بيوت مكة المكرمة.. مباني أخلاقية واقتصادية

عبدالله محمد أبكر

طريقة بناء البيوت قديما في مكة وبعض مدن الحجاز وربما في بعض المجتمعات المدنية كانت تركز وتعمل على جانب الطقس في وضع الخطط والهندسة المعمارية، وكانت مواد البناء تساعد في تحقيق الأهداف المرسومة في خرائط البناء، وتؤخذ بعض هذه المواد من طبيعة المكان كالحجارة من الجبال القريبة، و(النورة) من الجبال البعيدة.. الا الاخشاب حيث تجلب من الخارج مثل الخشب (الفني) للرواشين و(القندل) للسقوف.. وتبنى البيوت على نهج هندسي وعلى أساس الاحتياط والوقاية، جغرافيا وأخلاقيا واقتصاديا وتشكل جمالا رائعا فريدًا في طرازه في الداخل والواهجات البارزة.

الجوانب الهندسية والأخلاقية

كانت البيوت في مكة تُبنى بالمواد الباردة مثل الطين واللَّبِن والخشب وسعف النخيل، تخلط جميعا ويبنى بها البيت، يحمل جدارها وأسقفها الداخلية أخشاب (القندل) وتزين واجهاتها الخارجية بالرواشين المزخرفة ذات النقوش المختلفة الجميلة المعلقة على بروز أخشاب تسمّى (الكابولي).

وأخرى كانت تبنى بالحجر أو بالآجر وتغطى ببعض هذه المواد النباتية من جرائد النخل، بإضافة (النورة البلدي) وبعض الصفائح تفرش وتدفن في طبقات السقوف، كمادة متطورة لاحقا، فلا يكون للحرّ تأثير عليها في أواقات الصيف والشتاء. بل يشعر ساكنها وأجواء مناخية وسطية تتيح له الارتياح في كل الفصول.

وتبنى البيوت بواسطة المعلّم (القراري) أو الريِّس (المهندس المعماري حاليا) حيث يُعهد إليه تخطيطها (وهو لم يدرس هندسة ولا عمرانا وإنما هي البديهة النظرية والأخلاقية، فيقوم مثلا: من ناحية اليمين والشمال أي جوانب البناء بترك مساحة لطرق المارة مثل الزقاق، وإذا كانت حدود البيوت متلاصقة يرجع بالبناء إلى الخلف كارتداد، أو داخليا ليعمل وما يسمّى في (بالجِلا).

وهو الجَلاَء ـ لغة ـ خاص بأهل البيت ويعمل (منور) لإدخال الهواء وضوء الشمس.. ويفتح من خلاله إذا كان ملاصقا لجدار الجار (الطيق) أو الشبابيك ويراعي عند فتحها من واجهات البيوت وتجاه بيوت الجيران.. فلا تكون تلقاء وقبالة أبواب وشبابيكهم خلقًا وذوقًا واحترامًا، وذوقًا وجمالا.. فيراعي في اختيار الجهات لفتح هذه التهوية على البيت. وهي بمثابة المكيفات.. وكان إذا فتحت لزوما واجبارا تلقاء أبواب أو طيق الجيران يوضع لها ستار أو مرد خشبي بطريقة مثبتة محكمة، مع إمكانية دخول الهواء.. وعند بناء الأدوار المتكررة يلاحظون البيوت القصيرة المجاورة، فلا يكشفون عليهم بأدوار عالية.. وهناك (طيق الشيش) الخشبية التي تمكّن رؤية من بالخارج، ولا يَرى هو مَن بالداخل. .

وفي داخل البيت يفصل مكان الرجال عن النساء والضيوف والأغراب فلا يصطدم أحد من الجنسين بأحد، ويراعي مكان (بيت الماء ـ الحمّام) وظهور مكانها من بعيد وبابها مخفيا في زاوية، كما يهيئ مكانًا خاصًا في أسفل الدار ومدخله (الدهليز) من الجانب الأيمن أو الأيسر لجلوس صاحب البيت مع أصدقائه وهو ما يسمى بـ(المقْعد) للرجال، ومجلس البيت الكبير والعائلة يكون في الدور الأول، أو الثاني.. ويدخل هؤلاء ويخرجون من باب البيت الكبير الرئيس، بينما العوائل والنساء يدخلون من باب خلفي للبيت أو جانبي.. بجوار(الدِّقيسي) وهو مساحة ما تحت الدرج أو منطقة (السلملك) الكبرى.

وكان المعلّم يفتحون طرقا إلى بيوت الجيران البعيدة التي لا يوجد له طرق نافذة إليها من كل الجهات، تفتح خلقا وكرما من حدود ملكية الجيران لبيوتهم.. وقد رأيت مثل هذه البيوت في حارة الشامية (برحة بنجر) على درجان جبلية تؤدي إلى مدرسة عرفات المتوسطة مكان قلعة (جبل هندي).


