العَشِّي والطبّاخ .. وأنواع الأطعمة في مكة

العَشِّي والطبّاخ .. وأنواع الأطعمة في مكة

عبدالله محمد أبكر

كانت مكة تضج بأسماء جزّارين وطباخين وباعة أطعمة في محيط التجارة المجزأة في أسواقها وحاراتها، أسماء كان لها سبق الحضور المهني والتجاري والاجتماعي في آن.. منها أسماء مارست مهنة الجزارة والمطاعم وأسست استهلت بمحلات لهات بمكة في أماكن عدة، داخل الأسواق و(المنشيات)، وبعضها في أوساط الحارات وتحت بيوتها الخاصة، وبعضها في الشوارع والوجهات العامة، إلى أن توسع بعضهم إلى خارج حدود مكة.

من هو العشّي.؟
منذ قدوم تبّع الحميري إليها في الجاهلية وإنشاء المطابخ في جزء من أطرافها يومئذ، وهو ما عرف بجبل المطابخ المتفرع عن جبل (قُعيقعان) شمال المسجد الحرام، كانت له خاصة ولأتباعه عامة.. ولعل ذلك كان مبتدأ ما سار عليه (الطباخون) في امتهان الطباخة، بطهي الأطعمة للحجاج في مواسم الحج حتى زمن قصي بن كلاب إلى جانب الأعمال والخدمات التي أسسها وقدمها للحجاج من وفادة ورفادة وسقاية، وامتد هذا إلى القرن الرابع عشر الهجري بوجود مجموعة من الطباخين أو (العَشّيين ـ مفردها عّشِي) وهم الذين يقدمون طعام العشاء بعد طهيه، ومن هنا جاءت كلمة عشّي) وكانوا منتشرين في أنحاء مكة، مارسوا عمل الطباخة، حتى جرى صيتهم ليس في مكة فحسب بل إلى مناطق ومدن المملكة، كروافد تجارية في تموين حاجة المجتمع دون احتكار لنوعية معينة في ممارسة نشاط الإطعام، لأي جنس من الأجناس، خصوصاً في مناسبات تتطلب كمية كبيرة من الأطعمة، وكانت أماكن في أجزاء بيوتهم الخاصة، ولبعضهم محلات صغيرة يستأجرها لممارسة نشاطه.

فمن يتولى في بيته أو في محل له خارجي طبخ اللحوم مع الأرز بأنواعه : البرياني والمديني والزربيان والعربي والسليق إلخ...والادامات واللحم المقلقل، والسمبوسك والطرنمبة والزلابية وبقية الأعمال الحلوة..و ما يسمى بـ(المِيز) هذا هو (العَشِّي) وما يعرف اليوم بـ(الطّباخ) والطباخ أو العشّي نوعان: (طبَّاخ دولاب) وهو صاحب محل(دولاب) مهيأ بكامل أدوات الطباخة. و(طبَّاخ زنبيل) وهو من يقوم بالذهاب بعدته في (زنبيل) إلى أي مكان يطلب منه الطبخ فيه.

هناك بعض أسماء المعلمين وليس كلها، منها على سبيل المثال: أحمد المارنقا، وصالح كمال شرار، وعبدالله ومحمد عماش، من حارة الشامية. بكر شرطة ،سعيد ألطف وابنه عبدالله، محمد كنسارة، عبدالحميد الأبيض، سعيد كراث، صديق لبخة، إبراهيم الباني، عبدالرزاق يوسف البا، أبو مروان عبدالحميد، صديق عدني، من حارة المسفلة. حسن عشي، شيخ الطباخين ـ حارة أجياد. هاشم حلواني ـ سوق الصغير. عباس منديلي ـ سوق الليل. عبدالله منسي ـ أبو حميدي، عبدالوهاب تكروني، سعد فتة، أبو توفيق، سعيد الأعرج من جرول .

بعض أنواع الأكلات المالحة والحلوة إشارة سريعة إلى بعض أجناس تلك الأطعمة منها: اللحم المندي والمبشور والسلات والسليق والأرز البرياني والكابلي والبخاري والمعدوس ـ أرز بالعدس. وأرز بالحمص وأطباق: العيش باللحم والمصقّع والمطبق والمقادم والشربة، وإدامات: الرجلة والمحشي ومختوم البامية واليخني والسبانخ والملوخية والمعرّن أو المعرق والدبا والسلك واللفت، والفاصوليا خضرة وناشفة والبزاليا والشعيرية والمكرونة بالباشميل.

