قصة مجلة الروضة التي أدخلت مؤسسها مستشفى المجانين
مجلة الروضة
أول مجلة سعودية ثقافية مصورة للأطفال صدرت بالمملكة العربية السعودية بمكة المكرمة عام 1959م/1379هـ برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله عندما كان يشغل منصب وزير المعارف آنذاك. كانت تطبع بدار الأصفهاني وشركاه للأوفست بجدة، وتصدر أسبوعياً كل خميس، واستمرت لمدة سبعة أشهر.
أسسها ورأس تحريرها الأديب طاهر عبد الرحمن زمخشري المعروف بـ "بابا طاهر" (1332 – 1407 هـ) وهو من شعراء الرعيل الأول، وأحد الرموز الإعلامية والثقافية في المملكة العربية السعودية، ومن مؤسسي الإذاعة والصحافة الحديثة ورائداً لأدب الطفل فيها، فقد روى رحمه الله «بدأت نشاطي الإعلامي مع أنشطة الإعلام قبل أن تكون وزارة الإعلام وكنت ولله الحمد من مؤسسي الإذاعة في المملكة العربية السعودية، وقدمت أكثر من 18 برنامج منهم برنامج الأطفال وكان في نظري أن الأطفال تعليم وتربية فأخذت على عاتقي بالنسبة لبرنامج ركن الأطفال أن أربي في الأطفال الخطوط العريضة في مستقبلهم وكنت كالمكتشف، أين اللماحية والعبقرية أين الذكاء في هؤلاء الأطفال فعنيت بهؤلاء الأطفال عناية خاصة تلفت النظر». وقد استثمر الزمخشري النجاح الكبير الذي حققه برنامجه الإذاعي «ركن الأطفال» بإصدار مجلة للأطفال امتداداً للبرنامج اسماها «الروضة»
وعن خلفية فكرتها روى رحمه الله «كان صاحب السمو الملكي النائب العام لجلالة الملك المعظم وولي العهد سمو الأمير فهد، كان يشغل منصب وزير معارف وكان في تلك الأيام مشغول بكل ما أوتي من قوة في تأسيس أو إحياء أو تنفيذ فكرة جامعة في الرياض فكان معطيها كل جهده وكل طاقته وكل وقته على عشان لازم ينفذ فكرة إنشاء جامعة في الرياض وكنا نزوره صباح ومساء وعلى اتصال دائم به. كنا كمجموعة مشغولين بالفكر والأدب والصحافة في تلك الأيام وفي مجلس من مجالسه دار بحث حول الأفكار المطروحة عن جامعة الرياض، وكان عامل مخطط على أساس أنه يبدأ الجامعة قبل كل حاجة لازم يكون في كلية التربية كلية الآداب كان عنده طموح أنه يبدأ الجامعة بكلية الطب وكنا نناقشه في حكاية كلية الطب أنه لازم تكون أخر كلية مش أول كلية وهو بإصرار كان يقول أول كلية لازم تكون كلية الطب، فأنا قلت له بأسلوبي طال عمرك شجرة باسقة كبيرة جداً من غير بذور قالي؟ اش تقصد!؟ قلت له إحنا خلينا نعتني بالأطفال أول علشان نوصل للجامعة فالاهتمام بالطفل قبل كل شي، وأنا كنت أيامها نفسي مشغول ببرنامج الأطفال وكل شؤون الطفل لأنه اللي يعطي الإنسان قدرة على أنه يعيش في فكرة النجاح اللي يقابله والواقع الجمهور كان معتني ومهتم بي على أساس إني نجحت في تقديم برنامج الأطفال في الإذاعة، فنجاحي في برنامج الأطفال في الإذاعة أعطاني تفكير في العمل في كل ما يتعلق بشؤون الطفل، فكنت أتفكر في عمل روضة للأطفال وعمل كذا وكذا فاختصرت الحديث معاه وقلت له نسوي مجلة للأطفال، قالي يا لله نفذ ونحنا وراك، قلت له تأكد طال عمرك أنه ما في إمكانيات والمسألة يبغالها رسامين ويبغالها مطابع ويبغالها كذا وكذا، فقال لي ابدأ وكون عملي تجد الإمكانيات معاك، فلقطت الكبيبة من راس القدر على ما يقولوا وجري على محمد حسين أصفهاني والواقع واقولها بمزيد الشكر والامتنان والاعتراف بالجميل أنه أول من حط يده في يدي وقلي يا الله نسوي مجلة للأطفال يا موت يا حياة وكنا شباب متحمسين للحكاية فبدينا، قلي أنا جبت مكنة أوفست، فكانت الروضة دي أول عملية قامت في المملكة العربية السعودية بالاوفست، كلفت مطبعة الأصفهاني كثير جداً جداً، وعملنا بروفات على إعلانات ملونة وجاب مسكين مهندس وجاب طبيع مخصوص للأوفست، ولسه البلد ما تعرف حكاية أوفسيت فكل ما نقول لهم أوفسيت يضحكوا علينا يقولوا لنا ايش أوفسيت نقولهم مطابع أوفسيت، فعملنا حفلة تكريمية وافتتاح كبير جداً جداً لمجلة الروضة».
وعلى ضوء ذلك التشجيع الذي حظي به الأديب من الملك فهد بن عبد العزيز بت في الترتيبات واتخاذ الإجراءات لاستصدار التصاريح اللازمة للمجلة وقد كان ممن دعموا وتابعوا إصدار تصريح المجلة وبادروا في الرغبة بالكتابة فيها معالي الدكتور أحمد زكي يماني في رسالة بعثها للأديب بتاريخ 22/06/1378هـ مما جاء فيها «سعدت برسالتك وفرحت بما أنت مقدم عليه، وسأبذل أقصى الجهد في تحقيقه إن شاء الله، والطلب موجود بلجنة الأنظمة بمجلس الوزراء وسيتوقف البت فيه على صدور نظام المطبوعات، والنظام في مرحلته الأخيرة وسيصدر خلال شهر واحد. ومقدماً أرجو أن تقبلني كواحد ممن يتشرفون بالكتابة في مجلة بابا طاهر».
انطلاقة المجلة
في غضون ذلك صدرت موافقة إدارة المطبوعات بموجب خطاب المدير العام للإذاعة والصحافة والنشر آنذاك الأستاذ إبراهيم الشورى رقم 404/5/2/م في 21/10/1378هـ والذي نص على "أشير الى خطابكم الذي تعرضون فيه أنكم ستتولون رئاسة تحرير مجلة الروضة وإدارتها بنفسكم. نفيدكم انه لا مانع لدينا في ذلك ما دمتم ستتمشون وفقاً للأنظمة المتبعة ودمتم".
وأسس مقراً للمجلة بمكة المكرمة عبارة عن مكتب كبير كلفه مبالغ طائلة ما بين ديكورات، أثاث، واستقطب من مصر محررين وفنيين ورسامين لرسم قصص وأغلفة المجلة برواتب سخية. وأقام حفل افتتاح كبير بفندق البحر الأحمر الذي كان يعتبر من أرقي فنادق جدة آنذاك، على شرف خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله حينما كان وزيرا للمعارف ومنشغلاً بتأسيس جامعة الرياض وعقب انتهاء الحفل داعبه قائلاً: "أنت سوّي الروضة وأنا أسّوي الكلية".
