عبد الوهاب أبو سليمان ... الفقيه الحضاريّ والمؤرخ الأديب

عبد الوهاب أبو سليمان ... الفقيه الحضاريّ والمؤرخ الأديب
"مهداة إلى أديب الحجاز الأستاذ حسين بن محمد بافقيه"
د. علي زين العابدين الحسيني
 
في الأيام الصامتة التي تعقب رحيل العقول العظيمة يتجدد الأمل بمواصلة السير نحو تحقيق آفاق الفهم والعلم، فرحيل العظماء ليس نهاية الطريق، بل هو البداية لفصول جديدة من قصص البحث والاستكشاف لإيجاد عقول نيرة تحمل تلك الأفكار الجليلة التي تعيد للعلوم الشرعية هيبتها!
وهكذا تظلّ الأسماء العظيمة محفورة في قلوب طلاب المعارف كنجوم لا تغيب، نحاول تسجيل بعض الذكريات ورصد بعض الأفعال، لنكون قصة عن رحلة العطاء، ونجلّ إرثاً أنار دروب التعليم. لقد رحلَ عالم تاريخه مطوِّي في صفحات الزمن، كانت سماحته تمتد لتلمس حدود المخالفين، وعقله ينسج فهمًا متفردًا لأسرار الكتب العميقة والحياة الفقهية المعاصرة، فرثاءً للفقيه الذي زرع بذور التجديد الفقهي وسقاه بجهده.
 
إنّ أبلغ ما أثر في نفسي من حياة " عبد الوهاب أبو سليمان" هي هذه الشخصية العصامية، فهو أحد فقهاء العصر الذين لم يقم مجدهم الفقهي على الظروف والحظ! وهو من الشخصيات التي تشعر حين تتصل بها بوهج العبقرية، ودقة الفهم، وسيلان الذهن، وقوة الحافظة، وحدة النظر، ويعدّ واحداً من عباقرة علماء الشريعة المعاصرين!
هو الأستاذ الحجة الثقة، المؤرخ الباحث، والأديب الفقيه، نادرة جيله وأعجوبة زمانه، علم مكة الباذخ وطود فضلها الشامخ، الدكتور عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد أبو سليمان المكي المالكي، ترجع أصوله إلى مصر، فقد حدثني الشيخ البركة محمد علي يماني في بيته بمكة سنة 1439 أن شيخنا عبد الوهاب من بيت الخطيب بمصر من الفيوم، وأن جده "أبا سليمان" هو أول من أتى إلى الحجاز واستقرّ بها، ووالدته من بيت الفيومي بمصر أيضاً.  إنها روحانية المكان والزمان التي تضفي الألسنة أصواتاً حقيقية تستمد قوتها من قلب مكة، وتنسج قصة تواصل حضاري بين أفراد الأمة.
 
ولد الفقيد بمكة المكرمة سنة 1356، ونشأ في قلة من العيش، فقرأ القرآن الكريم وجوده، وتعلم القراءة والكتابة في دار الأيتام بمكة المكرمة وتخرج فيها سنة 1369، ثم التحق بالمعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة، وتخرج فيه عام 1373، وقد درج منذ نشأته على حب العلم وأهله، وعرف منذ صغره بنجابته وذكائه وقوة ذاكرته، تلقى علومه بالمسجد الحرام على صفوة علماء عصره، فقرأ على العلامة السيد علوي بن عباس المالكي (ت1391)، والسيد محمد العربي التباني (1390)، والسيد محمد أمين كتبي (ت1404)، والشيخ محمد نور بن سيف المهيري المالكي (ت1403)، والسيد إسحاق بن عقيل عزوز الحسني (ت1415)، ووالد زوجه الشيخ محمد طاهر كردي الخطاط والمؤرخ المشهور (ت1400)، وواصل دراسته الجامعية بكلية الشريعة بمكة المكرمة، وتخرج فيها عام 1377، وتلقى فيها عن الشيخ عبد الله عبد الغني خياط (ت1415) ودرس على الشيخ محمد متولي الشعراوي (ت1419) في البلاغة والعروض، ثم تخصص في علمي "الفقه وأصول الفقه" ونبغ فيهما نبوغاً عظيماً، وأنتج فيهما مصنفات قيمة تدل على سعة اطلاعه ووفرة علمه حتى شهد له بالتفرد أكابر علماء العصر، وأعجب بفضله وعلمه وإخلاصه كلّ من صحبه أو عرفه.
 
