عبدالله باحمدين.. صائد الفرص التجارية

عبدالله محمد سالم باحمدين شخصية تجارية من أعيان مكة المكرمة الذين ساهمت تجارتهم بدفع عجلة النمو والتطوير في المنطقة أواسط القرن الماضي، بدأ باحمدين حياته عصامياً بعد وفاة والده، وهو في ريعان شبابه، فقد مارس العديد من الأنشطة التجارية والصناعية، والتي كانت تمثّل جزءًا هاماً في حياته، ومنها مصنع للنسيج لعمل الأحاريم والسجاجيد والمناشف، وافتتاحه لأول مصنع للثلج في مكة المكرمة وغيرها، وكان ذا همة وطموحات وبلاشك أنه صاحب فكر تجاري واستثماري وهذا ما سيتضح لك من خلال ترجمته وقراءة سيرته الشخصية فهو رجل أعمال نبيه ونهاز للفرص الاستثمارية، يجيد قراءة فرص الإنتاج وجدوى المشاريع، لذا تراه يبحث عن ما تفتقر إليه مكة المكرمة ومدينة جدة من خدمات وصناعات، فيشمّر عن ذراعه ويسعى لتحقيق العديد من أهدافه عبر تنوع أنشطته التجارية، ولذا فقد اختير ضمن أعضاء مجلس إدارة الغرفة التجارية الصناعية في دورتها التأسيسية 1368هـ.

والمتتبع لمسيرة عبدالله باحمدين يجد أنه يميل إلى الصناعة أكثر من التجارة والتصدير والاستيراد، وذلك لتشكيل وإرساء صناعات حديثة تتماشى مع متطلبات الناس واحتياجاتهم، وعدم الاعتماد الكلي على منتجات وصناعات خارجية، لاسيما أن المجتمع آنذاك كان مجتمعاً ناهضاً تتوفر فيه فرص العمل والاستثمار، كما أن باحمدين عاصر الحرب العالمية الثانية، ورأى أن تلك الحروب تؤثر سلباً على الاستيراد والتصدير والاقتصاد بوجه عام، وقد تجلى حبه للمجال الصناعي أنه أدهش المصنعين الأمريكان بفكره الاستثماري وتخطيطه السليم أثناء سفره إلى الولايات المتحدة.

تاجر عصامي يقضي جل وقته في متاجره ومصانعه وسيرته مضرب مثل في التفاني والعمل

البداية والتطلعات

ولد الشيخ عبدالله محمد سالم باحمدين بمكة عام 1329هـ، وتعلم بمدارسها العلوم الأساسية التي كانت تدرس آنذاك كالعلوم الشرعية والحساب واللغة العربية، ثم تعلم اللغة الإنجليزية على يد أساتذة من الهنود بمكة المكرمة، وكان المتحدثون باللغة الإنجليزية قلة آنذاك، كما يقول المؤرخ أحمد مغربي الذي وصف باحمدين بأنه كان قصير القامة ممتلئ الجسم أسمر اللون واسع الجبهة نظراته تشع ذكاء وفطنة، يضع على عينيه نظارة ذهبية ويرتدي العباءة العربية، وذكر أنه وأثناء دراسته كان يساعد والده بمتجره لبيع الأقمشة في «الجودرية»، ومن ثم توفي والده وهو شاب في مقتبل عمره، فقرر الابن أن يجمع شمل الأسرة، رغبةً منه في التعاضد والتلاحم بين أفراد الأسرة، والمحافظة على تجارتها، فعزم أن يبقى المتجر الذي أسسه والده مفتوحاً يعمل فيه الجميع، إلاّ أن إخوته رأوا أن يتم تقسيم الثروة وأن ينفرد كل منهم بعمله الخاص فتم ذلك، ولم يكن نصيب الشيخ باحمدين كافياً لتحقيق أهدافه وأحلامه الكبيرة، ويروي ذلك بقوله: «كنت قد اشتريت سيارة لاستعمالي الشخصي وكانت السيارة تحتاج إلى مصاريف للوقود فتركتها مخزونة بضعة أشهر ولم أكن قادراً على توفير ما يلزم لها من مصروفات»، ولذا فقد عمل في المتجر الذي أسسه لنفسه، وأخذ يواصل عمل والده في استيراد الأقمشة، ولكنه كان يفكر في أعمال أخرى تتماشى مع تطلعاته المستقبلية.