وصدرت المجلة في عددها الأول يوم الخميس 14 ربيع الأول 1379هـ - 17 سبتمبر 1959م، من 16 صفحة مقاس 22×30سم بغلاف أمامي ملون عليه رسومات جذابة للأطفال يحمل شعار «الله معانا» وكتب عليه "مجلة الطفل العربي السعودي" وغلاف خلفي بإعلان تجاري وتضمن العدد موضوعات ثقافية مختلفة تناسب عمر الأطفال. حكايات وألعاب ومعلومات، وركن تعارف، ورسومات تخاطب الطفل وتداعب اهتماماته. قصتين مصورة بالألوان مجزئتان على عددين وتوالت اعدادها تباعاً كل خميس على نفس النمط والمواصفات مع تغيير تصميم وموضوع الغلاف والمحتوى الداخلي والرسومات، وكان إعلانها التجاري موجه للأطفال تضمن رسماً كرتونياً لعلبة مسحوق غسيل تايد وأطفال يلبسون ثياباً بيضاء وهم داخلون إلى مدرستهم وعبارة "ملابسهم نظيفة... بفضل استعمال تايد". ولعل تلك كانت بداية الإعلان التجاري الملون على المجلات.
وقد تميزت طباعتها عن سائر المطبوعات في المملكة آنذاك بأنها أول مجلة سعودية تستخدم نظام "اللاينوتايب" في الطباعة، وهي حروف معدنية يمكن تصفيفها لتحمل كلمات قابلة للتلمس بالأصابع واستخدمت هذه الطريقة على نطاق واسع في عالم النشر والطباعة لاحقاً.
بيعت في الأسواق بقيمة نصف ريال سعودي واشتراك سنوي بقيمة 25 ريال داخل المملكة، وكان من أوائل من اشترك في المجلة رجل الأعمال السعودي السيد معتوق أحمد حسنين رحمه الله في 22/04/1379هـ بقيمة 300 ريال لابنيه أسامة وزكية اللذان كانا يدرسان بمدرسة بورتسعيد بالقاهرة، وأقربائه رشاد حسن حسنين، وخالد سعيد حسنين بالفلق بمكة المكرمة، وغازي صالح حسنين وسمير جميل حسنين بالبغدادية بجدة.
لقد كانت المجلة نموذج أدبي وإعلامي للطفل في مرحلة مبكرة للحركة الأدبية والثقافية في بلادنا قدمت التوجيه التربوي والفكري والنصيحة والنكتة والمعلومة والفوازير بأقلام نخبة من الكتاب والأدباء والشعراء الذين استعان بهم الأديب منهم (إبراهيم علاف، أحمد السباعي، حامد مطاوع، حياة عبد الحميد عنبر، صالح جلال، عباس غزاوي، عبد الحميد عنبر، عبد الغني قستي، عزيز ضياء، محمد عبد الله مليباري، محمد عمر توفيق).
وبالرغم من النجاح الذي حققته المجلة والصدى الواسع الذي حظيت به بين شرائح من نخب المجتمع إلا انها واجهت تحديات وصعوبات منها توقف الأديب عن الكتابة فيها بعد العدد الخامس وابتعاده عنها لأسباب صحية. فتوقفت بعد العدد 12 الصادر في 04/06/1379هـ لمدة 26 يوماً ثم استأنفت صدورها بعد أن أسندت مهمة تحريرها إلى الأستاذ عبد الغني قستي وتوقفت مرة أخرى بعد صدور العدد 24 في 20/09/1379هـ، ثم تولى مهمة تحريرها الأستاذ محمد زكي عوض حتى آخر عدد صدر لها خلالها توقفت بعد العدد 25 لمدة أسبوعين، ثم توقفت نهائيا عن الصدور بعد العدد 27 الصادر في 17/11/1379هـ - 12/05/1960م، وحاول العديد من أصدقاء الأديب ومحبيه انتشال المجلة وانقاذها دون جدوى الأمر الذي أدى في النهاية إلى إغلاقها نهائيا.