ومن دأبه مع مشايخه قراءة الكتب المتداولة مراراً، وكثرة الأسئلة والمناقشات التي أورثته فيما بعد قوة على تحليل المسائل العلمية، ومناقشتها بطريقة صحيحة حتى يصل إلى نتائج، وهذه الجدية والتفرغ للدروس في هذا الوقت المبكر من عمره قد وهبه الله بفضلها ملكة عظيمة وذكاء مفرطاً في اختيار موضوعات جديدة مبتكرة في البحث والتصنيف فيما بعد، وأسأله عز وجل ألا يقلل حظي مما وهب له فأجزل.
 
وكان أبو سليمان منذ أدرك مطبوعاً على اليتم، فقد مات والده باكراً وهو في سن الخامسة من عمره، ومهما كبر الشخص وهو يتيم الأب فإن شيئاً من الأسى يظهر على وجهه لا سيما إذا تجدد ذكر الآباء، لكن جلساء أبي سليمان -وأنا منهم- كنا نلحظ على وجهه لوناً من الرضا، وقد أرجعته إلى حضور أساتذته ومشايخه في حياته، وفوق ذلك كان دور والدته الرؤوم؛ فقد تجرع من حنانها ما سدّ ثغراته العاطفية، وكأن الله عوضه بوالدته وأساتذته عن أبيه.
 
وصحب العلامة الفقيه القاضي حسن بن محمد المشاط المالكي (ت1399) واختص به، فقرأ عليه كثيراً من المتون في فنون عديدة حتى تخرج عليه، وكان يلازم دروسه في الحرم المكي وبيته ملازمة امتدت سبع سنوات، يكاد لا يفارقه نهاراً ولا ليلًا، ويكتب عنه كل ما يسمعه من تحقيق وفوائد وفرائد، ثم يستظهر ذلك، ودرس عليه مختصرات الفنون ومطولاتها؛ كالفقه وأصوله، والحديث وعلومه، وعلوم اللغة العربية، والمنطق، فأكمل عليه كتباً عظيمة في المنقول والمعقول، والفروع والأصول، وغيب عليه غالب المتون المتداولة في التدريس، ولم تمض إلا أعوام يسيرة حتى شملته بركته، وبسبب اجتهاده في التحصيل فاق أقرانه وأخدانه، وأدرك ما لم يدركه غيره.
 
وقد أجازه شيخه المشاط بجميع العلوم من منطوق ومفهوم، وأقرّ بذكائه وسعة علمه، وانتفع بشيخه في دينه وخلقه فوق انتفاعه بعلمه، فتخلق بأخلاقه العلية، وسار على طريقته المحمودة، وسلك محامد سيره، وأجازه أيضاً من العلماء والمشايخ العظام صهره الشيخ المؤرخ محمد طاهر كردي الخطاط (ت1400)، والشيخ العارف بالله سلامة هندي العزامي القضاعي الشافعي (ت1376)، والشيخ المسند محمد ياسين عيسى الفاداني (ت1410)، وتدبج مع الشيخ المحدث عبد الفتاح أبو غدة الخالدي الحلبي (ت1417)، والشيخ عبد المالك عبد القادر بن علي الشهير بالطرابلسي (ت1417).
 
ويصف عبد الوهاب أبو سليمان شيخه حسن المشاط كما في مقدمة تحقيقه لكتاب (الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة) بقوله: "كان رحمه الله مثال العلماء العاملين، ونموذج القدوة الحسنة، فيه عزة العلماء، وإباء الأتقياء، لا يتزلف أصحاب المناصب زائراً أو مزوراً، يؤثر الطلاب والمستفيدين في مجلسه وحديثه على من عداهم، وكان يغرس هذه الروح في طلابه وجلسائه ... جم التواضع، رقيق الحاشية، متبسطاً مع تلاميذه ومعارفه، لا يأنف أن يمازحهم، ويداعب صغارهم بما يزيدهم تعلقاً به، فكان يروي أرواحهم بحاله ومقاله".
 