مصنع الثلج

كان مصنع الثلج أول مبادرات الشيخ باحمدين التجارية، وكانت مكة المكرمة تفتقر إلى مصانع الثلج، ولم يكن هناك سوى مصنع يديره رجل سوري اسمه الحاج وسيم، ودخل مع الشيخ باحمدين في شراكة من خلال تمويله بالمال، إلاّ أن الشيخ باحمدين غير راض عن إنتاج المصنع، فاستقل لوحده وافتتح مصنعاً خاصاً به خدمة لأهل مكة، خصوصاً وأن الجو شديد الحرارة ويستمر لأكثر من سبعة شهور، ولم تكن هناك مولدات كهرباء ولا ثلاجات، فكانت الحاجة للثلج مستمرة، ويزداد عليه الطلب في موسم الحج، حيث يكتظ حجاج بيت الله، ويأتون من كل فج عميق، ففكر في طريقة يوفر فيها الثلج لأهل مكة وزوار بيت الله الحرام، فاستورد مصنعاً كبيراً للثلج، واختار له مكاناً مناسباً في منطقة "المعلاة"، وكان رحمه الله يشرف إشرافاً تاماً على تركيب المصنع الذي تم بواسطة فنيين محليين، كما استطاع التغلب على المشاكل الفنية التي واجهته في استيراد المصنع ونقله إلى مكة، وشارك في تذليل كافة الصعاب التي تعترض هذا المشروع العملاق، وبهذا قفز بتجارته، كما وفّر الماء البارد والثلج للأهالي والحجيج والمعتمرين بعد أن كانوا يعانون أشد المعاناة من عدم وجود مياه باردة للشرب.

تحقيق الطموح

وتميز الشيخ عبدالله باحمدين رحمه الله بمبادراته الاستثمارية فهو صاحب فكر تجاري لاسيما أنه يدرس جدوى مشاريعة قبل تنفيذها وقد ساعدته الظروف والمجتمع الناهض آنذاك في تحقيق كثير من طموحاته رغم المصاعب التي يواجهها، فهو حين رأى أن بلاده تفتقر إلى الكثير من الخدمات الجديدة واللازمة وخاصة ما يتعلق بالصناعة، وإن إمكانياته المالية لم تكن تساعده لتحقيق كل ما يصبو إليه، لم يكتف بمصنع الثلج الكبير، فقد كان عضواً في الشركة العربية للتوفير والاقتصاد بمكة المكرمة، ثم أصبح رئيساً لمجلس إدارة الشركة، ثم عهد إليه إدارة أعمالها، فوجدها فرصة لتطوير الشركة واتساع إنتاجها ونشاطها، فقام بشراء باخرتين صغيرتين للشركة وأخذ يسيرهما بين موانئ البحر الأحمر، وخاصة بين موانئ جدة والحديدة، مستخدماً جهده وتفكيره في إنجاح هذا العمل، وقد أشاد الشيخ عبدالله السليمان رحمه الله وزير المالية آنذاك بهذا العمل الجبار، كما شجعه للاستمرار فيه، ثم أن الشيخ باحمدين افتتح فرعا آخر للشركة في جدة لمواجهة أعمال البواخر والإشراف عليها.

وفرة الإنتاج

وإبان الحرب العالمية الثانية، قام الشيخ عبدالله باحمدين بإدخال تحسينات على مصنع النسيج التابع لشركة التوفير والاقتصاد، حيث كان عبارة عن مصنع يدوي يعمل فيه شباب سعوديين على الطريقة القديمة -يدوياً- وينتجون بعض الأقمشة، ويذكر مغربي أنه أدخل تلك التحسينات بعد زيارته لمصر يرافقه محمد علي مغربي، وكانا في ضيافة الشيخ محمد سرور الصبان رحمه الله بداره في مصر الجديدة، ونسّق الصبان بينهما وبين أحد كبار ملاك مصانع الغزل الذهبية، فقررا زيارة المصنع واطلعا على سير العمل والآلات الميكانيكية التي تنتج الأقمشة المتنوعة، وعقد العزم رحمه الله الاستفادة من التجربة المصرية في صناعة الغزل والنسيج، فقام بتحديث المصنع بالآلات الجديدة والتقنية المتوفرة آنذاك، واستبدال الطريقة التقليدية البطيئة، مما زاد في وفرة الإنتاج والإقبال على مصنع النسيج.

صناعات تحويلية

وكانت جريدة صوت الحجاز تطبع في الشركة العربية للطباعة والنشر، وكان بمستودع الشركة كميات كبيرة من الورق المتين على اختلاف أنواعه صمم لطباعة كتب مدرسية إلاّ إن الشركة توقفت عن الطباعة فبقيت الكميات مكدسة في مستودعاتها، وتعرضت الشركة للخسائر بسبب تبعات الحرب العالمية الثانية التي أثرت على كل شيء، وهزّت الاقتصاد العالمي برمته، وما أن علم باحمدين بالأمر حتى اطلع على قائمة البضائع الموجودة في المستودع وأبدى استعداده لشرائها ودفع فيها مبلغ يعادل أربعة أضعاف قيمتها، دعماً منه للشركة العربية للطباعة والنشر، واستغرب الناس من شراء الشيخ باحمدين لهذه الكميات الكبيرة، وفاجأ باحمدين الكل بفكره النير، حيث قام بتدوير هذه الكميات إلى صناعات تحويلية، فقد فقام بقص الورق وتقسيمه إلى ملفات لحفظ الأوراق، وهي ما تسمى بـ"الدوسيهات"، والتي كانت تستورد من الخارج وكانت معدومة في الأسواق تماماً، وطبع على هذه الملفات عبارة "الحافظة العربية"، وأحضر إلى المطبعة بعض المهنيين من أبناء الوطن، وأطلعهم على نوعية الحديد الذي كان يمسك بالأوراق، فقام "السماكرة" بصناعة هذه النوعية، وخرجت الحافظة ملفاً كاملاً، وقد اشترت وزارة المالية كل ما أنتجه باحمدين من هذه الملفات لأن الدوائر الحكومية كانت تفتقر إليها.