والأطباق الحلوة مثل: الطرنمبة واللنقطة والمشبّك والمعمول والغريبة والزلابية والدبيازة والهريسة واللدّو والفُلة والمربى، وتكاد تكون جلّ هذه الأطعمة من الأطباق الرئيسة في المائدة المكية منها في طوال العام، ومنها في المناسبات الخاص بعاداتها وتقاليدها بأسمائها ومصطلحاتها، التي كانت تقدم في المحلات والبيوت والمرأة المكية على وجه الخصوص تجيد طهيها وإعدادها، وتكون من يدها ألذ طعماً وأشهى.

الجزارة : والرأس المندي الجزارة في مكة المكرمة على نوعين، الأول من يذبح الدواب الكبار والصغار في المجزرة ويسمى (جزار روّاس) والثاني هو من يجلب اللحوم من المجزرة ويبيعها وهو جالس في دكانه ومحله في السوق، وهذا يسمى (جزار جُلَسي).

وهناك من يعمل في مجال بيع الرأس المندي، ويسمى روّاس مندي، ومن يبيع الشوربة يسمى (شوربجي) ومن يبيع السقط ـ أحشاء الدابة ـ يُسمى (السقطي) ومن يبيع اللحم والكباب (الميرو) المخلوط، والمشوي (السادة) يسمى (كبابجي) ومنهم يعمل الكبدة (جمل أو ضأن) مقلّية على الصاج.


المطبق والسمبوسة والفوّالة
المطبق : يعمل من رقائق العجين، مضاف إليه لحم بقر أو جمل مفروم وبيض وكراث وطماطم وسمن كلها بمقدار، وتلف أو تطبق وتوضع في الفرن أو على الصاج حتى تحمرّ، فتكون طبقًا جاهزًا للأكل.. هذا ما يسمى بالمطبق، منه المالح، ومنه الحلو بالسكر بإضافة الجبن البلدي والبيض والقشطة. السمبوسة وهي أيضًا من رقائق عجين باطنها لحم مفروم من بقر أو غنم، وتوضع في الزيت المقلي..

والفوّالة: بائع الفول المطبوخ في الجِرار، ويضاف للمشتري سمن بلدي أو زيت، وكان وقته في الصباح الباكر فقط.. ومنهم كان عمله طبخ الفول فقط.. وهناك من يبيعه في المحلات، ويؤكل بالعيش ـ الخبز ـ الحب ـ أو الأبيض.

وجميع هذه المأكولات معروفة ومشهورة كما أسلفت في مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف وجدة وينبع وما جاورها وقراها، ولا تكاد تجوب حارة أو سوقا في هذه المدن دون أن تجد فوّالا أو طباخًا أو محلاً واحدًا على الأقل يعمل على هذه الأكلات الشعبية، فكانت تعج وجودًا وحضورًا في المائدة الحجازية المتنوعة، إلى جانب بقية الأطعمة المختلفة: كالأسيوية والأفريقية والتركية والبخارية وغيرها.

إلى أن فتحت فروع لخدمات بعض هؤلاء الطباخين في مدينة الرياض في أحيائها الشعبية، في أنصاف القرن الرابع عشر الهجري كأول ظهور لهذا النوع من المطاعم الشعبية.. ثم توسع انتشارها في المدن المجاورة، وإلى المنطقة الشرقية ومدنها. وكان وجودهم في تلك المدن والأسواق شاهدًا غطى جانب الطلب الغذائي الإعاشي بمثل هذا الأنواع من المأكولات الشعبية الأصيلة.

وكانت تلك المطاعم والمحلات الشعبية تُدار بأيد أصحابها، وبمواد محلية ولحوم طرية طازجة، لم تكن تعرف المستورد الخارجي من مبردات ومجمدات، وما إليها من معلبات ومغلفات.. بل هي ذبائح ومنتجات محلية صافية مستوفاة لشروط الصحة والسلامة والنظافة، من قبل أصحابها حين يتحرّون في أعمالهم النقي الطيب والزلال الحلال، بكل أمانة ونزاهة، وسلامة قلب ورضا في البيع والشراء في السراء والضراء في كافة معاملاتهم التجارية والأخلاقية.

قيم وأخلاق ناصعة في المعاملات التجارية ومن القيم والكرم والأخلاق وهي كثيرة: كان بعضهم يقوم بطبخ الأطعمة وتقديمها كرفد ومساندة خيرية للطبقات الفقيرة خصوصا في مناسبات، الولائم والمآتم.. مع وجود أهالي الحارة يفزعون لهم دون مقابل. أو يطبخونها ويضعونها لفقراء الحرم على غرار ما كان ينفق ويقدم في (التكية المصرية أو الميرة المصرية) من نفقات أوقاف الحرمين قبل أن يتولى المؤسس الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ الإنفاق عليها ويقام لها مبنى خاص بأجياد. هذا إلى جانب استعدادات (العَشّيين) لتلبية الطلبات التي تعرض عليهم من قبل الموسرين والوجهاء في البيوت الخاصة، وفي المناسبات كالزواج والأعياد، ومن بعض المطوفين في أيام الحج حين يفد الحجيج إلى مكة، فيفتح لهم المطوف داره ورحابه ويشركهم في مائدته الخاصة فيأكلون جميعاً وأشتاتاً.