ورث أبو سليمان إرث المشاط، والليث كما قيل: لا يرثه إلا شبله، والعظيم لا يخلف إلا مثله، فارتبط الطالب المجد بالأستاذ الجليل، ونتج عن ذلك تلك الصلة العلمية المتمثلة في المصنفات والبحوث والمقالات بين حاضر ناشئ وماض منشئ، وستبقى مدرسة المشاط وتلاميذه معبرة عن الحركة التعليمية بالحجاز!
كان أستاذي المرحوم عبد الوهاب راسخ القدم في العلوم النقلية والعقلية، آخذاً بحظٍ وافرٍ في علم أصول الفقه، بارعاً في اللغة العربية بفنونها، ذا إلمام كاملٍ بالإنجليزية، يحاضر بها، ويكتب الأبحاث العلمية، ويترجم عنها، وقوراً، كثير الصمت، لا ينطق العوراء، صوفيّ المشرب، لا يحيد عن الشرع قيد شعرة، حاضر الجواب في كلّ مسألة يسأل عنها، وإن كانت من دقائق العلم، آية في حسن المجالسة، عظيم القدر، محمود السيرة، محبوب العشرة، مهيباً أينما قام أو توجه، سديد الرأي، يرجع إليه في حل المشكلات، إذا زاره طالب من الأفاقيين تعلق به وكره مفارقة مجلسه، رحيم القلب رقيقه، سخي اليد كريمها، كثير التواضع، مخفوض الجانب.
 
وكان جلّ فقهاء البلاد وطلاب العلم من شتى أنحاء الدنيا يقصدونه في بيته لا سيما في أيام الحج والعمرة؛ فينزلهم على الرحب والسعة، ويقبل عليهم بكرم لطائفه، وفوائده المستحسنة، وكتبه المهداة، ويؤنس كل شخص بحديث يخصه، وأما بيته في مواسم الطاعة فهو مجمع الفقهاء، ومحط رحال الفضلاء.
 
كان أول اجتماعي به في بيته بمكة المكرمة في أيام منى سنة 1432 وأنا مقبل على الفقه وأهله، وكنت قبلها أسمع به كثيراً، وأشتاق إلى رؤيته، فلما اجتمعت به رأيت زيادة على فقهه وعلمه أنّه عالم جليل خفيف الروح، حلو النادرة، طيب المعشر، شهيّ الحديث، يتقن علوماً كثيرة مع ورع شديد، وزهد صحيح، وعلو نفس، وجودة عقلٍ، وحسن رأي، وسرعة خاطر، وبعد عن الرياء، وتواضع مع كل الطلبة، خاصة الغرباء منهم، وتعلقٍ بالكمالات، وتأدبٍ بآداب الشرع، يؤثر راحة باله، فلا يحب الدخول فيما لا يعنيه، ويكاد جالسه يلحظ أنه تخرج من عينيه النباهة والنجابة، وقد ظلّ لآخر المجلس يحدثني عن دروس الحرمين ومشايخه، ويذكر لي من النوادر عن أساتذته الشيء الكثير، وأنا أسجل كل ما يمليه عليّ.
 
وأبو سليمان لسان الحجاز الصادق النابع من عمق التاريخ وروح المكان، وصوت مكة الحقيقي الحامل إرثها الثقافي والحضاري، ينقل نهضتها العلمية، ويترجم لمشايخها، ويعيد ذكر مدارسها، ويصور المجتمع الحجازي بكلّ تفاصيله، ينسج كلماته كقطعة من القلب تتدفق بوضوح وشفافية، ويحكي في أحاديثه قصصاً قديمة وأملًا جديداً، ولكثرة معرفته بمكة وشيوخها ومدارسها وحلقاتها العلمية كان يأتي في كتبه بالنوادر عنها، فله اليد الطولى في تاريخها؛ يبرز الخفي من تاريخها، ويترجم لعلمائها بأفخم عبارات التبجيل والتعظيم، وله في تاريخها: الحرم الشريف الجامع والجامعة، والمقدمة التاريخية للنهضة الفقهية في مكة المكرمة في القرن الرابع عشر الهجري، والحرمان الشريفان وجامع الزيتونة، ومكتبة مكة المكرمة (المولد النبوي الشريف) مجموعاتها وأدواتها، والعلماء والأدباء والوراقون في الحجاز في القرن الرابع عشر الهجري، وباب السلام ودور مكتباته في النهضة العلمية والأدبية الحديثة، وغير ذلك.
 