ويذكر أن باحمدين -رحمه الله- من أوائل الناس الذين قاموا باستيراد المكائن الزراعية ومكائن الإنارة -المجموعات الكهربائية- في مكة، حيث ساهمت تجارته في تسهيل على الناس إنارة بيوتهم ومحلاتهم وما يتبع هذه الإنارة من تهوية وتبريد، بعد أن كانوا يعانون أشد المعاناة للحصول على إنارة لمحلاتهم التجارية، إذ كانت الإنارة الكهربائية مقتصرة على السفارات، ولم يكن في مدينة جدة مكائن كهربائية، إلاّ في بعض المرافق الحكومية وبعض المنازل القصور، فساهمت تجارته في التوسع بمولدات وشبكات الطاقة الكهربائية.

نمط فريد

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، قام الشيخ عبدالله باحمدين رحمه الله بزيارته الأولى إلى أمريكا، حيث كان مهتماً باستيراد قطع الغيار، ولكنه لم يكن يتصل بالبائعين، وإنما يحاول الوصول إلى المصنّعين الذين يموّنون البائعين بصناعاتهم، فالتقى بعدد من أصحاب المصانع وأصحاب القرار فيها، وتذكر الروايات أنهم تعجبوا منه حتى قال له أحدهم: "إنك نمط فريد من الرجال الذين يزورون البلاد من الشرق الأوسط أحدثك عن البيع فتحدثني عن الصنع"، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، أتيح للشيخ باحمدين رحمه الله أن يحقق بعض طموحاته، ويذكر المؤرخ المغربي أنه حصل على أرض كبيرة خارج مكة المكرمة، وأنشأ عليها مصانع باحمدين، ومن ثم قامت الدولة بشراء الأرض من باحمدين لإقامة مبنى للمؤتمرات الدولية، ولكنه تحول بعد ذلك إلى "فندق انتركونتينتال"، وقد شكلت هذه الأرض النواة الأولى لمصانع الشيخ باحمدين، حيث أنشأ عليها مصنعاً كبيرا للثلج، وآخر للنجارة، وورشة ميكانيكية، أمّا عمله العقاري فقد بدأت انطلاقته الأولى للدخول في مجال العقار من خلال شراء أرض في مدخل مكة المكرمة، وإقامة فيلات صغيرة عليها ثم بيعها، كما أنشأ فيلا بمدخل مكة المكرمة اشتراها فيما بعد ضياء الدين رجب رحمه الله من ورثته، كما أسس فيلا أخرى أمام المصانع، وقد بيعت لأحد المواطنين حين بيع المصانع الأولى.

وفـاته

توفي عبدالله باحمدين رحمه الله في التاسع من شهر رمضان المبارك 1369هـ، وفي بداية مرضه شعر بوعكة في صحته فلم يستسلم للراحة، واستدعى الطبيب وظن أنه عارض صحي وسيزول، ثم ذهب للمسجد الحرام للإفطار هناك وصلاة المغرب جماعة، حيث اعتاد ذلك في كل عام، ثم طاف بالبيت وصلى المغرب، وعاد إلى داره وشعر بأعراض المرض، فداهمته نوبة قلبية شديدة الوطأة، وارتحل من الدنيا وهو في عنفوان رجولته، إذ كان عمره حوالي الأربعين عاماً، ودفن بمقرة المعلاة، وظلت الصحافة تنشر للكتاب من أصدقائه مرثياتهم له وذكرياتهم عنه، وبقيت سيرته مضرباً للتفان والعصامية، فقد كان لا يبرح مصانعه إلاّ بوقت متأخر من الليل ويتناول وجبات الغداء والعشاء فيها، ويقضي –بشهادة معاصرية- كل نهاره في مكتبه ومتجره وفي مصانعه وفي الشركة العربية للتوفير والاقتصاد، ولك حينذاك أن تتمعن في حياته التي لم تتجاوز الأربعين عاماً، وتتساءل كيف استطاع وهو في هذه المرحلة من العمر أن يقوم بجميع هذه الأعمال والاستثمارات التجارية التي ساهم من خلالها بدعم الخدمات التي تحتاجها البلدات والمجتمع على حد سواء، رحمه الله رحمة واسعة.

المصدر : صحيفة الرياض  | الجمعة 28 ذو الحجة 1437 هـ - 30 سبتمبر 2016م / اعداد : منصور العساف