الناحية الاقتصادية

أما الناحية الاقتصادية فكان الريس المخطط أو المعلّم البنّاء يراعي كل الأنظمة حال البناء بالقوانين والآداب والأذواق بحيث يكون مراعيًا لحال الواجهة الرئيسة والمدخل من ناحية الشارع العام على حسبان المحلات والدكاكين بما نسميه اليوم (شارع تجاري).

كما يراعي اقتصاديًا أحوال صاحب البيت المادية وقدرته على تحمل تكاليف مواد البناء، فهناك الأقوى منها وهي أغلى، وربما يؤتى بها من مكان بعيد، أو يبنى بها جزء من الدار وجزء آخر بمواد أقل كلفة وأيسر بناءً مع كونها قوية وصالحة، ولا تضعف أو تخل بأصل البناء أو تسرّع في تهالكه وسقوطه بل تدوم طويلا، ولكل صاحب دار حاله، وعلى قدر حاله تأتي فخامة داره.

وفي بعض الحارات طبقات من الناس وبحسب أنواع طراز البناء البيوت بها، فتجد مثلا في حارة واحدة بيوت مطرزة جمالا لميسوري الحال وأغنياء، وعلى العكس تجد بيوتا متواضعة صغيرة المساحات إما بحكم العامل الجغرافي للمكان جبلي أو سهلي، أو بعامل اقتصادي لأصحابها أو لضرورة تجارية مرتبطة ولازمة بالمكان. كما تجد في حارة أخرى بيوتًا هي وسط في الطراز وفي كيفيات البناء وأنواع المواد والمساحات وفتح (الجلا) والمناور داخل الدار، والارتداد لفتح الطرقات للمرور، أو (الأحواش) لسهولة النفوذ إلى البيوت المجاورة المتحاورة.

بينما في حارة أخرى يبدو طابع البيوت في كثرة الأسواق والمحلات التجارية بمختلف أنواع وأحجام السلع والبضائع فيها، وبوجود موارد المياه (البازانات) وجمهرة السقاة عندها، وبيوت المطوفين وكثرة الحجاج فيها خصوصا في مواسم الحج مع وجود وسائل النقل والحمّالين من الناس في زحام حتى لا تكاد تظهر على أعين الناس واجهة من واجهات البيوت.. وبالأخص في الحارات المجاورة للمسجد الحرام وهي: المسعى والمدعى والجودرية والقشاشية وسوق الليل والشامية وشعب عامر والغزة وسوق المعلاة، وسوق الصغير بجهاته الشرقية والجنوبية والغربية، وأجزاء من بدايات حارة أجياد والقرارة والمروة منها، والشبيكة وباب العمرة منها، والمسيال في بدايات المسفلة...

أما في أحياء: المعابدة وجرول والحفاير ونهاية حارة المسفلة وبدايات حارة (جرول) فتجد فيها مباني وبيوت وقصور قديمة وحديثة مختلفة، تضم بأشكال من طرز متنوعة، من حجر وطين ولَبن، وآجر، وفي فضاءاتها ملامح من البناء الاسمنتي الحديث، وأخرى من خشب و(أعشاش وصنادق) في سهلها وقمم جبالها..

هكذا كانت بيوت مكة، وهنا تظهر بعض خدمات البيوت بوجود الأسر والعوائل برجالها ونسائها دون استثناء، والكل يشعر بواجبه تجاه أخيه وجاره، يواسي حاله الاجتماعي والاقتصادي والنفسي بطعام أو شراب، بمكان في بيته في حالات الطوارئ، يواسيه في أفراحه وأحزانه، يفضي إليه بهمومه ويسرّ إليه بضائقته وحاجته.. وكان أحدهم يسمح لمن لا يجد مسكنا بالبناء فوق بيته، ويسكنه ما عاش دون مقابل.. ومن القيم أن بعضهم قام بزيارة إلى أحد البيوت لتهنئة بمولود جديد، ولم يكن معه ما يقدمه فقدم (حجة بيته) هدية للمولود. وظل هذا البيت المُهدى مشهورًا في حارة الشامية.

إنه مجتمع كانت بيوته مخازن دلالات إنسانيته، بروح التعاون والترابط بالتقارب الاجتماعي الحي الفاعل في لحظاته والمتفاعل في امتداد وملاحظاته واهتمامه لا يفتر أو يبدو زيفًا أو مُقلقا غير آمن. إنها صور اجتماعية مطمئنة مواتية ومساندة لمتطلبات سبل الحياة.. إنه مجتمع كريم في عاداته وتقاليده، في قيمه وأخلاقه وآدابه.

خاتمة من حميم ترابطهم كانوا يفتحون أبوابا من بيوتهم إلى بيوت جيرانهم أو يخفضون في بناء الجدار فتبدو البيوت بيتا واحدا، في عيش واحد. للفتى الشاعر المكي عمر بن ربيعة في تغزله بهند:
إنما أَهلكِ جيرانٌ لنا .. إنما نحن وهم شيء أَحد