بابا طاهر من الروضة إلى مستشفى المجانين
كان الأديب قد أنفق كل ما يملك في سبيل إصدار المجلة واستمراريتها حيث أنفق نحو 250ألف ريال وهو مبلغ كبير جداً في ذلك الوقت، وبرغم ما حققه من صدى لم تحقق إيرادات مالية كافية لتغطية مصروفاتها وما أنفقه عليه،ا فتكبد خسائر كبيرة وأصبح مدانا بمبالغ كبيرة فأصيب الأديب بالإحباط الشديد وانهارت أعصابه فنقل الى مستشفى شهار بالطائف للأمراض العقلية على اعتقاد أنه أصيب بالجنون، وعن ذلك روى رحمه الله «هناك فرق كبير بين انهيار الأعصاب والجنون، وقد أصبت بأنيميا، علاوة على أن حياتي في السابق كلها كانت بين كواليس الإذاعة والمطابع: ليل نهار، نتيجة هذا الجهد المضني والعنيف انهارت أعصابي وتداخلت عليَّ الأشياء فاتهموني بالجنون،... بالطبع حزنت جداً لأنهم خلطوا بين الجنون والانهيار العصبي، ومن المواقف المؤسفة أن الأمر اختلط على الطبيب الذي كان يعالجني فعندما عدت إلى صحتي وذهبت إليه لأخبره إنني بخير وأصبحت طبيعيا، طالعني الدكتور وقال: كلهم يرددون نفس العبارة وأعادني إلى العنبر مرة أخرى،.. وأذكر أن بعض اصدقائي ومنهم طارق عبد الحكيم جاءوا للمستشفى يريدون إخراجي ويبدو أن شكلي كان قد تغير بحيث لم يعرفوني وقابلتهم وقالوا لي: تستطيع إخراج بابا طاهر، فقلت لهم: كيف؟، فقال أحدهم: سنعطيك عشرة ريالات. ولكن أحدهم تحقق مني وعرفني"..
وعندما علم الملك سعود رحمه الله بمرضه أمر بنقله للعلاج في مصر فنقل وادخل الى مستشفى الصحة النفسية بحلوان بالقاهرة حيث تلقى فيها العلاج وأقام فيها فترة من الوقت إلى أن تماثل للشفاء وخرج بروح ومعنوية عالية مستأنفاً مرحلة جديدة من حياتها تاركاً خلفه معاناته مع تجربة مجلة الروضة إذ قال «والله اجتمعت حولي الأسباب فتعبت من أجلها لكن نجحت حتى صارت نكته بالنسبة لي عندما انهارت أعصابي ودوني المستشفى وبأقراء خبر في جريدة الأهرام قالوا وقفت مجلة السندباد ابتداء من الأسبوع القادم لأسباب مالية، فقلت إذا كانت السندباد وقفت بعد 17 سنة لأسباب مالية وعندهم كل الإمكانيات، فأنا بطبيعة الحال لازم أتجنن يصير عليَّ حاجة أكثر من الجنان، فالسنة اللي صدرت فيها مجلة الروضة وقفت السندباد..».
وهكذا أسدل الستار على تجربة أول مجلة سعودية للأطفال «الروضة» مع مؤسسها الأديب طاهر زمخشري بعد سبعة أشهر من صدورها التي قال عنها «إن تسمية بابا طاهر قد جاءت من عطاء وخير برنامج الأطفال وقد كان من عطاء أصدقاء الطفولة مجلة الروضة، وقد كانت تجربة لا اسميها فاشلة بل ناجحة فقط لم يكتب لها الاستمرارية».
وبتلك السطور المضيئة لتجربة مجلة الروضة التي انقضى عليها أكثر من ستين عاماً، أرى أن هناك حاجة ماسة لإحيائها برؤية جديدة تواكب عصرنا الحالي وتلبي احتياجات أطفالنا التربوية والترفيهية بما يناسب عادتنا وتقاليدنا. كما أدعو المعنيين بجمع التراث الأدبي والثقافي السعودي إلى العمل على جمع كافة أعدادها التي صدرت وإضافتها إلى تراثنا بصفتها أول مجلة سعودية تصدر للأطفال، وبحوزتي منها العدد الثالث، والسابع، والثامن وهي من مقتنيات الأديب رحمه الله التي احتفظت بها.
بقلم | محمد توفيق بلو
0 تعليقات