ومن تلك القيم والأخلاق من تلك الصور الأخلاقية الناصعة من سلامة ونزاهة ونأي عن الغش والخداع في المعاملات المهنية والتجارية: (بائع حليب لا يحلب دوابه من بقر أو غنم أو إبل فور ورودها الماء مخافة أن يشوب حليبها ماء جديد لم يتكون منه حليب بعد. ويقول:(أروح فين من الله.. إيش أقوله: حليب ولا موية..؟) وإذا حلبها واستخرج القشطة من الحليب لا يبيعه كحليب دسم بل يبيعه كلبن رائب منزوع الدسم.

ثم هو أو غيره إذا أراد بيع دابة من دوابه لا يبيعها فور إعلافها لئلا تُرى عند عرضها للبيع سمينة الجسم، ويغشّ المشتري فيها ويكتشفه بعد الشراء، بل كان يتركها حتى تهضم ما علفته وتعود بطنها إلى حالها الطبيعي. وكان صاحب الميزان يغسل ويفحص أواني الوزن أولاً بأول، كي لا تثقل ويزداد وزنها وتدخل في مقدار الموزون والمكيل. وكان صاحب الفرّان يقلّل من إضافة الخميرة في العجين حتى لا يبدو المخبوز وقرص العيش منتفخًا كبيرًا بينما هو خفيف وقليل. وهكذا بائع الشوربة يطبخها بإضافة كمية كبيرة من الماء في أول الطبخ لئلا يضطر إلى إضافة كمية ماء أخرى بعد انتهائه من الطبخ، فتعود ماءً وطعمًا فاترًا.

وبائع فول كان يبيع فوله وينفد ما في جرته سريعًا، فيقول له رفاقه: (انت تبيع الفول بسرعة ليه ما تسوي جرتين .؟) فيرد قائلا: (لو سويت جرتين كيف جاري يبيع فوله.؟) إلى غيرها الكثير والكثير من تلك القيم والأخلاق والأمانة في معاملاتهم التجارية والإنسانية بالحسنى والاستقامة، والشعور بالآخر، إنها أخلاقيات وقيم كانت تجري بينهم ويجرونها بين الزبائن وعامة الناس، في ذلك الزمن الجميل رجالهم ونساؤهم في ذلك سواء.

قيم وأخلاق كانت هي المواد الجالبة للزبائن والمُنفقة للسلع في آن قبل جودة السلع أو الدعاية والإعلان، ومعقولية الربح والسعر من دونما إضرار أيضا كانت جالبة لأرزاقهم وسعادتهم، بالسمعة الطيبة والرضا والقناعة بعيدًا عن الجشع والمخالفات والخداع، والتي يعبّر بها في وقتنا الراهن بالأخلاق (التجارية) أي الزيَف التجارية. أسماء معلّمين مطابخ ومطاعم تجارية زاولت مِهنِها وأعمالها بطرق شعبية بسيطة رضيت بالربح القليل كأساسيات. التجارة الرابحة، بكسبها الحلال بتعاملها الشريف والنزيه بالتزامها الأخلاق ومخافة الله في معاملاتها التجارية، التي دعا إليها الشرع بفروضه وسننه ونواهيه ومحازيره، وبما يزهّد فيه ويتورّع عنه، وما يُستحبّ منه ويندب له، وما يبرز حسنه ومعيبه وغشّه، ثم لا عيب في الصنائع والمِهن طالما الكسب حلالا طيبًا، وإنما العيب في الانسان، كما لا عيب في الزمان.. بل كل عمل وصنعة أو مهنة اتصفت بالشرف والسلامة الأخلاقية والمعاملة الشرعية.. صغيرة أو كبيرة، قريبة أو بعيدة فإنه لا غبار ولا عار على من اكتسب وأكل أجرها في كل زمان ومكان.

وهناك مَن نمت مهنته وتجارته وتطورت أعماله وأثمرت وقدمت الخير الكثير لأصحابها ولأهلها وذويها وكافة الأفراد والمجتمع.. وربما لا تزال هذه التجارة تعمل إلى اليوم وكانت بدايتها بمهن متواضعة وتجارة ومحلات محدودة، وكان أساسها مخافة الله في استهداف الزبائن بالصدق والكسب الحلال بالربح الطيب بالنوايا والمقاصد الحسنة.