عبدالله رواس.. الإعلامي الذي حذق الأدب وحفظ التاريخ!

* أزعم أنّه عند كتابتي لهذه المقالة وجدتني في حيرة شديدة من أمري، وذلك من جهة القدرة على توصيف أو تحديد ملامح الشّخصية التي سوف أكتب عنها، وهي شخصية الإنسان عبدالله روّاس، فهو قد عُرف بين مجايليه بأنّه الإعلامي الذي كان -بجانب كونه مذيعًا متميزًا- يتولّى إخراج أشهر البرامج في الثمانينيات والتسعينيات الهجرية، في قناتنا التّلفزيوينة الوحيدة آنذاك، أعني برنامج الشّيخ على الطّنطاوي «نور وهداية»، ولم يكن من السّهولة واليُسر أن تكون قريبًا من العَالِم والرّاوية والأديب الطّنطاوي الذي كانت مجلّة الرّسالة في حقبتها الذّهبية تفتح له صفحتها جبنًا إل جنب مع جيل الروّاد من أمثال: مصطفى وصادق الرافعي، وشكيب أرسلان، ومحمّد سعيد العريان، وسواهم، وقد أفلح عزيزنا الروّاس، ليس فقط بأن يكون قريبًا من الطّنطاوي؛ بل أن يحوز على إعجاب الشّيخ، وينال وافرًا من مودّته، وكثيرًا من ثنائه، وفي رأيي المتواضع أنّ شخصية الروّاس يتداخل فيها الإعلامي مع الأديب والرّاوية الذي يحدّثك عن التّاريخ الاجتماعي للبلد الحرام، حتّى أنّه لمعرفته الدّقيقة بأحياء مكّة القديمة والمندثرة يشعرك بأنّه ابن تلك الأحياء جميعها، نقاها، وشاميتها، ومسفلتها، وشعبها وقراراتها، وإن كان هواه مثلي ينزع نحو الشّامية لمحبّته الصّادقة للشّيخ المفضال عبدالله بصنوي -رحمه الله-، وروايته لا تتوقّف عند ذلك؛ بل إنّه هو قارئ للتّاريخ العربي والإسلامي، ويصغي للآخرين عندما يتحدّثون، ولكنّه لا يتورّع عن تصحيح هذه الرواية وتلك، وبشيء من الحِدّة المحمودة، والتي ألفناها لمعرفتنا بصدق نواياه وصفاء نفسه، وحميد سجاياه، وهو يُنزل النّاس منازلهم، فلقد دعوته يومًا إلى داري، ووجد أحد آبائنا الكبار الذين نعتزّ بهم، يجلس في صدر المجلس، فسعى إليه في كثير من الأدب الذي طبع سلوك الأجيال التي تفتحت أعينها على تلك النّماذج المضيئة، ولعلّه لم يغبْ عن ذهني ذلك المشهد الذي رأيته في مطلع التسعينيات الهجرية عندما قدم أستاذ الأجيال النّحوي المرحوم الشّيخ عبدالله دردوم لحلقة فضيلة السيّد محمّد علوي المالكي -رحمهما الله- في باب السّلام، فقام الأخير من مجلسه وخصّ به أستاذه الذي كان متواضعًا في كلّ شيء، وقال له بصوت مرتفع، حتي يسمع الحاضرون شهادة الصّدق: «إنه ليشرّفني بأن أكون أحد تلاميذك وإن كنت أقلّهم شأنًا».

* عزيزنا الكبير في كلّ شيء -الروّاس-، قارئ نهم، ويحتفظ بالمقالات التي تهمُّ القريبين منه، ويذكّرني في هذا المنزع بأستاذنا المرحوم محمّد صلاح الدّين الدّندراوي، بل إنّه من السّخاء الذي جبلت عليه نفسه، فتجده إذا ذهب إلى حوانيت الورّاقين والصّحفيين يتذكّر أصفياءه بما يميلون إليه في قراءاتهم من صحف

ومجلات وكتيبات، وممّا يُحمد لعزيزنا أنّه إذا حضر مجلسًا ولم يرَ أحد المقرّبين سأل عنه المضيف؛ بل إنّه ليلحّ في السّؤال والاستفسار، وما ذاك إلا للأحاسيس الصّادقة التي تنطوي عليها نفسه، التي أستطيع القول إنّها صفت وانتفى عنها كلّ ما يدخلُ في باب الصّغائر التي تجلب معها ما يحسن تجنّبه والنّأي عنه.

* وإذا كان عزيزنا الأديب النّابه الأستاذ محمّد عمر العامودي يسألني متلطّفًا عن مقولة للرحالة الإنجليزي المعروف سير ريتشارد بيرتون، الذي وصف في مدوّناته عن البلاد المقدّسة شمائل أهل الجوار بمقولة صادقة، وهي أنّ المكّي أوّاب بطبيعته، فأجيبه متشوّقًا حينًا، ومنتحبًا حينًا، وألوذ بالصّمت حينًا آخر، فإنّ الروّاس يلحّ كذلك في سؤاله عن شخصيّات شعبية وردت في سياق سردي في الأشجان مثل: «قالوا إنّ صوته في الحلقة كان متميزًا بين بقية الأصوات، يتنقّل بين الصّفوف، ثمّ يعود لصفّ جماعته، إلا أنّها كانت ليلته»، ويسأل ترى من هو فارس تلك اللّيلة، فاستغرق في التّفكير، وألوذ بالصّمت، لأنّ ما يحيط بهذه الرّوايات الشّعبية من الرّوي والتّفسيرات المتعدّدة ما يستوجب السُّكوت والحذر، وكما قيل قديمًا أو متوارثًا «دواء العيون عدم مسِّها».

* ولقد بقي جانب آخر من جوانب شخصية عزيزنا الروّاس لا يفضّلُ الحديث عنه كثيرًا، وهو صلته لرحمه، وعطفه على صغيرهم، وتقديره لكبيرهم، وأزعم أنّني رأيته يقبّل أيدي إخوته الأكبر منه سنًّا، ولا يتبسّط في الحديث في حضورهم، وتلك منابع عذبة ارتوت منها الأجيال السّابقة، وربّما صعب على بعض الأجيال الحاضرة فهمها، فضلًا عن التأسّي بها.

بقلم عاصم حمدان | نشر بجريدة المدينة في 29 أكتوبر 2014