد