"رحلة الحج".. بعيون أدبية
كان كثير من الرحالة والعلماء وخاصة من المغرب والأندلس يفدون إلى مكة المكرمة لا للحج وحده، ولكن لينشروا العلم ويستزيدوا منه ويكونوا صلة ثقافية بين الشرق والغرب. ولقد برز علماء المغرب على غيرهم في تدوين الرحلات، ومن يطالع كتب الأندلسيين كـ(نفخ الطيب) للمقري و(فهرست الأشبيلي) وغيرهما، يجد أن كثيراً من العلماء الذين رحلوا إلى مكة والمدينة كانوا رسل علم وحملة ثقافة ودعاة معرفة، حتى أثر عن بعضهم كتب دونت ما كان يطرح فيها من مسائل العلم وقضايا الأدب والنقد واللغة. وعلى الرغم من أن الدور العلمي لرحلات الحج يمكن أن يكون موضوعا لكثير من البحوث نظرا لغزارته وتنوع مضامينه، فقد حفلت كتب الرحالة بالعرض والمناقشة التاريخية التي تؤرخ لهذه البلاد ولعلمائها ووصف سكانها وأنشطتهم إلى جانب ما فيها من معلومات وتحليلات ذات أهمية بالغة لتاريخ الأماكن المقدسة وجغرافيتها ولسكانها ومناحي نشاطاتهم بالاضافة الى الحج ومناسكه.
ومن أولئك الذين يعانون مشاق هذه الرحلة هم الحجاج الشناقطة، فقد كان حضورهم ودورهم مميزاً، رغم الظروف السياسية والأمنية، فكتبوا عن تلك الرحلات السنوية إلى الحج، منها رحلة الحاج البشير ابن الحاج أحمد البرتلي، التي تمت عام 1204هـ وهي تعد أقدم تدوين لحجاج شنقيط، حيث يذكر فيها مراحل الحج من (التوات) إلى (الحرمين) وغيرها من رحلات الحج الشنقيطية.
-
كذلك كتب محمد لبيب البتنوني رحلته إلى الحج 1327هـ، وقد وصف كل ما رآه منذ وصوله مدينة جدة وكل ما رآه في مكة من عدد المساجد وغيرها، متطرقاً في الوقت ذاته إلى تلك السلبيات التي رآها كالتسوّل عند الحرم وسلوك بعض الحجّاج، وغير ذلك من الأمور التي تعد غير مناسبة لمكانة الحرم والمسلمين، كما لا يغفل في الوقت نفسه عن بعض الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليم والمكتبات.. إلخ، حيث يقول حول ما يتعلق بذلك: ''فالعناية بالمسائل الصحية في مكة قليلة جداً، وليس فيها مستشفى ولا صيدلية سوى دكّان عطارة بسيط ضرره أكبر من نفعه''.
-
كما تطرق إلى وجود القباب والمزارات الموجودة في مكة وأطرافها، ومنها القبة التي على قبر أم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ في مقبرة المعلاة، حيث يوجد في داخلها مقصورة من خشب الجوز، وكذا قبة لبعض الشخصيات التاريخية كجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعبدالله بن الزبير وغيرهما من الأعلام. ويصف كذلك مساكن مكة وعدد سكانها ومهنهم وعاداتهم والعملة المستعملة في زمانهم، وغير ذلك مما له شأن وأهمية في تلك الفترة التي دوّن فيها رحلته، ويتطرق إلى الوضع غير الصحي لماء زمزم، حيث يستعمله الناس للشرب، بينما هناك فتحات مكشوفة لتلك العيون يستخدمها الناس لغسل ملابسهم
-
ومن رحلات الحج ذات القيمة العلمية هي الرحلة الحجازية الصغرى، التي دوّنها أبو عبدالله محمد بن عبدالسلام الدرعي التمكروتي 1239هـ، الذي سجل بعض سلوك الحجاج غير الجيّد، كالازدحام والفوضى، حيث يقول في ذلك: ''ونزلنا ضحوة الأزلم، ووقع الازدحام على مائه الضنين الخبيث، وليحذر من هذا المكان، لا سيما زمان المصيف''.
-
وتعد رحلة الدرعي زاخرة بالمعلومات والأخبار والإفادات في شتى مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والعمرانية والتاريخية، هذا مع قصر مدة الرحلة.ولا يخفى على المهتم بهذا الجانب أن هناك بعض المستشرقين الذين زاروا المنطقة متنكّرين بزي الإسلام كالرحالة الفرنسي ليون روش، وذلك خلال قيامه برحلة إلى الحجاز 1841 - 1842، وقد أعطى نفسه اسماً إسلامياً وهو عمر بن عبدالله، وقد كان غرضه سياسياً صرفاً، حيث كان يرغب في مقابلة شريف مكة والحصول على موافقة على نصوص فتوى شرعية تجعل الجهاد ضد الفرنسيين في الجزائر محرماً وأنه من باب إلقاء النفس إلى التهلكة.
-
وإن المقاومة غير شرعية، وقد يكون بعضهم من أجل التجسس أو البحث أو لأي غرض كان، إلا أنه بعيدٌ عن الإسلام، ولم يغفل روش الذي جاء متنكراً عن إتمام عملية الحج ليبعد عنه الأنظار، لذا فقد وصف كل مكان مرّ عليه، وهذا يعطينا أن العملية ليست بعملية بحث، وإن كان لديه اهتمام بما يقوم به من حيث التدوين التاريخي والاطلاع على تراث الحضارة الإسلامية الكبير من اهتمامات أمثال هؤلاء. إلا أن هناك أحد المستشرقين وهو جون لويس بركهاردت المولود في مدينة لوزان في سويسرا عام 1199هـ، الذي كتب كتبه عن الجزيرة العربية ومنها عن المشاعر المقدسة وقد عده المستشرقون والعلماء الرائد الحقيقي الأول لحركة الكشوف في الأراضي المقدسة والقطر الحجازي، لأنه تعلم في لندن اللغة العربية والفلك والطب وعلوما أخرى. الجدير بالذكر أن بركهاردت نال هذه الثقة عند العلماء والمستشرقين رغم صغر سنه، حيث توفي سنة 1232هـ، ومع ذلك فإن رحلته هذه تعد مهمة، لأنها رصدت الكثير من المواقف والمشاهد، وكذلك رصدت الأوضاع الاقتصادية لمنطقة مهمة كالحجاز.
-
تدوين رحلات الحج ليس مقتصرا على المستشرقين فحسب! بل هناك كثير من المسلمين الذين دوّنوا وأسهموا في ذلك، فقد ذكرنا بعضها ونتطرق هنا إلى رحلة (غلام رسول مهر) وهو من شبه القارّة الهندية الباكستانية، التي كانت عام 1348هـ، وفي المجمل فإن رحلته وصفيّة ولا بأس في الإشارة إلى بعضها حول ما جرى في رحلته هذه، منها: استخدام العنف عند بعض الحجاج من النساء لغرض تحقيق ما يردنه من إتمام أعمال الحج، حيث لا يتورعن في الاندفاع جماعات ولا يراعين من أمامهن من الرجال، ورغم طول قامة وقوة (غلام رسول) إلا أنه لم يستطع أن يحمي نفسه من أولئك النسوة القويّات اللاتي حدّدَ جنسياتهن، أما الموقف الآخر فهو متعلق بركوب الحمير الذي يعتبر في الهند مذلّة، إلا أن الأمر وجدوه في الحجاز يختلف، فأكثر الدواب استعمالاً الحمير، وهي أقلُّ أجرة من الجمال، وقد تغير رأيه مع رفاقه الذين كانوا معه في استعمال الحمار لاستكمال أداء فريضة الحج، حيث كان استعمالها للتوجه إلى منى، ويصفه بالمنظر الرائع، لأنه لم يسبق لأحدهم أن خاض تجربة ركوب الحمار.
موقف آخر حصل لهم أثناء سكنهم في مكة، وهو أن بعض الصبية يقومون برمي قشور البطّيخ على الحجّاج، فنهروهم عن فعلتهم هذه وتوعدوهم بإبلاغ السلطان وهو الملك عبدالعزيز، ورغم توقف الصبية عن ذلك العمل المشين إلا أنهم لم يأبهوا بكلامه، فما كان منهم في اليوم التالي إلا أن قاموا بزيارة السلطان وسلّموه ملخصاً عما رأوه فسلموه ذلك، وأمر بعض حاشيته بجلب الصبية فعاقبهم على فعلتهم.
-
-
والرحلات المدوّنة عن الحج على كثرتها فيها الشيء الكثير، وقد كان لها الأثر العلمي البارز، حيث حصل بعضهم على إجازات خطّية، والبعض الآخر يتردد على مكتبات مكة المكرّمة، وآخرون يرصدون الحركة العلمية في هذه البقعة العلمية الكبيرة، وهذا مما يعزز الصلة العلمية بين علماء العالم الإسلامي الممتدة شرقاً من الصين والمنتهية غرباً إلى المغرب والجزائر، لذا فقد قام الباحث عاتق بن غيث البلادي بعملٍ ضخم ضم فيه تراجم مؤرخي مكة وجغرافيتها على مر العصور، حيث بلغ عددهم أكثر من 180 عَلَماً كتبوا عن مكة المكرمة نشره في مجلدين وسماه ''نشر الرياحين في تاريخ البلد الأمين'' وذلك عام 1414هـ، وقد كان لدارة الملك عبدالعزيز في الرياض الإسهام الفاعل في نشر تلك الآثار المتعلقة بتاريخ شبه الجزيرة العربية منها مكة المكرمة، فقد نشرت كتباً وبحوثاً كثيرة، منها كتابٌ للباحث أحمد السباعي بعنوان (تاريخ مكة.. دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران) في مجلدين ضخمين، وغيرها من الدراسات القيّمة والمهمّة.
المصدر : جريدة الرياض | الثلاثاء 9 ذو الحجة 1444هـ | إعداد - صلاح القرني
0 تعليقات