الجانب الانساني للمعلم عبده فتيني رحمه الله.

قبل أن أتحدث عن (زوج أختي) المعلم عبده فتيني رحمهما الله.. لا بد ان أشير إلى أنه لم يكن في مكة المكرمة  وبقية مدن المملكة مطاعم للأكل بمفهومها الحالي ، وإن وجدت فهي مطاعم شعبية صغيرة ، ذلك لأنه لم يكن هناك حاجة للمطاعم لأن الناس كانوا يقومون بطباخة اكلهم في بيوتهم على عكس غالبية الناس في وقتنا الحاضر ، ولم يكن الاحتياج إلى خدمات الطعام إلا في المناسبات الكبيرة كالزواجات والمآتم وولائم العقيقة ونحوها.. فكان معظم الطباخين  يأتون إلى دار صاحب المناسبة ويطبخون بفناء أ و حوش منزله ، أو إن كانت المناسبة كبيرة أو أن دار صاحب الوليمة غير مناسبة ، فكان الطباخ يطبخ في مكانه المعتاد الذي كان يرف باسم (الدولاب).

وكان رحيمي المعلم عبده فتيني  أحد أولئك الطباخين المشهورين بمكة المكرمة ، إذ كان معروفا بجودة طبيخه ودماثة أخلاقه رحمه الله ، في الخمسينات والستينات الميلادية.

وقد حكى لي والدي رحمه الله عن قصة لقائه وتعرفه على رحيمي عبده فتيني وأود أن أسردها لما فيها من قيم اجتماعية واخلاقية جديرة بالذكر ..فقد كان المعلم عبده فتيني  في الرياض مع زوج أخته المعلم (محمد جاوا) وكانا يطبخان في قصر  جلالة الملك عبد العزيز  رحمه الله، وقد استأجر المعلم عبده فتيني منزلا كبير له ولرحيمه وكان مقصدا  للقادمين ولكل من جاء من الحجاز يسكن معهم .. وقد ذهب والدي رحمه الله إلى الرياض طلبا للرزق بعد أن أغلق محل الصرافة بمكة لأنه غير مجدٍ (ولا يأتي بهمه) ، ووصل الرياض لا يعرف أحدا إلا  الله عز وجل .. فدلّوه على بيت  المعلم عبده فتيني  وتعرف عليه وأقام معه ، ثم مالبثت العلاقة أن توطدت بينهما ، وطلب والدي منه  قرضا يبدأ به تجارة بسيطة فما كان منه إلا أن جاء به إلى خزنتة الحديدية (تجوري) وفتحها وقال له خذ ما شئت منها وتركه وخرج واغلق الباب من خلفه..

ثم بعد ذلك بيومين أعد والدي العدة ليكسب رزقه من مهنة (غسيل الملابس) وهذه المهنه كان من يمتهنها يعرف ب(الدوبي).. ولكن المعلم عبده فتيني لم يكن مشجعا له لأن المهنة لا تليق  بسنه وخبرته في التجارة.. وطلب منه أن يعمل معهم( مؤقتا) في مطبخ قصر الملك عبد العزيز رحمه الله. فعمل معهم فترة طويلة .. إلا أن حسه  التجاري كان يطغي على الجانب المهني فيه.. فكان يجمع جلود المواشي التي يتم طبخها .. ويجمعها مع بقية المتعلقات كالأرجل (المقادم) والأحشاء،؛ بدلا من رميها في القمامة ويقوم بتنظيفها وبيعها على الدباغين وبائعي ( الروس والمقادم) ونحوها.. وهكذا زاد دخله وكثر ربحه ولله الحمد.. وفي طريق عودتهما من الرياض في إجازة لرؤية أهاليهما ، أخرج والدي صندوقا خشبيا صغيرا كان قد صنعه بنفسه مليء بالنقد والجنيهات الذهبية وأعطاه للمعلم عبده فتيني وقال هذا ما كسبته برزق من الله فخذ ما شئت منه فقد كان لك الفضل بعد فضل الله.. فرفض المعلم عبده ذلك وأن (هذا رزقك وجنيته بجدك واجتهادك.. وليس لي فيه حق) .. أورد هذه القصة التي تجلت فيها أروع قصص الوفاء بين الاصدقاء.. الوفاء الذي أصبح عملة نادرة قل ما نجدها في زمننا  هذا..

وتوثقت علاقتهما ومحبتهما في الله وازدادت عرى المحبة والاخلاص بينهما حينما اتبع والدي رحمه الله  (نهج نبي الله شعيب عليه السلام) فقال للمعلم عبده إنني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ.. فتزوج المعلم عبده فتيني أختي رحمها الله والدة (محمد نور فتيني واخوانه) وفقهم الله.

وامتدادا لمحبة والدي له ورثنا أنا واخوتي محبة هذه الشخصية الطيبة.. ولم تكن المحبة من طرف واحد..  إذ كان كثيرا ما يغدق علينا من حبه وعطفه وكرمه؛ وكنت وأنا في المرحلة الثانوية استذكر دروسي في مقعده الخاص بمنزله (بمحلة سوق الليل)  ومعي اصدقائي معالي د. محمد عبده يماني ،أ. محمود خفاجي.، أ. عدنان خضري وغيرهم رحم الله من توفى منهم وأسبغ نعمة الصحة والعافيةعلى الباقين.. وكنت أقضي معظم  عطلتي الصيفية في مطبخه مساعدا ومعاونا له ولساعده الأيمن المعلم سالم الحربي (سالم منشاوي) رحمه الله.. وكنت ومن خلال قربي منه في تلك الفترة اتلمس  فيه جوانب إنسانية فريدة  كالوفاء والطيبة والسخاء والخبيئة ،فقد كان لا يأخذا أجرا للطباخة أو قيمة تأجير لوازم الأفراح من المعسرين أو من يعانون من قلة ذات اليد ، وغير ذلك مما كان الله به عليم.

وأذكر يوما أنني كنت مستلقيا في جانب من مقعده لنومة القيلولة ، وجاءه شخص يطلب منه قرضا كبيرا، على أن يرهن عنده (حجة ارض).. وكنت استمع إليهما وهما يظنان أنني نائما.. فالتفت إليهما وذكرت لرحيمي (عبده) أن  المبلغ اكبر بكثير من الارض المذكورة ، فما كان من الشخص (المقترض) إلا أن صاح بي (إنت ما كنت نايم ، إيش صحاك ؟)..  طبعا لم يكن تدخلي إلا حرصا عليه وعدم استغلال طيبته..فأنا اعتبره والدي الروحي ..ولا أتذكر إن كان اقرض ذلك الشخص المبلغ أم لا..

المواقف والقصص كثيرة مع رحيمي المعلم عبده فتيني لا يكفي المجال لسردها.. تلك هي  بعض سمات المعلم عبده فتيني ذلك الانسان الطيب العفيف نظيف اليد والقلب.. لا يرد من يقصده ولا يحب كلمة (لا).. وينطبق عليه قول الشاعر:(ما قال ..لا.. قط إلا في تشهده.. لولا التشهد كانت لاؤه نعمُ).. رحم الله والدي ورحيمي عبده فتيني وجمعني بهما وابنائهما ووالدتي في جنات النعيم.. مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وبالله التوفيق.

د. سالم أحمد مليباري