كما كان أعظم ولعاً بالآثار الإسلامية، وإحياء الأماكن المندرسة، والبحث عن أماكنها وأوقافها، والكتابة عنها في مؤلفاته الكثيرة؛ حتى أحيا الله على يديه جملة منها، وعرّف الخاصة والعامة بأهميتها بعد أن كانت في طيّ النسيان، وخدمها خدمة تذكر فتشكر، إلّا أن ذلك لم يرق لبعض المنتسبين للعلم؛ فانطلقت ألسنتهم تحاصره وتشنع عليه صنيعه في الصحف والمجلات، وكان الأولى شكره وتكريمه تكريماً يليق به، فقد أظهر صورة نيرة عن مكة المكرمة تليق بمجدها وعظمتها.
هو لسان التضرع والإيمان، ينطلق من مكة كمياه زمزم النقية المنعشة، ويتردد في الأفق كصدى للطائفين الذين يطوفون حول الكعبة، طيّب الله ثرى الأستاذ وأجزل مثوبته!
 
تقلّد المناصب العالية؛ كعضوية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، ولجنة خبراء الموسوعة الفقهية الاقتصادية بمجمع الفقه لإسلامي الدولي، ومجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي لعدة سنوات، ومركز البحث العلمي والتراث الإسلامي بجامعة أم القرى، والهيئة الشرعية العالمية للزكاة بدولة الكويت، ولجنة اختيار الفائزين لجائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية لعدة دورات، ولجنة المستشارين لموسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة بمؤسسة الفرقان اللندنية، ولجنة التسمية والترقيم لشوارع مكة المكرمة لعدة سنوات، والمجلس الاستشاري لمشروع الفقه المالكي بالدليل بدبي لعدة سنوات.
 
وتدّرج في السلك الأكاديميّ بالجامعة حتى ارتقى إلى عمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز، والأستاذية في الفقه والأصول بكلية الشريعة بجامعة أم القرى، وقد بدأ حياته العملية -كما في سيرته الذاتية المختصرة التي كتبها- مدرساً بمدرسة الزاهر المتوسطة بمكة عام 1378، ثم مدرسا بالمدرسة العزيزية الثانوية بمكة المكرمة عام 1382، إلى أن صدر الأمر بتعيينه معيداً بكلية الشريعة سنة 1384، وبعد التحاقه بالجامعة ابتعث إلى "جامعة لندن" للدراسات العليا عام 1385 لإكمال الدراسة، فحصل على درجة الماجستير بتطوير بحث من البحوث العلمية ذات العلاقة بموضوع الدكتوراه كحال بعض الجامعات الغربية، إلى أن حصل على درجة الدكتوراه مع توصية بطبع الرسالة في شوال سنة 1390، وبعد تخرجه عين أستاذاً مساعداً بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز، ثم أستاذاً مشاركاً بقسم الدراسات العليا الشرعية سنة 1398، إلى أن رقي إلى درجة أستاذ في الفقه والأصول بكلية الشريعة بجامعة أم القرى سنة 1403.
 
لقد مضى في تدريس العلوم، وتثقيف الدارسين عليه، وإرشاد طلاب المعرفة إلى ما ينفعهم ويفيدهم في حياتهم البحثية أكثر من ستين سنة!
لم يقتصر أستاذنا المرحوم على دراسته الشرعية ولكنّه صال وجال في التخصصات الأخرى، وطار وحلق في ضروب المعرفة، فحصل على دبلوم التربية للمعلمين من الجامعة الأمريكية ببيروت، وحصل على دبلوم في القانون الإنجليزي والدراسات الحقوقية أثناء تحضيره للدكتوراه من كلية مدينة لندن، فإذا ما أضيف إلى هذا التنوع المعرفي، والتعدد الثقافي تركيزه منذ صغره على الجوانب السلوكية والتهذيبية، وربطه الجانب المعرفي بالجانب الروحي فحينها سندرك تمام الإدراك أننا أمام رجل من طراز فريد في تكوينه العلميّ والثقافيّ، وفي نشأته التربوية والسلوكية.
 
وكانت له صلات معرفية واسعة الأطراف بجهات متعددة في الغرب والشرق، فقد انتدب كأستاذ زائر في كل من جامعة "ديوك" الأمريكية، والجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا لعدة سنوات، وكلية الحقوق بجامعة "هارفارد"، وعمل كأستاذ زائر بالإمارات في كلية "الدراسات العربية الإسلامية" بدبي، وجامعة "الشيخ زايد" بأبو ظبي، ودار الإفتاء بسلطنة عمان، وجامعة مفيد بإيران، وجامعة العين، ومركز "جمعة الماجد" للبحوث والدراسات الإسلامية، وله أصحاب وطلاب ببعض هذه النواحي.
 
ومثّل المملكة العربية السعودية في عدة مناسبات خارجية؛ كحلقة دراسات القانون الدولي المنعقدة في جنيف، وشارك في عشرات الندوات والورش التدريبية والملتقيات الثقافية والمؤتمرات داخلياً وخارجياً، وتم تكريمه في عدة محافل عربية ودولية، وتم اختياره الشخصية الثقافية للمهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية»، وحصل على جائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الإسلامية عام 1435، وحصل كتابه (باب السلام في المسجد الحرام ودور مكتباته في النهضة العلمية والأدبية الحديثة) على جائزة (كتاب العام) عام 1429، ومنح الميدالية التقديرية للجامعة من الدرجة الأولى تقديراً للأعمال الميدانية التي أداها خلال عمادته بكلية الشريعة، وعدة ميداليات من جامعات سعودية وخارجها تقديراً لجهوده العلمية.
 
كان أستاذنا العلامة عبد الوهّاب أبو سليمان بخيلًا في الثناء على أحد في علمه أو فقهه حتى يستيقن في سويداء قلبه استحقاق الرجل لشهادته. لا ينكر الفضل لأهله، وإنما لم يكن ممن يجزلون الألقاب أو الأوصاف على من ليس أهلًا لها.
 
ولئن كانت الظروف لم تسمح لي بدخول مكتبته القيمة إلّا أن في مظهرها الخارجي وحده -من خلال الكتب التي شاهدتها في مجلسه العامر- ما يكفي لتصور ما تحتويه مكتبته من نفائس المطبوعات.
 
لم يخل الرجل من أقوال بعض أدعياء الانتقاد، وهكذا كل عالم نابغة متعدد المواهب، على أن أبشع ما سمعته تلك القولة الشنيعة التي تترد على ألسنة بعض المتفيقهين، وهو أنّه "رجل حليق" وهي-في نظري- تنطوي على جهل شديد وحقد دفين، يبددها جهوده العظيمة في خدمة الشريعة الإسلامية، وأعماله الجليلة في البحث العلمي والعمل الأكاديمي، ثم إنها ليست ذات أهمية لنطيل النظر في الرد عليها، ونبين مذاهب العلماء واختلافهم في أمر اللحية، فهي أمام ما سبق ذكره من حياته العامرة المليئة بالإنجازات لا تمثل شيئاً.
 
كان أستاذنا المرحوم قارئاً نهماً، وهذا قد يشاركه معه كثيرون إلا أنّه يتفوق عليهم في كونه من أولئك الكبار الذين يحسنون الانتفاع بما يقرأون، والواقع أنّ مفتاح شخصية "عبد الوهاب أبو سليمان" يكمن في تعلقه بالبحث العلمي والموسوعية الشاملة، وله في كلّ علم اتصال، وفي كلّ كتاب من الكتب التراثية ارتباط.
وقد بارك الله في حياة أستاذنا عبد الوهاب فأنتج إنتاجاً علمياً في مختلف الفنون، فكان مجيداً في كتابة الأبحاث العلمية، متقناً لصياغة مؤلفات جديدة بلغة عصرية تتوكّأ على الكتب التراثية، فترك من المؤلفات القيمة: تحقيق مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ودراستها، وترتيب موضوعات الفقه الإسلامي ومناسباته في المذاهب الأربعة، ومنهجية الإمام محمد بن إدريس الشافعي في الفقه والأصول: تأصيل وتحليل، وفقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة: آفاق وأبعاد، والفكر الأصولي: دراسة تحليلية نقدية، والضرورة والحاجة وأثرها في التشريع الإسلامي، وغيرها.
 
وله دراسات خاصة بمناسك الحج؛ كمواقيت الحج الزمانية والمكانية: دراسة فقهية جغرافية تاريخية، وعرفات المشعر والشعيرة: دراسة فقهية جغرافية حضارية، والمزدلفة المشعر والشعيرة: دراسة فقهية جغرافية حضارية، ومنى المشعر والشعيرة: دراسة فقهية جغرافية حضارية، والمسجد الحرام والمسعى المشعر والشعيرة: دراسة فقهية جغرافية حضارية، وتحفة الناسك بأحكام المناسك: إضافات وتعقيبات.
 
وله بحوث في قضايا الزكاة المعاصرة وعقود المعاملات المعاصرة؛ كأداء الزكاة وحسابها الاقتصادي وتطبيقها بالمملكة العربية السعودية، وزكاة الديون الاستثمارية والإسكانية المؤجلة، وزكاة المال الحرام، وعقد التوريد: دراسة فقهية تحليلية، وعقد الاختيارات: دراسة فقهية تحليلية، وعقد المزايدة في الشريعة الإسلامية، وخيار الشرط نظريًا وتطبيقًا في المعاملات المصرفية.
 
وانفرد برسائله في المسائل الفقهية المعاصرة التي تدلّ على عقل راجح، وفكر مستقيم، وقوة نظر، وسيلان قلم، وتكامل معرفي منقطع النظير، ولأجل ذلك كان المرحوم من الأفراد الذين يعول عليهم في أخذ الرأي والمشورة، وحل المشكلات في المسائل العويصة؛ كمسألة توسعة المسعى المعروفة منذ سنوات قليلة، حيث ظهرت أصوات معارضة لهذا الأمر، فألف أستاذنا كتابه الشهير "توسعة المسعى عزيمة لا رخصة: دراسة فقهية-تاريخية-بيئية-جيولوجية" الذي أكد فيه بالدلائل أن النصوص الفقهية، والحقائق التاريخية، والنتائج الجيولوجية تؤكد أنه لا مانع من توسعة المسعى من الناحية الشرقية للمسجد الحرام مع شهادة أهل الخبرة والثقافة من كبار رجال مكة المكرمة الذين عاشوا في المنطقة المحيطة بالحرم المكي، وأن هذا ليس من قبيل الترخيص، فالتوسعة التي جري تنفيذها على أرض المسعى لا تعد حينئذٍ خروجاً عن حد المسعى المقررة شرعاً، بل لا تزال داخل حدود جبلي الصفا والمروة.
 
ولئن ينس الناس من حياة العلامة الجليل كلّ شيء فلن ينسوا كتبه في البحث العلمي ومناهجه، وهي كفيلة في إظهار عظمة رجال لا عظمة رجل واحد، ومن أجلّ مصنفاته: منهجية الإمام الشافعي في الفقه وأصوله، ومنهج البحث في الفقه الإسلامي خصائصه ونقائصه، وكتابة البحث العلمي صياغة جديدة، وكتابة البحث العلمي ومناهجه، وكتابة البحث العلمي ومصادر الدراسات القرآنية والسنة النبوية والعقيدة الإسلامية، وكتابة البحث العلمي ومصادر الدراسات العربية والتاريخية، والدليل إلى كتابة البحوث الجامعية ورسائل الدكتوراه، وغيرها.
 
لم ينقطع عن الإفادة العامة إلا قبل وفاته ببضع سنين لمرض أصابه من الكبر فأضعف حركته، وكانت وفاته صباح اليوم الاثنين، 26 رمضان 1444، يوافقه 17 إبريل 2023م عن عمر ناهز الثامنة والثمانين عاماً، وأطلق طلابه ومحبوه الكتابة على سائر وسائل الاتصال الحديثة والمواقع الإخبارية في السعودية والوطن العربي للإنباء بوفاته، واجتمع لتشييع جنازته الكثير من صفوف الناس بالحرم المكي الشريف ظهراً، فحضر جنازته جمع لا يحصون عدداً، ودفن في مقابر جنة المعلاة.
 
رحم الله الأستاذ وأكرم مثواه جزاء وِفاقاً.
أقول: يعلو قلبي بالأسى للقصور في ترجمة هذا الفقيه الحضاري الغني بالمعارف والأعمال الريادية؛ لأنّ تناول جوانب شخصيته وفهم أبعاد حياته يعد تحدياً كبيراً قد لا يسمح وقتي الحالي بالغوص العميق في غناه!
تظل شخصية عبد الوهاب أبو سليمان متنوعة ومعقدة، وتظلّ قراءة أعماله بعمق مفتاحاً للوصول إلى أغواره، وقد تكون هذه الكتابة مجرد نقطة بداية، فيكون الوقت الذي ينتظرنا في المستقبل متاحاً لتوسيع الأفق حول شخصيته وتعميق الفهم لتراثه المعرفي، ولعل الأيام تحمل لنا فرصاً جديدة لفهم أعماق هذا العالم الكبير وترجمة مشاريعه وأعماله إلى واقع حضاري، ويبقى الاتصال المباشر بالشخصيات الرائدة هو السعي المستمر لفهمها بطرق تتجاوز الحدود التقليدية، وهو الآلة الوحيدة لاستكشاف هؤلاء الروّاد بعمق أكبر وفهم أكثر عمقاً.
[مجلة النيل والفرات، عدد: ٥٧]